التغافل في الإسلام

Cover Image for التغافل في الإسلام
نشر بتاريخ

معنى التغافل

التغافل هو تعمد الغفلة، هو تكلف الغفلة مع العلم والإدراك لما يتغافل عنه تكرما وترفعا عن سفاسف الأمور.

التغافل فن من فنون التعامل مع الناس لا يتقنه إلا كل حليم. قال أحد الحكماء: وجدت أكثر أمور الدنيا لا تجوز إلا بالتغافل.

قليل منا من يتخلق بهذا الأدب الرفيع والخلق العظيم والفن الراقي في التعامل، فالتغافل فن لا يحسنه إلا الكرام الأفاضل ذوو المروءة. وما أحوجنا أن نتخلق به في وقتنا الحاضر؛ في زمن كثرت فيه الأحكام وطلب الماديات، فكان لذلك أثرا على الآداب والأخلاق، فكثرت بذلك الهفوات والأخطاء، ولا شك أن مجال استعمال هذا الأدب واسع فسيح في حياة الإنسان؛ الصديق مع صديقه والجار مع جاره والقريب مع قريبه والأب مع أبنائه والزوج مع زوجته والمدير مع موظفيه والمعلم مع طلابه….

نحتاج إلى أدب التغافل وغض الطرف عن الهفوات والأخطاء في كل معاملاتنا، وفي أغلب مواقف حياتنا. وأحق الناس بالتغافل وغض الطرف عن أخطائهم الصغيرة وزلاتهم غير المقصودة أقرب الناس وأكثرهم احتكاكا بنا، قال ابن المبارك:

والمؤمن يطلب المعاذير** والمنافق يتصيد الزلات

وقال الشاعر:

من ذا الذي ما سـاء قط ** وله الحـسـن فـقـط

أدب التغافل

أدب التغافل جاء في قوله تعالى وهو يتحدث عن أشرف الخلق وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا، فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض، فلما نبأها به قالت من انبأك هذا قال نبأني العليم الخبير (التحريم، الآية 3).

قال الله تعالى: عرف بعضه وأعرض عن بعض.

يدلنا المولى عز وجل على قاعدة تربوية راقية، هي غض الطرف عن بعض الهفوات والأخطاء والبعد عن عدها وإحصائها وهو ما يسمى بأدب التغافل.

والتغافل عن الأخطاء ليس دليلا أبدا على السذاجة والغباء كما يظن البعض، فكثير من المتغافلين يحكم عليهم بعض المتسرعين في إصدار الأحكام على الناس بأنهم سذج أو أغبياء أو جبناء، جهلا منهم وقلة حكمة، لأن التغافل في مواقف كثيرة يكون هو العقل ومنتهى الحكمة والمروءة. قال الإمام الشافعي: (الكيس العاقل هو الفطن المتغافل).

فرق شاسع بين أن تقصد الغفلة وتتعمدها وأن تكون جبانا وساذجا وغبيا، فالأول محمود والثاني مذموم. فإنك إنما تقصد الغفلة وتتعمدها لحكمة تلمسها ولأهداف ربانية تقصدها وهذا خلق. قال الشاعر:

ليس الغبي بسيد في قومه ** لكن سيد قومه المتغافل

ويقول آخر:

لقيت في درب التغافل سلامات ** ندري نمضي كأننا ما درينا

أغض فكري عن كثير العلامات ** دام الرقيب الله عليك وعلينا

نماذج لعظماء

ومن تتبع سير العظماء نجد أن من أعظم صفاتهم أدب التغافل وغض الطرف.

فهذا سيد الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا أدب التغافل فيقول لأصحابه “لا يُبَلِّغُنِي أحدٌ من أصحابي عن أحدٍ شيئًا، فإنِّي أحبُّ أن أخرج إليكم وأنا سَلِيم الصَّدر”.

فلم يكن عليه الصلاة والسلام يتتبع زلات أصحابه أو يبحث عن أخطائهم، بل كان ينهى عن التجسس والتحسس وتتبع العورات وتفسير المقاصد، ولم يرضى أن يخبره أحد عن أحد شيئا حتى يبقى سليم الصدر محبا لجميع أصحابه.

وقد سأل سيدنا عيسى عليه السلام الحواريين: كيف تصنعون إذا رأيتم أخاكم نائما وقد كشف الريح ثوبه عنه، قالوا: نستره ونغطيه. قال: بل تكشفون عورته، قالوا: سبحان الله، من يفعل هذا؟ فقال: أحدكم يسمع بالكلمة في أخيه فيزيد عليها ويشيعها بأعظم منها.

وقال ابن الأثير متحدثا عن صلاح الدين الأيوبي: (وكان صبورا على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره ولا يعلق رغم ذلك ولا يتغير عليه).

وعن أحد الحكماء: أن رجلا جاءه فقال له فلان شتمك في أحد المجالس، فرد عليه: إن كان فلان رماني بسهم فلم يصبني، فلماذا حملت السهم وغرسته في قلبي؟

فوائد التغافل

من أعظم فوائد وثمرات هذا الأدب: أنه يكسب صاحبه طمأنينة النفس وراحة البال، سواء أتعرض لهذا الأدب مع الصديق أو مع العدو، فقد كان لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم إسوة حسنة، حيث كان المشركون يسبونه ويشتمونه فكان يقول لأصحابه: “ألا تعجبون كيف يصرف الله عنّي شتم قريش ولعنهم! يشتِمُون مُذَمَّماً، ويلعنون مُذَمَّماً، وأنا محمّد”، مع علمه أنهم يقصدونه.

قال القائل:

وقد أمر على السفيه يسبني ** فمضيت ثمة وقلت لا يعنيني

من فوائد التغافل أنه يسد باب النكد والشقاء على صاحبه، فعن علي كرم الله وجهه قال: (من لم يتغافل تنغصت عيشته). وهذا ما يعانيه الإنسان اليوم، يسمع ما يكره فيفكر فيه ويستمر في التفكير فيه وينغص عيشته، فالذي يقف عند كل كلمة وكل حركة وعلى كل خطأ أو يحاسب على كل صغيرة وكبيرة هو أكثر الناس شقاء وتعاسة.

من فوائد التغافل دوام المودة والعشرة سواء بين الأقارب أو الأصدقاء أو الأزواج… فكم من علاقات فسدت بسبب خطإ بسيط، وكم من بيت هدم بسبب تتبع الأخطاء والعثرات…

ثمرة التغافل

من ثمرات التغافل دوام الصلة الطيبة بين الآباء والأبناء خاصة في فترة المراهقة، هذه الفترة العمرية مراهقة للأبناء ومرهقة للآباء، يجعلها التغافل أكثر يسرا على المربي، فكثير من الآباء يترصدون أخطاء أبنائهم ويحصونها مهما كانت صغيرة، ويذكرونهم بها كلما سنحت الفرصة لذلك، ويكون ذلك سببا في تحطيم شخصياتهم واكتسابهم لعادات سيئة كالكذب والعناد، لتصير العلاقة بينهم سيئة ومكفهرة، وربما ينتج عن تلك المعاملة مشاكل لا تحمد عقباها، منها زوال الهيبة.

من ثمرات أدب التغافل أن يطفئ ما يمكن أن ينتج عنه الضر والشر لأن إحصاء كل صغيرة وكبيرة أمر لا يطيقه لا الكبير ولا الصغير، لا القريب ولا البعيد، وهو في الكثير من المواقف يشعل شرارة الغضب والشحناء في القلوب.

التغافل يكسب صاحبه الاحترام والتقدير، فالذي يتعامل بأدب التغافل وغض الطرف عن الزلات، يعيش محبا ومحتكما لمن حوله محبوبا بينهم، يعيش مطمئن القلب، هنيء البال، سليم الصدر من الأحقاد.

خاتمة

قال الإمام أحمد بن حنبل: (العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل).

ويقول الحبيب المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه: “من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه” حسن رواه الترمذي.

من واجبنا الحفاظ على وقتنا من الضياع، وديننا من الصوارف التي تصرفه عن المسارعة في الخيرات والتزود من الصالحات التي تعيننا على تزكية النفس وتربيتها على معاني الجد في العمل. نسأل الله تعالى أن يعيننا على حسن استغلال الأوقات، وأن يجنبنا فضول الملذات إنه جواد كريم. والحمد لله رب العالمين.