الحكم على المُدوّن عبد الرحمان زنكاض.. رسالةُ نكوصٍ أخرى على أعقاب السلطوية

Cover Image for الحكم على المُدوّن عبد الرحمان زنكاض.. رسالةُ نكوصٍ أخرى على أعقاب السلطوية
نشر بتاريخ

حكم ظالم وقاس آخر يرمي تكميم أفواه المغاربة وخَنْق حرية التعبير المخنوقة أصلا في هذا البلد؛ مواطن مغربي آخر يُدوِّن ويُعاقَب على تدويناته المُضيَّق عليها أصلا من خوارزميات الفيسبوك الداعمة للرواية الصهيونية.

عبد الرحمان زنكاض مواطن مغربي كسائر المغاربة المناصرين للقضية الفلسطينية، دَوّن على حسابه منافحا عن قضية فلسطين ومدافعاً عن أهل غزة الذين يتعرضون لأبشع إبادة جماعية، وأدان التطبيع كما أدانه ويُدينه الجميع، واستنكر، كما الجميع، سياسات الحكام المتخاذلة والصامتة تجاه ما يجري.

تدوينات بسيطة استدعت أن تقضي المحكمة الابتدائية بالمحمدية يوم الإثنين 8 أبريل 2024، في حق معتقل الرأي عبد الرحمان زنكاض بـ5 سنوات حبسا نافذا وغرامة قدرها 50000 درهم. وقد كان عبد الرحمان زنكاض قد تعرض للاعتقال من بيته يوم 22 مارس المنصرم، لتتم متابعته بسبب تدويناته تلك.

قساوة الحكم تجعلنا نتساءل عن المقصود الحقيقي من هذا الاعتقال الظالم والحُكم القاسي؟ أهو شخص عبد الرحمان أم هي مواقفه وقناعاته؟ وما هي الرسائل التي أُريد لها أن تصل عبر معاناة عبد الرحمان وتغييبه وراء القضبان؟

1. ضدّا على الإجماع المغربي على دعم فلسطين ونبذ التطبيع

يأتي هذا الحكم الموغل في القسوة على المُدوِّن المناصر لقضية فلسطين في سياق هبّة شعبية إسنادا لغزة، فقد استمر الشعب المغربي على مدى 26 أسبوعا (أسبوع الحكم على عبد الرحمان زنكاض) بدون كللٍ ولا ملل ينافح عن إخوته في العقيدة والدين المُقتَّلين والمّذبحين على تخوم بيت المقدس الذي قيل إن لنا لجنة أُسّست لنصرته وتسعى للذود عنه من مخاطر التهويد والهدم. فما ذنب عبد الرحمان إذن إن كانت تدويناته بذات الهدف؟ وما هي الرسائل التي أُريد لها أن تصل عبر الحكم على عبد الرحمان إلى مناصري القضية المقدسة ومناهضي التطبيع مع الكيان الذي أجمع العالم كله، إلا المتواطئون والمتخاذلون، على إرهابه وإجرامه في حق المقدسات وسكان الأرض المقدسة؟

لقد ضرب الشعب المغربي، عكس ما كان يتمنّاه الصهاينة والمتصهينين، أروع صور الإسناد للصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني الذي يواجه محرقة العصر في غزة، وتهويد القرن للأقصى في القدس، وقضم استيطاني للأرض في الضفة، وصفقة القرن للتصفية والإبادة. لقد كان رهان عرّابي التطبيع أن يكون المغرب، الذي رأوه مغربا بعيدا عن مشرق الدين والشمس في أرض الأنبياء، أسهل المنافذ نحو قلوب الأمة ليسكنها الودّ المستعصي مع الصهيونية في البلدان التي طبّع حكامها منذ عقود مع الجرثومة الفاسدة والطُّغمة المفسدة في البقاع الطاهرة، وأقصر الطرق لإيجاد بيئة لعلاقات اقتصادية وعسكرية وثقافية مع من لا ثقافة له إلا ثقافة القتل والتدمير.

لقد كان عبد الرحمان زنكاض -كما مصطفى دكار المعتقل والمتابع حديثا- وإخوته في المحمدية وفي الدار البيضاء وفي أزمور والجديدة وكل مدن ومداشر المغرب واضحين منذ بداية توقيع التطبيع، الذي تم تمرير سُمِّه مع وباء كوفيد بعد إحكام غلق فضاءات الرفض بعد تفشي جائحة كورونا، أن المغاربة سيظلون في ثغرهم دفاعا عن الأقصى وفلسطين منذ جولتهم الأولى مع صلاح الدين الأيوبي، وأنهم لن يفارقوها حتى قيام الساعة، وأنهم لن يكونوا أبدا يدَ عون أو صمت أو خذلان لأشقاء الدين والإنسانية.

بل كاد أن يكون الشعب المغربي فريدا في دعمه المنقطع النظير، جمعة بعد جمعة، وليلة بعد أخرى، ومسيرة بعد وقفة، وفعالية بعد فعالية، لصمود غزة العزة في شهره السابع أمام العدوان الصهيوني الغاشم الذي عجز بمصفحاته وعتاده الغربي الفاتك بالإنسان والبنيان والحيوان والأغصان، أن ينال من عزيمة المرابطين على أكناف بيت المقدس الذين هبّوا في السابع من أكتوبر المجيد نصرة لثالث الحرمين في وجه المخططات الحاقدة للطروحات التلمودية الخرافية لهدم الأقصى وبناء الهيكل المزعوم. كل هذا الدعم الشعبي المغربي لم تفتّ في عضده أدوات القمع والمنع والاعتقال والمحاكمات، وآليات الحصار الإعلامي الخانق. فأعلن المغاربة موقفهم الأصيل وثبتوا عليه.

لم يكن عبد الرحمان زنكاض المغربي الأول، وإن كان هو أثقلهم حكما لحد كتابة هذه الأسطر (فمن يضمن أن تنتهي هذه الأسطر قبل أن نسمع أحكاما خيالية انتقامية تخبطية أخرى؟!) الذي يدفع ثمن مناصرة قضيةٍ مُجمع عليها شعبيا وحتى رسميا على مستوى الخطاب على الأقل، فقد سبقته متابعات لنشطاء داخل الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع لمجرد التظاهر السلمي أمام ماركات تجارية داعمة للكيان الصهيوني في سلا وغير سلا، وسبقه حكم آخر أصدرته محكمة الاستئناف بالدار البيضاء على ناشط آخر هو المدون سعيد بوكيوض بثلاث سنوات سجنا نافذا، رغم أنه لم يعبر إلا عن رأيه، ولم يرتكب أي فعل إجرامي وإنما عبر عن رأي يدين فيه التطبيع، ويدين سياسة البلد في تهافتها نحو التطبيع. وقد لحقه اعتقال آخر ومحاكمة جديدة جارية للناشط الأزموري مصطفى دكار.

إن الحكم القاسي على عبد الرحمان وسعيد، واعتقال وفبركة ملفات لدكار والحيرش ومعتقلي سلا، وغيرهم رسالة سياسية لكل الرافضين لمهاوي التطبيع المخزية أن الدولة ماضية فيه، رغم ما يشكله من دعم سياسي ومعنوي لآلة الإبادة الصهيونية لاقتراف المزيد من جرائم لم تشهد البشرية لها مثيلا في تاريخها الحديث. بل هي رسالة سقوط أخلاقي في وقت كانت فيه مواقفُ بعض الأنظمة البعيدة عقيدة وجغرافيا ومصلحة عن فلسطين أقوى من عموم المواقف التي ينبغي أن تجسد الارتباطات المفترضة بين فلسطين وعمقها الديني والجغرافي والحضاري.

إنه حكمٌ ضد الإجماع الشعبي المغربي على نصرة فلسطين، وتغريد خارج سرب الإنسانية الحرة التي أجمعت على إدانة جرائم الكيان المارق.

2. استمرار في خنق الصوت الحر وتأبيد “نوطة” المعزوفة الواحدة

ولم يكن عبد الرحمان أول مواطن تسلب حريته لمجرد رأي بسيط في وسيلة من وسائل التواصل الكتابي أو الاجتماعي أو غيره، فقد سبقه صحفيون وسياسيون ومناضلون ونشطاء أو مجرد مغردين في وسائل التواصل تغريدة خارج المعزوفة المسموح بها. منهم من قضى سجنه ومنهم من ينتظر فيه سنوات وشهورا، لا ذنب لهم إلا أن صدقوا ما دُبِّجت به دساتيرنا وقوانيننا التي قيل عنها إنها منضبطة للمعايير الدولية والدينية في كفالة الرأي الحرّ الذي لا يدعو لا لعنف ولا لفتنة ولا فوضى. فما بال عبد الرحمان وغير عبد الرحمان قابعون في السجن إذن؟ وبأي قانون حُوكموا إن كانوا مارسوا حرياتهم في إطار منطوق شرائعنا؟ أم أن بين ثنايا المنطوق -اضطرارا- قانون آخر يُدّخَر لمن أساء فهم منطق المنطوق؟

إن تسلسل متابعة النشطاء في المغرب منذ أن اطمأن القائمون على السلطة السياسية في البلد إلى إغلاق القوس الذي سُمح بفتحه تحت تأثير الضغط الشعبي والإقليمي الذي صاحب الحالة الثورية التي انطلقت من تونس سنة 2011 وعمّت عدة أقطار في المحيط العربي، تأكيد على التغول السلطوي في البلد الذي يعبر عن نفسه كل مرة بشتى الأشكال؛ أهمها أحكام قاسية ومضايقات على وجوه صحفية وحقوقية وسياسية معارضة للنوطة المخزنية. وإلا فما ذنب الصحفيين توفيق بوعشرين وسليمان الريسوني وعمر الراضي وغيرهم ممن لا يزالون مُغيَّبين في غياهب السجون؟ وما الجُرم الذي اقترفه أكاديمي ومؤرخ مثل المعطي منجب حتى يُضيق عليه وتصادر مصادر رزقه، ويُدفع دفعا لمغادرة البلاد أو الموت في إحدى إضراباته المتكررة عن الطعام إن أخطأته إحدى تلك الأحكام القاسية. وما ذنب شباب الريف وجرادة؟ وما ذنب هذا وذاك ممن لا يسهل حصرهم من ضحايا النزعة الانتقامية لدى السلطة؟

لم تكن إذن أنت المقصود يا عبد الرحمان شخصا، بل هو صوتك الحر أن يُسكت، وإرادتك المستقلة أن تُسلب، وموقفك المبدئي أن يلين ويتخلى عن قضايا الوطن والأمة، ويعيش محاذيا لحائط الصمت، مُكتفيا بخويصة نفسه. المقصود أن يغني المغاربة نفس المعزوفة الممجوجة بغير رضاهم، وبنفس الإيقاع المُحدّد، وبنفس نبرة الصوت المسموح به.

3. تضييق متجدد على جماعة مُجدة وفاعلة

نطق القاضي على الحكم الجاهز على مكتبه قبل انعقاد المحاكمة لأن عبد الرحمان زنكاض مذنب في عرف السلطة في انتظار براءته، لأنه ببساطة اختار أن يقتنع بحريةٍ وإرادةٍ بتصور العدل والإحسان الذي شهد له الخصوم قبل الخِلّان بسِلميَّته وقصديته وغيرته على الوطن ودفاعه المبدئي عن قضايا الشعب المغربي.

لقد بات واضحا أن بعد كل خطوة جادة من جماعة العدل والإحسان، وكل مبادرة صادقة لإخراج البلد من مأزق السلطوية وعواقبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكل دعوة حوار وبناء لمستقبل أفضل لهذا الوطن ولهذا الشعب الكريم، بعد كل هذا تأبى السلطة إلى أن يكون الجواب عقابٌ للجماعة على جديتها ومبدئيتها عبر أحكام قاسية على أعضائها، أو تضييق على أرزاقهم وحرياتهم، أو إعفائهم من مهامهم ومسؤولياتهم الوظيفية، بل حتى زهْقِ أرواحهم مثل عبد الجليل فخيش وكمال عماري رحمهم الله.

لقد كان الحكم السريالي رسالة نكوص على أعقاب السلطوية بعد الوثيقة السياسية التي أصدرتها الجماعة التي أشاد بها الجميع، واعتبرت أرضية صلبة صادقة لبناء توافق وطني يعيد للسياسة بعضا مما أفرغته منها الرتابة التي فرضت على الحالة السياسية على البلد بهدف تكريس الرأي الواحد، وإفراغ المؤسسات الدستورية والسياسية من أي وظيفة تمثيلية إلا وظيفة تجميل واجهات الاستبداد المستفرد بالقرار والسلطة والمال.

وأتى الحكم أيضا بعد المواقف الرزينة والمسؤولة والاحترام المتبادل والحوار والطرح الجدي الذي دبرت به الجماعة نقاش مدونة الأسرة وما يرمز إليه ذلك من فاعلية ودينامية وانغراس الجماعة في المجتمع، وكذا الانخراط القوي للجماعة بمختلف مؤسساتها وعلى طول خارطة البلاد في الحراك الوطني والمحلي الداعم لغزة والرافض لاستمرار التطبيع.

لست المقصود إذن يا عبد الرحمان، بل المقصود محضنك التربوي والتنظيمي ورؤيتك السياسية، وإلا فأنت ترى كيف لحقك أخوك مصطفى عضو “أزمور التي نريد” إلى قاعات المحاكمة الصورية، كما سبقك الدكتور أبو بكر الونخاري، عضو الأمانة العامة للدائرة السياسية للجماعة، إلى ذات الضريبة؛ فلا يزال متابعا أمام ذات المنطق المهيمن على القضاء الأسير بتهم واهية. ولقد سبقك أيضا محمد أعراب باعسو لنفس الضريبة بعد التخليد المبدع للذكرى الأربعين لتأسيس الجماعة في سنة 2022، وسبقك عمر محب بعد مبادرة الأبواب المفتوحة لسنة 2006، وسبقك الإثنا عشر طالبا بعد الإعلان عن فصيل العدل والإحسان في الجامعات المغربية. وغيرهم الكثير الكثير ممن طالهم قمع المخزن وتضييقه فما وهنوا وما ضعفوا وما استكانوا.

هي إذن رسالة تأكيد على الاستمرار في نفس المنطق في التعامل مع الجماعة، منطق التضييق ومزيد من التضييق، بل هي رسالة سلطوية متجددة أن الجماعة في منطق السلطة بتكثيفها لأنشطتها ستكون دائما خارج القانون الذي لا يعترف لها به إلا عندما تطبق عليها زواجره.