الخط السياسي لجماعة العدل والإحسان بين الثابت والمتغير –الجزء الثاني-

Cover Image for الخط السياسي لجماعة العدل والإحسان بين الثابت والمتغير –الجزء الثاني-
نشر بتاريخ

المحور الثالث: مداخل التغيير السياسي عند جماعة العدل والإحسان

1- في الحكم: نظرية الخلافة

كثير ممن ينتمون لمدرسة الترهات والبهتان، يلفقون تصورات خاطئة عن العدل والإحسان، من بينها أن الجماعة حاليا تعيش مرحلة أخرى، ميزتها الأساسية، أنها قطعت مع مجموعة من المفاهيم المهيكلة لمشروعها الفكري، وللأسف أن هؤلاء الأقلام تقدم نفسها بصفة الباحث والمفكر… وما هي إلا أسماء سميتموها، يتكلمون باسم العدل والإحسان يؤطرونها ويخندقونها ويفهمونها انطلاقا مما في جعبتهم، التي لا تغني ولا تسمن من جوع.

إن فكر الجماعة ومشروعها المجتمعي بصفة عامة، والسياسي بصفة خاصة، لا يفهمه إلا ذوي الفكر الاستراتيجي، الذين لا ينظرون أمام أرجلهم، وإنما ينظرون إلا سنة الله في الكون وفي التاريخ، ونواميس التغيير والتداول، أما من ينظر شبرا أمامه فما له من فهم إلا بمسافة ما رأى.

ومن بين المفاهيم الكبرى، التي لا يستقيم فهم المشروع الفكري للجماعة إلا بفهمها، مفهوم الخلافة كنظرية شرعية في الحكم، وكبشارة نبوية في سنة الله وآفاقه، وقد سئل الأستاذ فتح الله أرسلان في حوار على إسلام أون لاين، بسؤال مفاده أن الجماعة لازالت تكرر نفس المقولات ونفس المفاهيم التي أنتجتها منذ التأسيس، كالملك العاض، والملك الجبري، والخلافة على منهاج النبوة… فكان جوابه واضحا حيث قال: أن تمييزها بين تلك المفاهيم الملك العاض والملك الجبري، والخلافة على منهاج النبوة، أساس خطها السياسي الواضح التي أدت الجماعة ولا زالت تؤدي ثمنه من غير تبديل أو تحوير، وهذا الثبات على المواقف والمبادئ هما السر في قوتها.) 1

أ- الخلافة والملك

ما الفرق بين الخلافة والملك، سؤال شغل بال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبينما هو في مجمع من الصحابة سأل سلمان رضي الله عنه: أملك أنا أم خليفة؟ قال له سلمان: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهما أو أقل أو أكثر ثم وضعته في غير حقه فأنت ملك غير خليفة فاستعبر(بكى) عمر ـ ابن سعد.

عن سفيان بن أبي العوجاء قال: قال عمر بن الخطاب: والله ما أدري أخليفة أنا أم ملك؟ فإن كنت ملكاً فهذا أمر عظيم، قال قائل: يا أمير المؤمنين ! إن بينهما فرقاً، قال ما هو؟ قال: الخليفة لا يأخذ إلا حقاً ولا يضعه إلا في حق، فأنت بحمد الله كذلك. والملك يعسف (يظلم) الناس فيأخذ من هذا ويعطي هذا، فسكت عمر! ـ ابن سعد.

عن رجل من بني أسد أنه شهد عمر بن الخطاب سأل أصحابه وفيهم طلحة وسلمان والزبير وكعب فقال: إني سائلكم عن شيء فإياكم أن تكذبوني فتهلكوني وتهلكوا أنفسكم، أنشدكم بالله! أخليفة أنا أم ملك؟ فقال طلحة والزبير: إنك لتسألنا عن أمر ما نعرفه، ما ندري ما الخليفة من الملك، فقال سلمان يشهد بلحمه ودمه: إنك خليفة ولست بملك، فقال عمر إن تقل فقد كنت تدخل فتجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال سلمان: وذلك أنك تعدل في الرعية وتقسم بينهم بالسوية وتشفق عليهم شفقة الرجل على أهله وتقضي بكتاب الله، فقال كعب: ما كنت أحسب أن في المجلس أحداً يعرف الخليفة من الملك غيري ولكن الله ملأ سلمان حكماً وعلماً.

وقد مايز بن خلدون بين الخلافة والملك في كتابه المقدمة ممايزة من دخل السياسة وعاش أحوالها وأهوالها وانقطع في آخر حياته للكتابة والتأليف حيث قال لما كانت حقيقة الملك أنه الاجتماع الضروري للبشر، ومقتضاه التغلب والقهر، اللذان هما من آثار الغضب والحيوانية، كانت أحكام صاحبه في الغالب جائرة عن الحق، مجحفة بمن تحت يده من الخلق في أحوال دنياهم، لحمله إياهم في الغالب على ما ليس في طوقهم من أغراضه وشهواته) 2 .

والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسية الدنيا به) 3 .

يتحصل لنا مما سبق أن الخلافة هي نظام الحكم الشرعي الذي يرتضيه الله ورسوله لما فيه من حراسة الدين وسياسة الدنيا:

* حراسة الدين بالتمكين لشريعة الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإتاء الزكاة… وذلك بحفظ أصول خمسة بأسس ثلاثة العدل والإحسان والشورى.

* وسياسة الدنيا على أساس العدل والشورى بين الناس، سياسة لا يجبى فيها دينار بغير حق، ولا يعطى فيها امتياز بغير حق، سياسة تمكن رجال القوة والكفاءة والمروءة من تدبير أمور المسلمين، لا توزيع ذلك توزيعا عصبيا عائليا مصاهراتيا، سياسة روحها الشعب، وهدفها الشعب وغايتها تأسيس العمران الأخوي الذي يرضى عنه من في الأرض ومن في السماء.

ب- الخلافة تدافع وتدرج

نظام الخلافة هو نظام استراتيجي، لا يمكن تحقيقه بضربة لازب، بل هو جهاد أجيال، خاضع لسنة الله في التغيير ومن سنته التدرج ومن تأييده طوي المراحل على جند الله القائمين بالقسط ،الطالبين رضاه ومغفرته سبحانه وتعالى، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: إن الخلافة الثانية وعد موعود غير مخلوف، ومن سنة الله ورسوله أن تنشأ كل ناشئة على التدرج وفي ميدان التدافع بين الناس، وعلى مرأى ومسمع من العالم، وبآليات أنفسية وآفاقية تبدو مشتركة حكمها على المجتمعات غلاب) 4 .

إن الخلافة والعدل وجهان لعملة واحدة يتحقق الأول بوجود الثاني، وتفشي العدل رهين باستئصال الفساد وهو ما يحتاج طول نفس وحكمة مناجزة، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن (محجة القرب، العراقي عن معقل بن يسار المزني): “لا يلبث الجور بعدي إلا قليلا حتى يطلع فكلما جاء من الجور شيء ذهب من العدل مثله حتى يولد في الجور من لا يعرف غيره ثم يأتي الله تبارك وتعالى بالعدل فكلما جاء من العدل شيء ذهب من الجور مثله حتى يولد في العدل من لا يعرف غيره”.

إن نظام الخلافة ليس حلما لم يشهد له مثال في تاريخ الأمة الإسلامية، وإنما هو نظام أصله الخلفاء الراشدون في تدبير شؤون الحكم، وشرعه الله ورسوله في القرآن الكريم والسنة المطهرة. وقد اجتهد الأستاذ الفاضل عبد السلام ياسين في وضع أسس وأصول له، في أكثر من كتاب، أهمها كتاب العدل، ولعل أبرز أساس وقاعدة عريضة لنظام الخلافة من خلال ما تحصل لدي أنه نظام يقوم على أساس تحقيق التكامل بين الدعوة والدولة، دون أن ينصهر أهل الدعوة في الدولة، ودون أن تستأسد الدولة على الدعوة، فجهاز الدعوة ومؤسساتها مهمته حراسة الدين، وجهاز الدولة ومؤسساتها، مهمته سياسة الدنيا. على أن تكون للدعوة سيادة في التوجيه والإرشاد والفصل في القرارت الكبرى بما يرضي الله ورسوله، ويقتضيه الواقع وسياقه.

2- في الآليات: حكمة الديمقراطية

الديموقراطية عند جماعة العدل والإحسان حكمة من حكم البشرية، وما خلصت إليه البشرية في تطورها التاريخي هو موروث جماعي، غير أن الحكمة يستفاد منها بحكمة، فالديمقراطية فلسفتها الإلحاد واللائكية، فهي لا تعترف بالدين ولا بالأخلاق، لكن ثمرتها تتجلى في آلياتها القادرة إلى حد ما على تنظيم الاختلافات، وإشراك الشعب في تدبير أموره، وكذا في المؤسسات التي أفرزتها سيرورتها التطبيقية.

وإذا كانت الديمقراطية ظهرت كفلسفة في عهد بركليس الإغريقي، منذ القرن الخامس قبل الميلاد، ولم تعرف تطورا في فلسفتها وآلياتها إلا مع عصر الأنوار خلال القرن 17م، وبدأت تطبيقاتها مع الثورات الأوروبية خلال القرن 18. فإن الشورى لم يكتب لها أن تتطور إلى مؤسسات وآليات، فقد أقبرها الملك العاض منذ بدايتها، في تجربتها الأولى عهد الخلفاء الراشدين، مما جعلها مغيبة في حركية الأمة التاريخية نظرا لتجبر السيف عليها وعلى وكل من نطق بها.

وقد أثمرت الديمقراطية عدة آليات ترى جماعة العدل والإحسان 5 أهميتها ونجاعتها في تدبير أمور الدولة وشؤونها:

1- التعددية السياسية: مزية نعترف بفضلها، ولا ينازع في صوابها عاقل، ولا ينكرها إلا تواق للاستبداد. وهي باب للتنافس الشريف في الخير خدمة لمنافع عامة يعمل لها الجميع إذا ما حكمها ضابط الوضوح والمسؤولية والجدية، ولا نرى بديلا عنها إلا أن يتحول الحاكم إلى جلاد وطاغوت. مطلبنا تعددية مسؤولة متعاقبة على الحكم، تعددية معبئة للجهود في قنوات منتظمة بدل الفوضى والعنف. تعددية تتراضى على الحلول المثلى وتؤطر الشعب وتنير له الطريق.

2- التداول على السلطة: حكمة بشرية تعصم المجتمع من الاستبداد، وتمنحه مناعة ضد التسلط الأبدي، وتمكنه من التطور وجودة تدبير الشأن العام.

3- سيادة الشعب: مزية مهمة يؤكد جدواها والحاجة إليها ما يعيشه المسلمون من استبداد وفتنة وسيطرة القائد الملهم الذي لا راد لقوله ولا معقب لحكمه، لا يري الناس إلا ما يرى. مزية تعطي للشعب جدوى وتأثيرا عكس ما يعيشه اليوم من سلبية وانتظارية وقمع لحريته وسلب لإرادته وتوجيه لاختياراته.

4- فصل السلط وسيادة القانون: حكمة بشرية، وميزان توزن به الدول في مجال الترقي الإنساني، وعاصم من نموذج دولة تسير بهوى الحكام ومصالح صنائعهم، وتؤسس لدولة يعرف فيها كل فرد ومؤسسة حقه وواجباته، وأسلوب حضاري لتفادي الفوضى والعشوائية.

5- الحريات العامة: هي نقطة لقاء. بيننا وبين الداعين إليها نفور من الخنق والاستبداد وتوقان

إلى حرية تتعدد فيها الآراء والأساليب والوسائل. بها ينتقل الناس من رعية مسلوبة الإرادة وذهنية رعوية إلى مواطنين لهم كرامتهم وإرادتهم يستخدمونها للحفاظ على كيان مجتمعهم وحماية مصالحهم وهويتهم.

كل هذه حكم ومزايا لو لم تخترعها الديمقراطية للزم أن نخترعها نحن حتى نجتهد لزماننا ومكاننا وظروفنا كما اجتهد من سبقنا بإيمان وإتقان.

لكننا لا نفتأ نؤكد أنها ستبقى حبرا على ورق وأماني معسولة إن لم نجعل بيننا وبينها ميثاقا يكون عهدا ورباطا يضمن استمرارية في الكليات ويترك باب الاجتهاد فيما دون ذلك.

)

3- بأي أسلوب: الولاية

كيف ندبر السلطة في ظل اختلاف الأفكار والرؤى، كيف نسير المؤسسات المنتخبة، ونحرك المجتمع في ظل تعدد الأحزاب والجماعات، سؤال عريض، لا يمكن للديمقراطية أن تجيب عنه، اللهم فيما يتعلق بالشق التقني الآلياتي، مادامت هي نفسها تشكو من غياب الأخلاق والمروءات، وتئن من هول التحالفات واللوبيات، فهذا حزب تتعارض أفكاره مع حزب الأغلبية، فتبدأ التحالفات من أجل إطاحته، وهذا برنامج يعارض تطبيقه… وضاعت مصلحة الشعب، وغابت الشعارات وتبخرت الآمال.

أسئلة لا نجد الأجوبة عنها إلا في كلمة جامعة مانعة الولاية بين المؤمنين، يقول الله عز وجل المومنون والمومنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

قال أهل اللغة الولاية، بفتح الواو وكسرها، تشمل معاني المحبة والقرب والنصرة والتدبير والقدرة والفعل والصداقة والاعتقاد.

هكذا يجب أن ينجمع المؤمنون، في إطار ولاية بينهم، روحها المحبة والشورى والنصيحة، مهما اختلفت الانتماءات والتحزبات، “يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر”، يتعاونون فيما اتفقوا عليه، ويتشاورون فيما اختلفوا فيه، مصلحة الشعب ومصلحة الأمة هي الأولى فوق أي اعتبار، وهنا لابد من صحافة قوية ومسؤولة، تعبر عن أراء الشعب، وتفضح كل منافق نصاب يسعى بين الناس بالفتنة، لابد من مجتمع يعرف ما له وما عليه، ليس مجتمع الأميات (جمع أمية) الذي تراهن عليه أنظمة الجبر، في اكتساب مشروعيتها وتدويخه بالشعارات والتغييرات…لابد من قومة تعليمية، تنور العقول وتلين القلوب للمحبة والإخاء، لابد من شعب مشارك في حركية أمته التاريخية، مسؤول عن تحقيق التنمية، نشيط في حركة جمعوية، تكون ساعد الدعوة في تحقيق التوبة الجامعة، ويد الدولة في تطبيق البرامج التنموية.

يقول الأستاذ عبد السلام ياسين القومة على منهاج النبوة تريد تضافرا جماعيا على الجهاد، تريد توحيدا للجهود، وتفاعلا من قريب مع الواقع، وقوة تدبيرا وفعلا مقتدرا، وهذا ما تدل عليه كلمة ولاية بفتح الواو وكسرها) 6 .

وتشترط الولاية بين أحزاب الأمة، ميثاقا مرجعيا يشكل ضابطا قانونيا، للتصرفات والسلوكات، على غرار دستور المدينة الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتنظيم العلاقات داخل المدينة ومن أبرز ما جاء فيه: وإن المومنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المومنين، وإن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم…) 7 .

ولم يستثن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الوثيقة، أحدا بل حتى اليهود أدخلهم ضمن بنودها وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم) 8 .

قد يبدو للقارئ أن الولاية في ظل تعددية سياسية وفكرية، أهازيج على سمفونية المدينة الفاضلة، كلا إنها حقيقة تاريخية، تحققت في عهد نظام سياسي وحيد هو نظام الخلافة الراشدة، فكان الكل مشارك في تدبير الأمة، لا فرق بين الرئيس والمرؤوس، الكل مسؤول، الكل يعبر عن رأيه ويطالب بحقه.

إن الولاية بين المؤمنين هي دم المحبة والإخلاص والصدق، الذي يستشري في جسم الأمة، ويربطها بغاية سماوية، هي ابتغاء رضى الله، وغاية أرضية، وهي الاستخلاف في الأرض، وتأسيس العمران الأخوي.


[1] مواقف جماعة العدل والإحسان من خلال ناطقها الرسمي، إعداد حسن بناجح، مطبعة الخليج العربي، ص 119.\
[2] مقدمة ابن خلدون، تحقيق درويش جويدي، المكتبة العصرية، ص177.\
[3] نفسه، ص 178.\
[4] سنة الله، عبد السلام ياسين، مطبعة النجاح الجديدة، ص305.\
[5] جماعة العدل والاحسان: الهوية، الغايات، المواقف، الوسائل. منشور على موقع الجماعة: www.aljamaa.net\
[6] كتاب العدل: الإسلاميون والحكم، عبد السلام ياسين، مطبوعات الصفاء للإنتاج، ط:1، ص243.\
[7] السيرة النبوية، ابن هشام، ج2. \
[8] نفسه.\