الحج.. معان وأسرار

Cover Image for الحج.. معان وأسرار
نشر بتاريخ

شرع الله عز وجل الشرائع والعبادات ونوعها لعباده تنويعا، وجعل الحكمة الجامعة بين هذه العبادات ومقصودها الأسمى توحيد الخالق وعبادته وإقامة ذكره سبحانه وتزكية النفوس وتدريبها على فضائل الأعمال، ومن هذه العبادات الحج؛ الركن الخامس من الدين وتمامه وكماله. وقد رتب الله عز وجل على هذا المنسك عظيم الأجر والثواب، روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة”، وقال صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص:أما علمتَ يا عمرُو أنَّ الإسلامَ يهدِمُ ما كان قَبلَه وأنَّ الهِجرةَ تهدِمُ ما كان قبلَها وأنَّ الحجَّ يهدِمُ ما كان قبلَه (رواه مسلم).

فما من فريضة فرضها الله إلا ولها من الحِكَمِ والأسرار البديعة والمعاني الجميلة ما لا يحصيها إلا العزيز الحكيم، وفي الحج نصيب وافر من هذه المعاني، وقد اجتمع فيه من العبادات والقربات ما يشارك فيها غيره كالصلاة والذكر والصدقة.. وينفرد بالوقوف بعرفة والطواف بالبيت والسعي ورمي الجمار.. وهي أعمال تتحرج منها النفوس ولا تدرك معناها العقول، لكنها تجسد تمام الخضوع والعبودية لله، والامتثال لشرعه سبحانه، قال الإمام الغزالي رحمه الله في إحيائه: “وإذا اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى ربط نجاة الخلق بأن تكون أعمالهم على خلاف هوى طباعهم، وأن يكون زمامها بيد الشرع فيترددون في أعمالهم على سنن الانقياد وعلى مقتضى الاستعباد. كان ما لا يهتدى إلى معانيه أبلغ أنواع التعبدات في تزكية النفوس وصرفها عن مقتضى الطباع والأخلاق”. فالذي خلق الأنفس هو أعلم بما يقوّم اعوجاجها ويحقق كمالها، وأعظم الكمال التحقق من صدق العبودية والافتقار لله، فالحج امتحان لإيمان المسلم وعقله وإرادته، ومدرسة لاكتساب محاسن الأخلاق.

يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: “فالحج اختيار وتقوية وتدريب لقدرة المؤمن على ضبط شهواته وجوارحه، أشد ما يكون الجسم تحملا لمشقات التنقل، وأشد ما تكون النفس حرجا من الغربة والزحمة. والعمرة كذلك، إلا أنها أقل وطئا. إنها مدرسة الصبر. منهاج تربية. إخراج للمرء من عاداته وأنانيته وإلفه ورخاوته إلى التقيد بالشرع في الحركة والكلمة والخطرة، إلى التواضع والتخلق والتحمل.. إنه استنهاض للنفوس أن ترتفع عن صغائر الأمور وسفسافها إلى التجرد عن الماديات بالتقلل منها والصبر على دواعي الغضب ونوازع الشهوة” (1). قال الله عز وجل: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (البقرة، 197). وجماع التقوى مخالفة الهوى، ومحبة المولى سبحانه، وإخلاص العمل لله، قال الله عز وجل: لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَآؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ (الحج، 37).

والحج استحضار لغد موعود ويوم مشهود ألا وهو يوم القيامة ومواقفها، قال الإمام الغزالي في الإحياء: “وفي كل واحد من هذه الأمور -أي المناسك من إحرام وطواف وغيرها- تذكرة للمتذكر وعبرة للمعتبر وتنبيه للمريد الصادق وتعريف وإشارة للفطن.. فإن أمر الحج من وجه يوازي أمر السفر إلى الآخرة”.

وإذا نودي العبد فأجاب وأعد الزاد وشد الرحال، فليصحح قصده، ويجدد عزمه، وليكن بقلبه لربه متوجها كما كان بوجهه للبيت متوجها، وليعلم أن خير الزاد التقوى، وليستحضر حين خروجه لسفره قاصدا بيت ربه خروجه من الحياة الدنيا بالموت هادم اللذات ومفرق الجماعات، وأن إحرامه كفنه، وأنه يلقى الله عز وجل في الحج بإحرامه وعند الموت بكفنه ظاهرا، وبأعماله التي هي زاده باطنا، وليحرص على أن يطهر هذه الأعمال مما قد يشوبها من سمعة ورياء. وليتذكر أن المولى الذي نادى عباده بالحج، أعد لهم من الخيرات والرحمات ما لا تطمع فيه قلوبهم إن هم تجردوا له بالذل والافتقار، والعبودية والانكسار، قال صلى الله عليه وسلم وهو بمنى: “لو يعلم أهل الجمع بمن حلوا لاستبشروا بالفضل من ربهم بعد المغفرة” (رواه البيهقي والطبراني عن ابن عباس رضي الله عنه).

وفي حديث آخر: “الحجاج والعُمار وفد الله عز وجل، يعطيهم ما سألوا ويستجيب لهم ما دعوا ويخلف عليهم ما أنفقوا الدرهم ألف ألف” (رواه البيهقي عن أنس رضي الله عنه).

إن علم العبد هذا فليستحضر موقفه مع ربه، ومعالجته لسكرات الموت وكربته والقبر ووحشته، وأنه على وشك أن ينقطع عمله وينقضي أجله وتطوى صحائفه، وأنه في آخر منازل الدنيا، وأول منازل الآخرة، فليتذكر أن يجعل حينئذ آخر عهده بالدنيا توبة لله، وصلحا مع عباده برد الحقوق والمظالم، فإن كان الحج يهدم ما قبله فإن التوبة تجب ما قبلها، وليجعل هديه الخوف والرجاء، ففي هذا الموقف يكون الله عز وجل بعباده التائبين أشد رحمة ولتوبتهم أشد فرحا.

وليستحضر أن الميقات هو بعثه يوم القيامة، وتقلبه في المناسك وبين المشاعر هو تقلبه في منازل الآخرة من صراط وحساب وانتظار الجزاء، ووقوفه بعرفة هو وقوفه بين يدي ربه ينتظر الحساب، ويرتجي الستر والغفران، وأنه في موقف حيرة وذهول لا يدري إلى ما ينتهى حاله، أهو ممن قال فيهم سبحانه: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ۝ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (النازعات، 40-41)، أم ممن أغرتهم الدنيا بشهواتها والنفس بنزواتها فاستكان إليها حتى حق عليه العذاب. وليتذكر وهو يرمي الجمرات أنه ما أورد الناس سوء الموارد إلا كيد الشيطان واستجابة النفس وهواها لدواعيه، وأن المولى قد حذر وأنذر، قال سبحانه: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ(يس، 60-61).

وليعلم وهو في زيارة المصطفى صلى الله عليه وسلم سيد العابدين وإمام المتقين ومنة الله على المسلمين ورحمته للعالمين، أنه ما من خير إلا ونبينا سببه، وأن خير الهدي هديه، وأنه لا نجاة للخلائق إلا باتباعه والتأسي به في عبادته وآدابه وخلقه، وأنه صلى الله عليه وسلم شفيعنا عند الله سبحانه يوم القيامة، وأن أولى الناس بشفاعته وأقربهم منه منزلة يوم القيامة أكثرهم صلاة عليه، وأن أدناهم منه منزلة أحاسنهم خلقا، وأنه صلى الله عليه وسلم تعرض عليه أعمالنا؛ فإن وجد خيرا حمد الله، وإن وجد غير ذلك استغفر لنا. وليكن دأبك الصلاة والتسليم واستغفار المولى الرحيم عسى أن تكون ممن حقت لهم شفاعة النبي الأمين صلى الله عليه وسلم.

أمر الله عز وجل سيدنا إبراهيم أن يرفع قواعد بيته الذي هو على الأرض ويطهره لعباده الصالحين، قال سبحانه: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (البقرة، 125). وقال: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (البقرة، 127). كذلك أمر الله عباده بتطهير بيته سبحانه الذي هو في أنفسهم ألا وهو القلب، وأن يرفعوا قواعد هذا البيت برفع دعائم الدين وقواعده على أسس الإسلام؛ من شهادة، وإقامة الصلاة وإتقان أركانها الظاهرة والباطنة، والصيام، والزكاة، وتحقيق التوبة والاستقامة. إذ الغاية العظمى من فرض الفرائض ومنع المحرمات هي تطهير قلوب العباد من الفواحش ظاهرا وباطنا، ليصلحوا لسعادة الدنيا والآخرة، ولا عبرة بعبادة لا تعلو بصاحبها لمقامات القرب والتقوى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، قيل: وما بره؟ قال: إطعام الطعام وطيب الكلام” (رواه الإمام أحمد والطبراني).


(1) عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ط 1989/2، ص 442 – 443.