الحق في التعليم في ميزان القانون الدولي.. تعليم الفتاة القروية نموذجا

Cover Image for الحق في التعليم في ميزان القانون الدولي.. تعليم الفتاة القروية نموذجا
نشر بتاريخ

الأستاذة السعدية اضريس | محامية بهيئة الدار البيضاء

يعتبر الحق في التعليم من الحقوق الكونية الأساسية التي يجب إقرارها ترسيخا وضمانا لاستفادة أفراد المجتمع من باقي الحقوق الإنسانية الأخرى، لذلك عمل المجتمع الدولي على إقراره في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي اعتمد سنة 1948، ومنذ ذلك الحين تم إقرار الحق في التعليم في مجموعة من المعاهدات الدولية مثل: اتفاقية اليونيسكو لمكافحة التمييز في مجال التعليم لسنة 1965، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لسنة 1966، واللذان سعيا إلى إقرار الحق في التعليم عموما لجميع الناس، في حين أن معاهدات أخرى أقرته بالنسبة لمجموعات معينة كالأطفال والنساء والمعاقين واللاجئين والمهاجرين، أو في إطار سياقات معينة مثل التعليم في النزاعات المسلحة والتعليم وعمالة الأطفال. ومن بين هذه المعاهدات نذكر: العهد الدولي الخاص بالقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري لسنة 1965، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة لسنة 1979، واتفاقية حقوق الطفل لسنة 1989، واتفاقية حماية حقوق العمال المهاجرين وأفراد أسرهم لسنة 1990، واتفاقية حقوق الأشخاص ذوي إعاقة لسنة 2006، كما تم الاعتراف بالحق في التعليم في اتفاقيات منظمة العمل الدولي والقانون الدولي الإنساني.

ومن أهم ما تضمنته هذه الاتفاقيات نذكر المادة 26 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي نصت على أن: “لكل شخص الحق في التعلم، ويجب أن يكون التعليم في مراحله الأولى والأساسية على الأقل بالمجان، وأن يكون التعليم الأولي إلزاميا، وينبغي أن يعمم التعليم الفني والمهني، وأن ييسر القبول للتعليم العالي على قدم المساواة التامة للجميع وعلى أساس الكفاءة”.

والمادة 13 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية، والتي نصت على أنه: “تقر الدول الأطراف في هذا العهد بحق كل فرد في التربية والتعليم. وهي متفقة على وجوب توجيه التربية والتعليم إلى الإنماء الكامل للشخصية الإنسانية والحس بكرامتها وإلى توطيد احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية. وهي متفقة كذلك على وجوب استهداف التربية والتعليم تمكين كل شخص من الإسهام بدور نافع في مجتمع حر، وتوثيق أواصر التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الأمم ومختلف الفئات السلالية أو الإثنية أو الدينية، ودعم الأنشطة التي تقوم بها الأمم المتحدة من أجل صيانة السلم.

وتقر الدول الأطراف في هذا العهد بأن ضمان الممارسة التامة لهذا الحق يتطلب:

أ) جعل التعليم الابتدائي إلزاميا وإتاحته مجانا للجميع.

ب) تعميم التعليم الثانوي بمختلف أنواعه، بما في ذلك التعليم الثانوي التقني والمهني، وجعله متاحا للجميع بكافة الوسائل المناسبة ولا سيما بالأخذ تدريجيا بمجانية التعليم.

ج) جعل التعليم العالي متاحا للجميع على قدم المساواة، تبعا للكفاءة، بكافة الوسائل المناسبة ولا سيما بالأخذ تدريجيا بمجانية التعليم.

د) تشجيع التربية الأساسية أو تكثيفها إلى أبعد مدى ممكن، من أجل الأشخاص الذين لم يتلقوا أو لم يستكملوا الدراسة الابتدائية.

ه) العمل بنشاط على إنماء شبكة مدرسية على جميع المستويات، وإنشاء نظام منح واف بالغرض، ومواصلة تحسين الأوضاع المادية للعاملين في التدريس”.

والمادة 28 من اتفاقية حقوق الطفل التي تنص على أن: “تعترف الدول الأطراف بحق الطفل في التعليم، وتحقيقا للإعمال الكامل لهذا الحق تدريجيا وعلى أساس تكافؤ الفرص، تقوم بوجه خاص بما يلي:

– جعل التعليم الابتدائي إلزاميا ومتاحا مجانا للجميع.

– تشجيع تطوير شتى أشكال التعليم الثانوي، سواء العام أو المهني، وتوفيرها وإتاحتها لجميع الأطفال، واتخاذ التدابير المناسبة مثل إدخال مجانية التعليم وتقديم المساعدة المالية عند الحاجة إليها.

– جعل التعليم العالي بشتى الوسائل المناسبة، متاحا للجميع على أساس القدرات.

– جعل المعلومات والمبادئ الإرشادية، التربوية والمهنية متوفرة لجميع الأطفال وفي متناولهم.

– اتخاذ تدابير لتشجيع الحضور المنتظم في المدارس والتقليل من معدلات ترك الدراسة.

– تتخذ الدول الأطراف كافة التدابير المناسبة لضمان إدارة النظام في المدارس على نحو يتمشى مع كرامة الطفل الإنسانية ويتوافق مع هذه الاتفاقية.

– تقوم الدول الأطراف في هذه الاتفاقية بتعزيز وتشجيع التعاون الدولي في الأمور المتعلقة بالتعليم، وبخاصة بهدف الإسهام في القضاء على الجهل والأمية في جميع أنحاء العالم وتيسير الوصول إلى المعرفة العلمية والتقنية وإلى وسائل التعليم الحديثة، وتراعى بصفة خاصة احتياجات البلدان النامية في هذا الصدد”.

والمغرب باعتباره من الدول الأطراف في كل هذه المعاهدات والاتفاقيات؛ حيث قام بالتوقيع والمصادقة عليها، فهو ملزم باحترام جميع مقتضياتها، وقد سعى بالفعل إلى تضمين هذه المقتضيات ضمن قوانينه الوطنية، حيث نص في المادة 31 من الدستور المغربي لسنة على 2011 على أنه: “تعمل الدولة والمؤسسات العمومية، والجماعات الترابية، على تعبئة الوسائل المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين على قدم المساواة من الحق في:

– الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جودة”.

فالدستور في هذه المادة ألزم ثلاث مؤسسات: الدولة، المؤسسات العمومية، والجماعات الترابية، كل واحدة في مستوى مسؤوليتها ومجال تخصصها، بضرورة اتخاذ جميع الوسائل والإجراءات من أجل توفير تعليم عصري وميسر الولوج وذي جودة لجميع المواطنين والمواطنات دون تمييز. وهي في الحقيقة مقتضيات تتماشى مع ما تضمنته الاتفاقيات التي التزم بها المغرب على المستوى الدولي، إلا أنه على مستوى الواقع نجد أن هناك اختلافا كبيرا وواضحا بين هذه المقتضيات وبين واقع التعليم في بلادنا، الذي يفتقر إلى أبسط شروط التعليم والتكوين المهني التي تفرضها مقتضيات القانون الدولي؛ إن على مستوى المدن الكبرى، وإن على مستوى القرى والمناطق النائية، حيث شروط التعليم والتكوين منعدمة وخاصة بالنسبة للفتاة القروية التي يمكن وضعها في أدنى سلم أولويات الخطة التعليمية، وتسجل بالنسبة لها أعلى مستويات الأمية.

وبإخضاع واقع تعليم الفتاة القروية لما قدمته لجنة الأمم المتحدة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في تعليقها العام رقم 13 من إرشادات مفصلة للدول بشأن التزاماتها بالحق في التربية والتعليم وحمايته والوفاء به. حيث أشارت اللجنة إلى أن هذا الحق يتضمن السمات المترابطة والأساسية التالية:

1) التوافر: ينبغي للدول أن تكفل توفير البنى التعليمية الكافية (المؤسسات والبرامج) للجميع. ولا بد أن تكون هذه البنى مجهزة بكل المواد والمرافق اللازمة لحسن سير عملها في سياق معين، مثل المباني، ومعدات التدريس ومواده، والمدرسين المدربين الذين يتقاضون أجرا منصفا، والوقاية من العناصر الطبيعية، والمرافق الصحية للجنسين، والمياه الصالحة للشرب.

2) إمكانية الالتحاق: تتضمن إمكانية الالتحاق بالتعليم ثلاثة عناصر أساسية وهي: عدم التمييز، وإمكانية الالتحاق المادي، وإمكانية الالتحاق من الناحية الاقتصادية. ينبغي أن يكون الوصول إلى المؤسسات التعليمية في متناول الجميع، ولاسيما أضعف الفئات، من غير التعرض لأي تمييز وفق أسس الجنس، والعرق، والموقع الجغرافي، والظروف الاقتصادية، والإعاقة، والمواطنة أو مركز الإقامة، والانتماء إلى أقلية أو الدين.. كما ينبغي أن تقع المدارس على مسافة آمنة ومعقولة من المجتمعات المحلية أو المناطق النائية، ويسهل الوصول إليها عبر الوسائل التكنولوجية العصرية. ولا بد أيضا أن يكون التعليم في متناول الجميع من الناحية المادية، والدول مطالبة بالأخذ تدريجيا بمجانية التعليم في مراحله كافة.

3) إمكانية القبول: يجب أن تكون المناهج الدراسية وأساليب التدريس مقبولة للطلاب، وللآباء، في الحالات المناسبة، وهذا يخضع للأهداف التعليمية الشاملة المتمثلة في التعليم والمعايير التعليمية الدنيا التي تحددها الدولة.

4) قابلية التكيف: يجب أن يكون التعليم مرنا حتى يتسنى له التكيف مع احتياجات المجتمعات المتغيرة والاستجابة لاحتياجات الطلاب في محيطهم الاجتماعي والثقافي المتنوع.

فإذا أخضعنا واقع تعليم الفتاة القروية إلى هذه السمات، التي اعتبرت اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أنها يجب أن تكون موجودة في جميع أشكال التعليم، وعلى جميع المستويات ليكون التعليم حقا فعليا، نجد أنها منعدمة وغير متوفرة، حيث يمكن أن نسجل العديد من الاختلالات والظروف السلبية التي لا تستجيب لهذه المعايير الدولية، والتي تحول دون تمكين الفتاة القروية، والفتاة في المناطق النائية، من الاستفادة كمثيلاتها في سائر المناطق من ممارسة حقها في التعلم وتجاوز واقع الأمية والفقر والجهل الذي تتخبط فيه. ويمكن أن نورد من هذه الاختلالات، على سبيل المثال لا الحصر، ما يلي:

– انعدام المساواة في تيسير الولوج إلى التعليم بين المدن والقرى من جهة، وبين الذكور والإناث على مستوى القرى.

– عدم توفر مدارس مجهزة كما ينبغي، حيث تفتقر الفتاة القروية إلى مقعد وطاولة فيما نسميه بالمدرسة في المناطق القروية النائية، بل تفتقر إلى مرافق صحية.

 – عدم توفير أحياء جامعية، ودور للطالبات اللواتي يضطررن إلى التنقل إلى مدن أخرى من أجل استكمال دراستهن، وحتى إن توفر في بعض الأحيان يبقى سؤال الشروط الصحية والسلامة والأمن مطروحا، وما واقع مأساة الحريق الذي نشب في الحي الجامعي محمد الأول بوجدة بتاريخ 12 شتنبر 2022، والذي أودى بحياة طالبين وإصابة العديد منهم، عنا ببعيد.

– عدم توفير البنية التحتية على مستوى الطرق والمسالك الوعرة، حيث تضطر الفتاة في المناطق النائية إلى قطع مسافات طويلة جدا بين الجبال والطرق الوعرة، خاصة أثناء تساقط الأمطار والثلوج.

– عدم توفير أطر تعليمية مستقرة، وهنا نتحدث عن المعلمين والأساتذة الذين يلتحقون بالمدارس في القرى والمناطق النائية، في ظل ظروف صعبة جدا، تستوجب ضرورة التحفيز المادي والمعنوي من أجل مساعدتهم في أداء مهامهم في ظل تلك الظروف القاسية، لا أن نفرض عليهم التعاقد مما يحول دون تحقيق الاستقرار المطلوب.

– عدم توفير مناهج تعليمية تستجيب للمعايير الدولية، وتساعد الفتاة القروية على بناء شخصيتها الإنسانية، وتجاوز الواقع البئيس الذي تتخبط فيه.

 اختلالات كثيرة تحول دون تمكين بناتنا في العالم القروي والمناطق النائية من الولوج للتعليم الذي يكفله القانون الدولي والدستور المغربي، معاناة إن كان يشترك فيها الجميع ذكورا وإناثا، لكن عندما تشتد وطأتها، وتزيد قساوتها، تضطر العائلات، التي تعيش واقع الفقر والجهل والأمية إلى الاختيار بين تعليم الفتى أو الفتاة، لتبقى هذه الأخيرة هي العنصر الخاسر في أغلب الأحيان على اعتبار أنها الحلقة الأضعف في المعادلة.

وخلاصة القول:

لا يمكن تمكين الفتاة القروية والفتاة في المناطق النائية من ممارسة حقها في التعليم، كما تقره المواثيق والقوانين الدولية، إلا بعد الإيمان بأن تعليمها ليس منحة من أحد، ولا امتيازا نتفضل عليها به، بل هو حق إنساني، وواجب وطني، يتعين على جميع المؤسسات الرسمية، ومؤسسات المجتمع المدني، كل من موقعه، تحمل المسؤولية وتكثيف الجهود، من أجل العمل على الوقوف على مكامن الخلل، وتوفير جميع الوسائل والضمانات اللازمة قصد تيسير كل السبل الكفيلة بضمان تعليم قادر على انتشالها من الواقع المرير الذي تتخبط فيه.

يجب على الدولة، والمؤسسات العمومية، والجماعات الترابية، القيام بالدور المنوط بها وتحمل مسؤولياتها التي يفرضها عليها القانون الدولي والدستور المغربي في هذا الباب.

كما يجب على مؤسسات المجتمع المغربي، تحمل المسؤولية كل من موقعه وحدود مسؤولياته؛ مسجدا، ومدرسة، ووسائل إعلام، وجمعيات، ومنظمات، ومجتمعا مدنيا، وأسرة، اتخاذ كل الوسائل الممكنة واعتماد جميع البرامج المطلوبة قصد تيسير تعليم الفتاة القروية، حتى تتمكن من الانعتاق من ربقة الأمية، الجهل، الفقر، والاستغلال بجميع أشكاله.

#_التعليم_حق_للفتاة_القروية