الحج.. شوق وذوق

Cover Image for الحج.. شوق وذوق
نشر بتاريخ

ذو الحجة هيج الأشواق، فذابت القلوب لبيت الخلاق، وغدت الأرواح تحلق في الآفاق. والأعين بالدمع رقراقة، لرؤية أنوار الكعبة تواقة، حبسها العذر عن النظرة، فما وجدت سوى العبرة.

عزاؤنا تفكر وتدبر لآيات الكتاب المنير، وتفحص وتمعن لسيرة سيد الأولين والآخرين، وسيرة آله وصحبه الغر الميامين، نطوف ونجول بأرواحنا حول معاني الحج وأسراره، إلى حين يبلغنا الله فيه التمام بحج الروح والجسد.

الأهلة

ما كان للصحابيين الجليلين معاذ بن جبل وثعلبة بن غنمة علم بالجغرافيا حين بادرا بسؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهلال، قالا: يا رسولَ اللَّهِ ما بالُ الْهلالِ يبدو ويطلُعُ دقيقًا مثلَ الخيطِ ثمَّ يزيدُ حتَّى يعظُمَ ويستويَ ويستديرَ ثمَّ لا يزالُ ينقصُ ويدقُّ حتَّى يعودَ كما كانَ؟ (1). فأجابهما خالق الكون الحكيم بما هو أنفع وأحرى أن يقربهم إليه سبحانه، قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ۖ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ (البقرة، 188).

والأهلة جمع هلال، هي ضبط دقيق للمواقيت؛ بها يعرف وقت الصوم والفطر، وتعرف النساء مواقيت الديون والآجال، والأعظم من ذلك يعرف وقت الحج.

الحج

هو خامس أركان الإسلام، وشعبة من شعب الإيمان، وباب من أبواب الجهاد.

والحج لغة معناه القصدُ، حَجَّ يحُجّ: قَصَد يقصِد. الحج توجه وقصد، والمقصود الله في بيته. فقد حول ربنا عز وجل القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام ليعلم نبيه الكريم ويعلمنا نحن المسلمين من بعده أن المقصود هو المعبود، فلا نتوجه إلى المعبد وننسى المعبود.

نقصد الله كل يوم بالصلاة؛ نصلي ونربط الصلة به، ونناجيه سبحانه. نقصده ونطيعه بالصوم والزكاة. ونقصده كذلك مرة في العمر في وقت معين ومكان معين بالحج الذي فرضه علينا في سورة البقرة الآية 195؛ قال تعالى: وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ لِلَّهِ.

ونقرأ في السيرة العطرة أن أبا هريرة قال: “سُئِلَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: أيُّ الأعْمالِ أفْضَلُ؟ قالَ: إيمانٌ باللَّهِ، قالَ: ثُمَّ ماذا؟ قالَ: الجِهادُ في سَبيلِ اللهِ قالَ: ثُمَّ ماذا؟ قالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ” (2).

وروى الإمام البخاري أن سيدتنا عائشة رضي الله عنها قالت: “قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، ألَا نَغْزُو ونُجَاهِدُ معكُمْ؟ فَقالَ: لَكِنَّ أحْسَنَ الجِهَادِ وأَجْمَلَهُ الحَجُّ، حَجٌّ مَبْرُورٌ، فَقالَتْ عَائِشَةُ: فلا أدَعُ الحَجَّ بَعْدَ إذْ سَمِعْتُ هذا مِن رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ” (3).

وروى الإمام النسائي عن أبي هريرة حديثا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: “جهادُ الكبيرِ والصَّغيرِ والضَّعيفِ والمرأةِ الحجُّ والعمرةُ”.

أشهر الحج

أيام النسك معدودات، لكن أشهر الحج معلومات، قال تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ (البقرة، 196).

تبدأ أشهر الحج من شوال ثم ذي القعدة فذي الحجة، يهيء فيها العازم على أداء فريضة الحج قلبه لاستقبال الرحمات والنفحات التي يغدقها الله عز وجل على حجاج بيته وضيوفه الكرام، فلا رفث ولا فسوق ولا جدال، بل تعظيم وإقبال وفرار إلى الله، إعداد واستعداد.

يخلص النية لله، يودع الذنوب والعيوب وأهواء النفس وعاداتها قبل توديع الأهل والأحباب. يرد المظالم إلى أهلها من ديون وودائع، يعتذر ويطلب الصفح ممن ظلمهم ويعفو عمن آذوه وأساؤوا إليه، ويخالق القريب والبعيد بالخلق الحسن.

هي إذن تخلية قبل تحلية، تحلية القلب بالذكر والتقرب إلى الله بالصوم والنوافل والدعاء والتضرع إليه سبحانه وتعالى بالأسحار وفي كل وقت وحين، أن يبلغه المرام ويزيح عن طريقه كل ما يعيق الوصول إلى ذاك المقام.

زاد الحاج

قال تعالى في سورة البقرة الآية 196: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى. إلى جانب الزاد القلبي الروحي، لابد لمن ينوي حج بيت الله من زاد مادي وفقهي ثم زاد من المعاني.

– الزاد المادي؛ من مال وملابس وأدوية وخصوصيات قد يكون تركها أو إهمالها معيقا لأداء النسك على أكمل وجه.

– الزاد الفقهي؛ يجده في كتب الفقه أو يسأل عنه أهل الاختصاص، فيعرف فضل الحج وحكمه وشروط صحته وفروضه وسننه ومحظوراته.

– زاد المعاني؛ يجدها في الكتب المشوقة إلى بيت الله، ككتاب “التشويق إلى البيت العتيق” لجمال الدين الطبري المكي. يقرأ فيها أخبار السابقين الأولين؛ أهل المحبة والذوق، الذين فقهوا أن للحج معان تزيد التعظيم لشعائر الله متعة وأنسا، فكانوا يستعدون له في الأشهر الثلاث التي تسبق أشهر الحج، من رجب وشعبان ورمضان.

يرون في الإحرام موعظة؛ إزار ورداء كأنه كفن يجردهم من الدنيا ويذكرهم بيوم الرحيل إلى الله عز وجل والإقبال على الآخرة.

يجددون العهد مع خالقهم، ويجددون الشهادة له بالوحدانية، فيلبون محبة ورغبة، واستجابة لنداء سيدنا إبراهيم وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (الحج، 27). يلبون موقنين بأن ما من حجر ولا شجر إلا ويلبي معهم، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ (الحج، 18).

روى الترمذي عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من مسلمٍ يلبِّي إلَّا لبَّى من عن يمينِه أو عن شمالِه من حجرٍ أو شجرٍ أو مدرٍ حتَّى تَنقطعَ الأرضُ من هاهنا وَهاهنا” (4).

يطوفون كأنهم في يوم حشر ونشر، يعيشون حالة اضطرار وافتقار وانكسار وفرار إلى الله. يبكون ويتضرعون وينتظرون الغفران من الكريم الحليم.

يرون الكعبة وحجرها (حجر إسماعيل) كأنها الأم التي تحتضن ابنها وتحتضنهم معها.

يشربون من شراب الأبرار؛ ماء زمزم، فيذكرون الوليد إسماعيل الذي وضع في أرض غير ذي زرع.

يشربون ويتعوذون من النفاق، فيزمزمون أفواههم عن الغيبة والنميمة، وعقولهم عن الوساوس، وقلوبهم عن الغل والحسد والحقد، وأنفسهم عن الأمر بالسوء، وأعينهم عن الخائنة.

يفدون يوم التروية إلى منى، يدخلون أرض الفدية والبيعة وكل مناهم ذكر الله تعالى والوقوف بعرفات، حيث معرفة الله عز وجل بالدعاء الذي هو مخ العبادة.

يقفون بين يدي مولاهم فرحين بنعمة الله ورحمته أن دحر عدوهم الشيطان وباهى بهم الملائكة، طامعين في عفوه وغفرانه وعتق رقابهم من النار.

يزدلفون في المزدلفة ويرجمون شيطان النفس قبل شياطين الإنس والجن، يذبحون النفس الأمارة بالسوء هديا لله، يحلقون خاضعين متذللين لبارئهم، طامعين في رحمته الواسعة.

ثم يفيضون مفردين الله بالعبادة، ومقرنين العبادة باتباع سيد العابدين طه المصطفى الأمين.

آداب الحاج وأخلاقه

فاز من أخذ عن أهل المعنى، أرباب القلوب، يحذو حذوهم ويسلك مسلكهم. 

يتسلح بالصدق والعلم والرفقة الصالحة المذكرة بالله، المعينة على أداء الطاعات.

يضع ليومه وليلته برنامجا للذكر وتلاوة القرآن.

يطوف ويكثر الركوع والسجود التي طهر بيت الله من أجلها؛ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (الحج، 24).

يقبل الحجر الأسعد امتثالا لأمر الله، وشوقا وهياما بالناطق بالوحي صلوات الله وسلامه عليه.

يسعى بين الصفا والمروة بحب وتقدير وتعظيم للأسرة الثابتة الصابرة على الابتلاء، المجتهدة المتوكلة على ربها، أسرة سيدنا إبراهيم عليه السلام.

يا سعد زائر وطأت قدماه معالم الإسراء ومهبط الوحي، غار حراء، وغار ثور، ودار الأرقم بن أبي الأرقم، واكتملت سعادته بزيارة المدينة المنورة، مدينة خير الورى؛ حبيب الحق، إمام الأصفياء، سيد الحنفاء، وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم.

يسير في أرضها، أرض شرفت بقدمه وأقدام آله وصحابته رضوان الله عليهم.

يدخل المسجد النبوي، يصلي ويتوجه إلى الروضة الشريفة يسلم على الشفيع المشفع، وعلى ضجيعيه أبا بكر وعمر، يثني على الله ويسأله المغفرة.

قال الإمام عبد القادر الجيلاني في كتاب ‘الغنية’: (… فليقل: اللهم إنك قلت في كتابك لنبيك: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا (النساء، 64). وإني أتيت نبيك تائبا من ذنوبي مستغفرا. فأسألك أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حال حياته، فأقر عنده بذنوبه، فدعا له نبيه، فغفرت له. اللهم إني أتوجه إليك بنبيك عليه سلامك نبي الرحمة. يا رسول الله! إني أتوجه بك إلى ربي ليغفر لي ذنوبي) (5).

وأينما حل وارتحل يعامل ضيوف الرحمان وجيران رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخلق الحسن والكلمة الطيبة، يصبر على الأذى، ويحسن الظن، ويحافظ على صفاء القلب. قال رسول صلى الله عليه وسلم: “الحجُّ المبرورُ ليسَ له جزاءٌ إلا الجنةَ. قالوا: يا نبيّ الله ما برّ الحجّ المبرورُ؟ قال: إطعامُ الطعامِ وإفشاءُ السّلامِ” (6). يحرص على التواضع، يخدم ويعين إخوانه الحجيج. يرجو بلوغ مرتبة المجاهدين في سبيل الله، فينفق ويتصدق من ماله على المحتاجين منهم، قال صلى الله عليه وسلم: “النَّفقةُ في الحجِّ كالنَّفقةِ في سبيلِ اللهِ بسبعِمائةِ ضعفٍ” (7).

الحج يهدم ما قبله

يحكي سيدنا عمرو بن العاص قصة إسلامه فيقول: “فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الإسْلامَ في قَلْبِي أتَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَقُلتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلأُبايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي، قالَ: ما لكَ يا عَمْرُو؟ قالَ: قُلتُ: أرَدْتُ أنْ أشْتَرِطَ، قالَ: تَشْتَرِطُ بماذا؟ قُلتُ: أنْ يُغْفَرَ لِي، قالَ: أما عَلِمْتَ أنَّ الإسْلامَ يَهْدِمُ ما كانَ قَبْلَهُ؟ وأنَّ الهِجْرَةَ تَهْدِمُ ما كانَ قَبْلَها؟ وأنَّ الحَجَّ يَهْدِمُ ما كانَ قَبْلَهُ؟” (8).

وعن شعبة بن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يقول: كَانَتِ الأنْصَارُ إذَا حَجُّوا فَرَجَعُوا، لَمْ يَدْخُلُوا البُيُوتَ إلَّا مِن ظُهُورِهَا، قالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ فَدَخَلَ مِن بَابِهِ، فقِيلَ له في ذلكَ، فَنَزَلَتْ هذِه الآيَةَ: وَليسَ البِرُّ بأَنْ تَأْتُوا البُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا (البقرة: 189).

وقال إمام التابعين الحسن البصري رضي الله عنه: “الحج المبرور أن ترجع من الحج زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة”.

بعد الحج بناء

يعود الحاج إذا تقبل الله حجه وقد غفر الله ذنوبه ومحا سيئاته، تصبح صفة الحاج ملازمة للإنسان، حجة له أو حجة عليه. فلا ينقض غزله بعد بذل جهد الروح والعقل والجسد، ويأتي البيت من ظهره، بل يتقي الله ويتخلص من عاداته التي لا أصل لها في الدين، تفيض رحمته على من حوله. يحافظ على دار إسلامه فيتعهد أركانها وأعمدتها؛ يتفقد شهادته وصلاته (طهارتها، فرائضها، سننها، خشوعها..)، يعيد النظر في زكاته وصيامه. ويسعى إلى الارتقاء في مدارج الدين؛ من إسلام إلى إيمان إلى إحسان.

أدعو الله عز وجل أن لا يحرمنا شرف المرابطين والمجاهدين وأن يكرمنا بحح بيته المحرم، آمين.


(1) الدر المنثور، 2/305.

(2) صحيح مسلم، 83.

(3) صحيح البخاري، 1861.

(4) صحيح الترمذي، 828.

(5) ياسين عبد السلام، الإحسان، ج 1، ص 184.

(6) السنن والأحكام، 4/8.

(7) الترغيب والترهيب، 2/175.

(8) صحيح مسلم، 121.