الخصال العشر (5): العلم

Cover Image for الخصال العشر (5): العلم
نشر بتاريخ

يقول المثل المشهور: “العلم نور والجهل عار”.

ويقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: “العِلْمَ نُورٌ..  ونورُ الله لا يهدى للعاصي”.

من هنا نتساءل عن ماهية العلم؛ هل هو تكديس المعلومات والمفاهيم، أم هو نور وهبه لنا الخالق؟ وهل نسعى إلى تحصيله سعيا، أم ننتظر أن يصب في قلوبنا صبا ليملأها نورا ويزيل عنها جهلها؟

وهل هناك من العلم ما لا ينفع؟ وكيف يمكن أن نميز بين العلم النافع وغيره إن لم نتمتع ببصيرة ربانية وميزان صدق يقبل الحق ويدفع الباطل؟

العلم علمان

يقول الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله: فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (سورة الكهف، الآية 75).

من هذه الآية الكريمة يتضح جليا أن من العلم ما علمه الخالق لعباده دون أن يسعوا أو يشقوا في طلبه، فقد اختص الله الأولياء من خلقه فوهبهم علما ربانيا ميزهم به، فكان نورا لقلوبهم يرون به الحق حقا فيتبعونه والباطل باطلا فيجتنبونه .

إن علم الباطن هو علم حقيقة وقبس نوراني من مشكاة الحق، يودعه الله أوعية قلوب صالحة من غير وطر لإجراء قلم أو إدامة نظر أو إعياء فكر، هو علم نافع يصلح القلوب قبل العقول، “العلم النافع هو الذي ينبسط في الصدر شعاعه، وينكشف به عن القلب قناعه” (2).

فالعلم الباطن الموجه لتصفية القلوب من كل الرذائل وتزكيتها بالفضائل، يكشف عن القلوب القناع الذي يتولد من الغفلة عن الحق واتباع الهوى وحب الدنيا وملذاتها، فإن زالت الغشاوة انبسط شعاع العلم في الصدر، وأورث صاحبه مخافة الله والحياء منه، فكان بذلك علما نافعا، يصلح به عمل العبد ويخلص لوجه الله تعالى، فمن صلح باطنه صلح ظاهره، لأن العلم النافع هو أساس العمل الصالح، وثمرته النافعة.

وإن كان علم الباطن تصديقا بالجنان فإن علم الظاهر هو عمل بالأركان، فلا فائدة من سريرة نقية وطهارة قلب إن لم تكن مصحوبة بعمل صالح، ولا فائدة من عمل نافع يصحبه الرياء فيبطله.

إن علم باطن الحقيقة وظاهر الشرع لا يفترقان؛ لأن الظاهر هو ظرف الباطن الذي لا غنى عنه، والباطن هو لب الظاهر، فالباطن مصلح للظاهر، والظاهر عنوان للباطن، ولا تصلح الظواهر إن لم تصلح السرائر. (من ازداد علمه ينبغي أن يزداد خوفه من ربه عز وجل وطواعيته له. يا مدعي العلم! أين بكاؤك من خوف الله عز وجل؟ أين حذرك وحولك؟ أين اعترافك بذنوبك؟ أين مواصلتك للضياء بالظلام في طاعة الله عز وجل؟ أين تأديبك لنفسك ومجاهدتها  في جانب الحق عز وجل؟) (3).

العقل والعلم

إن العالم العاقل كما وصفه القرآن الكريم يصل بعقله إلى فهم سبب وجود هذا العالم قبل معرفة ماهيته وتكوينه، وإن ازداد علمه الكوني فلا يزيده إلا قربا من خالق هذا الكون وخضوعا  له، قال الله تعالى في كتابه العزيز: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4).

فالعقل المسلم الراشد يزداد تسليما وإيمانا بخالق هذا الكون لأنه يعلم مصيره ومآله، وأنها دنيا فانية زائلة ولا يبقى إلا وجه ربه الكريم، فمن تكبر بعقله وعلمه على خلقه كلما ازداد توغلا في فسيح كونه كان سفيها بعقله، ولا فائدة من معرفته وعلمه، فقد كان قارون عالما بأمور دنياه، متعاليا على خالقه، فلم يزدد إلا خسرانا وبوارا، وكان ذو الكفل رجلا صالحا زاده علمه قربا من خالقه ليكون بذلك بصره الذي يرى به وسمعه الذي يسمع به ويده التي يبطش بها. والعالم العاقل يعرف حدود ربه، ويقف عند شرعه، فلا يتكبر عن طاعة أوامره واجتناب نواهيه، فيكون له الفلاح في دنياه والفوز في أخراه.

إن طلب العلم وبذله في خدمة المجتمع وتحسين ظروف عيشه والنهوض باقتصاده لضمان العيش الكريم للطبقة المستضعفة، هو غاية يجب إدراكها، فلا فائدة من العلم إن لم يضمن للبشرية الرخاء والسعادة في الدنيا والآخرة، وذلك لا يتأتى إن لم نتحل بخلق القرآن ونربي عليه أبناءنا، لتكون أجيالا قرآنية؛ أول ما يدخل جوفها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، التي تتعلمها عبر المواعظ والقصص التي تسمعها قبل أن تتعلم المناهج، وتتفتح مداركها على العلوم الكونية. (هذه الميوعات في برامج التعليم وكتبه وأساليبه  ومضمونه يجب أن تطرح ليخلفها القرآن، لفظه ومعانيه، وعظه وقصصه، أحكامه وشرائعه، عوالمه الدنيوية والأخروية، الأرضية والسماوية) (5).

ولن تضمن البشرية سعادتها إن لم تبن علومها على أساس من التقوى والورع؛ فلا تظلم وتتجبر بقوتها على الخلق، لتسحق عجلة التقدم العلمي والتقني المستضعفين وتهمشهم، وتقسم المجتمع إلى طبقة مستعلية محتكرة للثروات، وأخرى مغلوبة على أمرها، تعيش على الهامش وتشقى من أجل قوت يومها.

إن العلوم التكنولوجية المتقدمة والعلوم الإنسانية والاقتصادية إن لم تساهم في إسعاد البشرية وضمان استقرارها وأمنها، لن تكون إلا أداة لدمارها؛ بما تجلب معها من ويلات الحروب وتزايد أطماع الطبقة البورجوازية من أجل استغلال الثروات وتكديسها في يد الأغنياء لتعميق الفجوة بين الأطراف.

الكمال العلمي

إن العلوم الكونية وإن كانت ضرورية فهي لا تصل بنا للكمال العلمي إن كانت آلة صماء وبكماء عن ذكر الله، تبتعد بنا عن صانع الأكوان، وتتكبر، جوفاء من كل معاني الإيمان، تعترف بالنظريات والمذاهب وتنسى شرع الله في كونه وتعرض عن ذكره.

إن الكمال العلمي هو “علم خطوة لا علم خطبة”، لأنه يخطو بنا نحو العلم النافع والخلق الرفيع، ويعلمنا النقد البناء، فهو لا يدفعنا إلى الانسلاخ عن هويتنا الإسلامية، بدعوى التقدم الحضاري والعلمي الأكاديمي الجاهل، المادي الملحد، بل يدعونا لتقبل الغير، دون نكران الذات، يدعونا للتقدم والرقي دون الارتماء في أحضان الثقافة التغريبية الملحدة .

“وليكن علم المؤمنات علم خطوة لا علم خطبة. عِلما يشرق في القلوب إيمانا وتصديقا، وفي العقول تدبيرا وتطبيقا) (6).

وأخيرا، إن الخروج من التهميش والتشتت وسياسات التفقير التي تعيشها البلدان المستضعفة يستدعي التسلح بالإرادة الجماعية، ونبذ العقلية الاستعمارية، مع التسلح بالعلم النافع لتحريك عجلة التقدم والازدهار العلمي والتقني، والتزود بالإيمان، مع اليقين بموعود الله تعالى بنصرة عباده المستضعفين وتمكينهم في الأرض .

كأنَّما المسلمون اليومَ في شُغُلٍ ** بعد السُّبات غُلامٌ نام ثم صحَا

صحا معافىً من الوهْنِ القديم وقَدْ ** غَدَا لأسبابِ ما يُرْدِيهِ مُطَّرِحَا

تقلَّدَ الصدقَ سيفاً لا يُضارعُهُ ** طاغوتُهُمْ وببَذْلِ النفْسِ قد سمحَا

بالعلم يخْدُم إيمانه، اتَّضَحَتْ ** له مناهِجُ مَنْ أغْوَى ومن نصحَا (7)


(1) الآية 64 من سورة الكهف.

(2) إيقاظ الهمم في شرح الحكم، أحمد بن محمد بن عجيبة الحسنى، ص 484.

(3) الفتح الرباني، عبد القادر الجيلاني، ص 67.

(4) الآيات من 1 إلى 4 من سورة الملك.

(5) المنهاج النبوي، عبد السلام ياسين، طبعة 2 – 1410/م1989، ص 230.

(6) تنوير المومنات، عبد السلام ياسين، ط 1/1969، ص 69.

(7) قطوف 2، عبد السلام ياسين،  ط 1/2002، قطف 101، ص 30.