التوبة وظيفة العمر

Cover Image for التوبة وظيفة العمر
نشر بتاريخ

يقول الله عز وجل ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 1 التوبة من أصول التربية والسلوك إلى الله عز وجل، ومن الطاعات العظيمة والعبادات الجليلة جعلها سبحانه وتعالى بابا مفتوحا وحبلا ممدودا منه لعباده، بها يجبر ضُعفهم ويطهِّر أدرانهم.

فالنفس البشرية يستحوذ عليها الهوى والشهوات فيضعف إيمانها، فتصبح إلى معصية ربها والبعد عنه أقرب، لذلك جعل الله سبحانه التوبة وظيفة العمر؛ عنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ،حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا”، فلا يمل سبحانه وتعالى من قبول التوبة حتى يمل العبد منها؛ عن أبى سعيد مرفوعاً “إن الشيطان قال: وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم ، فقال الرب تبارك وتعالى: وعزتى وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفرونى” 2.

كان إمام المرسلين وخاتم النبيين وخير التائبين صلى الله عليه وسلم يقول: “والله إني لأستغفر وأتوب في اليوم أكثر من سبعين مرة” 3، وقال لأصحابه “كُلُّ بَنِي ءادَمَ خَطَّاءٌ وخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ” 4، و في حادثة الأفك قال عليه الصلاة والسلام لأمنا عائشة الطاهرة: “أما بعد، ياعائشة، إنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة، فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب، فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف ثم تاب، تاب الله عليه” 5.

تحلى الصحابة بهدي رسول الله فصارت التوبة صفتهم، تابوا رضوان الله عليهم من الشرك إلى التوحيد، ومن الجاهلية إلى الإسلام، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن الحمية إلى الولاء لله ورسوله، ومن الفرقة إلى التكتل والتحزب لله.. تابوا توبة شاملة جامعة دعاهم الله عز وجل إليها هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ، فاستجابوا بكل إرادة واختيار وقوة وعزم وثبات وإصرار، لا يثنيهم الضعف إذا حل بساحتهم والمعصية إذا ابتلوا بها وإن عادوا وعادوا بل يرجعون على أنفسم باللوم والمحاسبة، وإلى ربهم بالإستغفار والتوبة، فهو الذي يفرح بالعائد إذا تاب ويقابل الزلة بالمغفرة ويبدل السيئة بالحسنة ويعفو عن كثير؛ قال عز وجل قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ 6 .

جاءت المرأة الغامدية تائبة إلى الله ورسوله توبة وصفها صلى الله عليه وسلم أنها لو وزعت على أهل الأرض لوسعتهم، وتاب سيدنا أبو هريرة حين قالت له امرأة إني “زنيت وقتلت ولدي من الزنا” فقال لها “هلكت وأهلكت، والله مالك من توبة”، راجع نفسه رضي الله عنه واستفتى رسول الله في ذلك، فقال له صلى الله عليه وسلم: “إنا لله وإنا إليه راجعون أنت والله هلكت وأهلكت أين كنت عن هذه الآية والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون إلى قوله فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما  الفرقان 70 -68، خرج بعدها رضي الله عنه تائبا وبحث عن المراة يبشرها بقبول توبتها…”.

وتاب سيدنا أبو بكر حين أقسم بعد حادثة الإفك: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا، بعد الذي قال لعائشة ما قال. فأنزل الله: ولا يأتل أولوا الفضل منكم  إلى قوله  غفور رحيم. قال أبو بكر الصديق: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فأرجع إلى مسطح النفقة التي ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا.

هؤلاء خير القرون وخير من اهتدى، كانت التوبة عندهم وفيهم سلوكا إيمانيا جماعيا ومشروعا مجتمعيا. أعطوا رضي الله عنهم للبشرية نموذجا للشخصية المومنة القوية الحرة، ونموذجا فاضلا لبيئة نقية سليمة يأمن فيها المرء على دينه ودنياه أن تزيغ به دواعي الفتنة، بيئة يجد فيها المرء على الثبات على الحق أعوانا، وعلى كبح النفس والهوى وازعا.

ذاك سير خير القرون، كيف بنا إذن ونحن في زمن غربة الدين وعصر الفنتة العارمة الهاجمة علينا من كل جهة، وقد بلي إيماننا وقعدت بنا هممنا في مستنقع الخمول والبعد عن الله لا ننكر من أنفسنا منكرا ولا نأمرها بمعروف؟ كيف نحقق فينا صفة خير الأولين خير التوابين المتطهرين؟

لنتوب توبتهم نحتاج شجاعة وإرادة قوية لنفحص أنفسنا ونغالب هواها ونواجهها بشرورها وسيئات أعمالها… لا يصدنا عن ذلك غفلة الغافلين وشرود الشاردين عن دين ربهم فنكون إمعة؛ لا ننكر منكرا ولا نعرف معروفا إن أحسن الناس أحسنا وإن أساؤوا أسأنا.

نحتاج لمعرفة حدود الله ومعرفة الحلال والحرام، ومراتب الذنوب والآثام وعواقبها وعقابها لنعرف إلى أين نسير.

نحتاج أن تستيقظ قلوبنا من الغفلة، لتعلم أن الدنيا مزرعة الآخرة وأن اليوم عمل وغدا حساب، وأن المرء سوف يلاقي ربه فيسأله عن جرمه وجريمته وأن المآل إما جنة أو نار.

نحتاج لصحبة التائبين اليقظين ومجالستهم والتأسي بهم عسى ترفعنا همتهم لنكون منهم ونتصف بصفاتهم، ما كان الصحابة تائبين إلا بصحبتم لخير التوابين. قال الله عز وجل: واتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَاب إِلَيَّ… 7. خرج سيدنا أبو بكر وحنظلة من مجلس رسول الله صلى الله عليه سلم فقال حنظلة لصاحبه: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قَالَ أبو بكر: سُبْحَانَ اللهِ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، فَنَسِينَا كَثِيرًا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا…

نحتاج لنية وعزم ثابت على الإقلاع عن المعصية والانضباط بالشرع والتقيد به، فالتوبة ليست ندم على ما فات وكفى بل التوبة تغيير حال بحال أحسن منه، التوبة رجوع صادق إلى الحق، التوبة طهارة، التوبة وضوء وصلاة وقرآن، وطاعات وأعمال صالحات، التوبة رعاية لحقوق العباد وتصالح، وإٍرجاع للمظالم.

يقول الإمام عبد القادر الجيلاني رحمه الله: (اهجر طبعك وهواك وشيطانك ولا تَركَنْ إليهم… التوبة قلب دولة. من تاب ولم يغير ما كان عليه قبل التوبة فقد كذب في توبته).

نحتاج أن نفهم أن التوبة (وظيفة العمر) لا تنتهي. وسلوك إيماني يرتقي بالعبد ليكون من الذنوب طاهرا متطهرا ومن الغفلة عن الله مستيقظا ولوجهه طالبا…

نحتاج أن نفهم أن التوبة (مشروع مجتمعي)، فإذا كانت التوبة سلوكا إيمانيا لكل أفراد المجتمع؛ يتواصون به ويتسابقون في التربية عليه والتحلي به، فهي لا شك مشروع مجتمعي رائد لإصلاح ما حل بمجتمعاتنا من ضعف وظلم وتظالم، وفاحشة، وفقر وتجهيل، وجرائم… لقوله تعالى: إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم ذكرت الآية (قوم) – والقوم جماعةُ من النَّاس تجمعهم جامعة يقومون لها – قال الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: (إن تغيير ما بالنفس بتزكيتها مقدمة لتغيير ما بواقع الفرد، ثم تغيير أحوال الأمة، فإنَّ هذه الآية “تشير في عموم إطلاقها إلى أن المسلم التائب عندما يتغير موقفُه من نفسه، ومن خالقه، ومن الكون، وعندما تتغير علاقاته تبَعا لذلك الموقف، وأخلاقُه، وتصورُه، يتغير ما به من رذيلة، وظلم اجتماعيٍّ، واستبداد سياسيٍّ، وعجز اقتصاديٍّ، وخمولٍ فكريٍّ، وتبعيةٍ للجاهلية) 8 عندئذ سيعي الإنسان معنى قوله صلى الله عليه وسلم “المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاته وصيامه وزكاته ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا” 9 ومعنى قوله “ليس المؤمن الذي يبيت وجاره إلى جنبه جائع” 10.

إن قانون التغيير الإلهي قائم على تغيير الإنسان، والإنسان جوهره قلبه الذي هو مأوى الأمراض النفسية والاجتماعية من غفلة واستكبار وأنانية وشهوة وكراهية واستبداد… قال عليه الصلاة والسلام: “ألا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ” 11 فلا ولن يصلح جسد الأمة إلا بصلاح قلوب أفرادها، والصلاح وسيلته التربية، وأول خطى التربية التوبة بمعناها الشامل الجامع لسلوك إيماني جماعي مجتمعي لا ينفصل فيه مصير العبد اليوم وغدا عن مصير أمته.


[1] سورة التحريم: 8.
[2] رواه الحاكم.
[3] رواه البخاري.
[4] رواه الترمذي.
[5] رواه البخاري.
[6] الزمر: 53.
[7] لقمان آية 15.
[8] عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، ص: 180.
[9] رواه الترمذي.
[10] رواه الحاكم.
[11] رواه البخاري.