التجربة الشخصية للإمام ياسين من خلال كتاب “السلوك إلى الله” للأستاذ العلمي

Cover Image for التجربة الشخصية للإمام ياسين من خلال كتاب “السلوك إلى الله” للأستاذ العلمي
نشر بتاريخ

مقدمة

إذا كان بذكر الصالحين تتنزل الرحمات، فإن التأليف عنهم لَمِن الزاد الذي يرجى ثوابه، ومن الذود عن دعوتهم السديدة وسيرتهم المجيدة، وما أحسب السِّفْر القيم الذي نجتمع اليوم عليه إلا واحدا من الكتابات الراقية التي تفيض بأنوار العرفان، وتصف مقام الإحسان لمن سمع النداء الرفيق الرقيق رواية عن صاحبه: “من هنا الطريق… من هنا البداية”، فنهض ليتصف تحققا من السلوك الجهادي الإحساني الذي ينقلنا نقلا من أجواء الدروشة والتناوم، وينهانا نهيا عن الذوبان في حمأة الحركية المفرطة، ويحمل من أحاطت به العناية الإلهية إلى رحاب التوازن المطلوب المرغوب الذي يزاوج بين السعي الحثيث لبلوغ مراتب الإحسان والجهاد المتواصل لإقامة دولة القسط والعدل. وهذا هو الملمح الكبير والسمة المميزة للتجربة الشخصية في طريق السلوك إلى الله تعالى للإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله، أتناولها بما تناولها به الكتاب لا من منطلق السرد التاريخي المحض الذي يقتصر على استدعاء الأحداث وفقا لسيرورتها الزمانية والمكانية بل بطريقة موضوعية تتناول التجربة في حمولتها العرفانية التغييرية على مستوى الفرد والأمة، ومن ثمة ارتأيت رصد التجربة الشخصية للإمام كما عاشها رحمه الله تعالى قبل تأسيس الجماعة، ثم تجربته الشخصية كما بثها في الجماعة ومن خلالها في الأمة.

وأتقدم بين ذلك بملاحظات منهجية؛ ذلك أن كل ما كتبه فضيلة الأستاذ المؤلف يعتمد فيه بدقة على التوثيق والتأصيل من كتابات الإمام وحواراته ووصاياه يرجع إليها في مظانها، مما يغنيني أثناء العرض عن التنبيه لذلك خشية الإطالة، وثانيا ما سأعرضه عن التجربة الشخصية للإمام رحمه الله تعالى يتداخل فيه التنظير والتفعيل مما يقتضيه تصور الإمام الملهِم الشامل للسلوك الجهادي الإحساني، وأخيرا ما سأعرضه بحول الله تعالى وتوفيقه إنما هو نتيجة استقراء تتبعي لما جاء في هذا السفر الكريم اعتمدت جله باختزال أرجو أن يستوعبه عمر المداخلة، وتشويقا للمتتبع للمطالعة المتأنية للكتاب بمجمله، وحقيق به أن يفعل.

أولا: التجربة الشخصية للإمام كما عاشها قبل تأسيس الجماعة

أشير ابتداء إلى مفهوم التجربة الشخصية كما وردت في الكتاب على لسان صاحبها الإمام رحمه الله تعالى حين قال: “أعني العمق الروحي الذي يحصل للعبد بعد أن يُصبح تمسُّكه بحبل الله أوثقَ عنده من تمسكه بما عنده” 1.

وأسردها من خلال الخماسية التالية:

1- اليقظة القلبية والميلاد الروحي صحبة الرجل الحي: في سن الثامنة والثلاثين بعد مخاض عسير ترك فيه الجاه والمنصب والمكانة الاجتماعية بعد أن استوحش من الدنيا وطار لبه في طلب الحق جل وعلا، فانصرف للعبادة والتلاوة والذكر آناء الليل وأطراف النهار، توصل بعدها إلى أن لا مخرج إلا بصحبة رجل يدله على الله تعالى، فجاءه المن الإلهي فالتقى بشيخه العارف بالله الشيخ سيدي العباس البوتشيشي القادري رحمه الله، مما أحدث عنده الانقلاب الكلي في حياته وفكره وسلوكه وعمله، وتوجه بكل ما أوتي ليجعل من الزاوية موئلا وملاذا لشرائح واسعة من المتعلمين والمثقفين عساهم يستفيدوا من هذا القلب الحي، يقول الإمام رحمه الله: “فكنت أحدث نفسي أن أكون جنديا لهذا الرجل المبارك” 2، علما أن “نقطة الهداية الأولى” 3 دون انتساب صوفي كانت في الخامسة من عمره بتعلمه رحمه الله تعالى في مدرسة الشيخ محمد المختار السوسي رحمه الله بمراكش حيث تلقى تعليما مزدوجا في القرآن واللغة.

2-  اليقظة الفكرية قبيل وفاة شيخه: بعد أن قضى ست سنوات في سلوك فردي بصحبة سيدي العباس رحمهما الله تعالى عامرة بالأشواق والأذواق، أو قل في نومة صوفية بتعبير الإمام معرضة عن دنيا الناس وهمومهم، أعاد فيها قراءة الكتاب والسنة بفهم جديد، بنفس جديد، بقلب جديد، ازدادت إلى حصيلته الفكرية الواسعة المتتبعة سلفا لأحدث النظريات، فكانت الثمرة يقظة فكرية تجديدية عضدت اليقظة القلبية لتكون فاعلة في التاريخ. “وكانت الثمرة الأولى، يقول المؤلف “لهذا التفكير والتدبير كتاب “الإسلام بين الدعوة والدولة: المنهاج النبوي لتغيير الإنسان” الذي تبدو من عنوانه بدايةُ النقلة النوعية في الرؤية التربوية عند إمامنا رحمه الله. وفي هذا الكتاب بسْط للخصال العشر لأول مرة، وإلحاح غير قليل على الجماعة وعلى الجهاد، لكن بحضور قوي للتصوف والصوفية” 4

3- التحول من السلوك الصوفي الصرف المتعارف عليه عند السادة الصوفية إلى سعة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الجامعة الشاملة لكمال الإحسان، ذلك التصوف الذي يتخذ منه موقف الواصل الفاصل بتعبير الكتاب، الواصل من حيث قبوله بلبه المتصل بالتربية الإحسانية النبوية الكاملة، والفاصل لما ارتبط بهذا اللب من أعراض وأشكال نأت به غالبا عن المنهاج النبوي.

4- دعوته العاملين في الحقل الإسلامي إلى الوحدة وإلى سلوك طريق التربية بمفتاح الصحبة الدالة على الله تعالى وترسيخ أمرها ونورها في القلوب خاصة مع طغيان دعوات الإسلام الفكري الثقافي، والتفسير السياسي للإسلام، البعيدين عن الربانية وأنوار النبوة، قال رحمه الله تعالى: “ندعو رجال الدعوة الإسلامية أن لا يخرجوا إلى ميدان الفكر إلا بعد أن يكتشفوا المنهاج النبوي المنبني على التجربة الشخصية، أعني العمق الروحي الذي يحصل للعبد بعد أن يصبح تمسكه بحبل الله أوثقَ عنده من تمسكه بما عنده” 5.

5- التجديدُ في معنى السلوك فقد عمل رحمه الله تعالى على إحيائه في الأمة وسينتهي ببناء جماعة: سلوك إحساني جهادي يعتمد على ثنائية العدل والإحسان “لأن الفصل، يقول المؤلف، بين ما يجب أن يوصل نَكَدٌ على الجماعة وعلى الأمة، وضياع للمؤمن والمؤمنة، ونزول قاسٍ عن المنزلة التي أرادها لهما مَنْ أمرَ سبحانه في كتابه “بالعدل والإحسان” 6، فهي إذا تربية على تلازم العدل والإحسان، على تلازم الصحبة والجماعة خاض رحمه الله تعالى للحفاظ عليها جهادا ثلاثي الأبعاد: مقاومة ومدافعة الاستبداد، ومزايلة الفكر التكفيري الطائفي، والنأي عن السلوك الفردي الانعزالي،

ثانيا: التجربة الشخصية كما بثها في الجماعة ومن خلالها في الأمة

أرصد بحول الله تعالى من خلالها الجانب العملي وفقا للتالي:

1- تأسيس جماعة فـ”لا جهاد إلا بجماعة منظمة” 7 يشترك فيها الرجال والنساء، إذ في نظره “لو أصبح المسلمون فردا فردا على أتقى قلب واحد منهم، ولو اجتهدوا في الأعمال الصالحة الفردية ما اجتهدوا، ثم لم يؤلفوا قوة اقتحامية جماعية تكون المرأة فيها فعالة لفاتهم فردا فردا درجةُ الجهاد، ثم لفات الأمة ما فاتهم، ولترَدَّت الأمة بترديهم عن الدرجة العالية، ولتبدد حاضرها وضاع مستقبلها بتبدد إرادتهم وتشتتها.” 8 وشاء الله أن يستجيب لهذه الدعوة المباركة والصيحة الربانية عباد وإماء لا يعلم إلا الله أعدادهم، تبنوا تصوراتها ووطئوا أنفسهم على تربيتها إحسانا، والتهمم بحال الأمة عدلا.

2- التربيةُ على السلوك الجهادي الإحساني النبوي الكامل بعد تجربة شخصية عملية، ويعتبر هذا المفهوم من المفاهيم الكبرى عند الإمام، وعليه يقوم رجاؤُه في تجديد دين الأمة، من خلال هذا الجمع بين السلوك إلى الله وبين الجهاد بكل معانيه وأوجهه وأبوابه وعلى رأسها القيام لله بالقسط في وجه الاستبداد والإفساد، سلوك يعتبر شهادة كبرى بالقسط، وحضورا في الأمة يرضاه الله عز وجل ويرضاه رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن معالمه المستقاة من مؤلَّفنا:

‌أ. التحذير من سلوك التبرك والتزهد والدروشة والقعود بدل السلوك الفاعل المقتحم للعقبات الأنفسية والفتنة الآفاقية، الملزم بمخالطة الناس وتربية الرجال والنساء على الجهاد المزدوج: جهاد النفس لتَخرج قضيتها مع الله تعالى من زوايا الإهمال والنسيان إلى أرجاء القلب الحي اليقظان، وجهاد للخروج من هذه اليقظة القلبية الفردية في حجر الصحبة الفردية إلى الصحبة في الجماعة، والكينونة مع الجماعة، والإسهام في تأليف “قوة اقتحامية جماعية”، فـ “ما تربية الجماعة المقتحمة وتنظيمها وزحفها وانتصارها مما يعنيني في شيء إن لم يكن كل ذلك مما يقربني إلى ربي ليرفع درجتي عنده. هذا أولا وأخيرا. وأنا بعد حريص كل الحرص على إنجاح مشروع الأمة والنهوض بأعبائه. أحذر من مغاوي النفس أن يحبَط عملي لو اندفعت حميّة وحماسا هائجا.” 9

‌ب. تقديم التجربة الشخصية لأجيال الخلافة الثانية إن شاء الله “دليلا عمليا تجريبيا في كيفية طرحِه الجبَّة الصوفية الضيقةَ الأكمام، المتنازعَ عليها بين الأخوال والأعمام، لكي يرتديَ جند الله رداء السنة الكاملة، رداء الصفاء الأصلي التبعي المحْتَفِظ بكل عناصر العلم والعمل التي تفرقت بعد عصر النبوة والخلافة الأولى” 10.

‌ج. معالجة الخواء الروحي عند شباب الدعوة بدلالتهم إلى رحاب معرفة الله بعد أن يركبهم هم الله، “هم مرتبتهم عند الله، وهم اسمِهم في الملكوت الأعلى” 11 نتيجتها أجيال من أبناء وبنات العدل والإحسان الذين صدقوا في صحبتهم ومحبتهم للإمام رحمه الله تعالى فظهرت ثمرة الصحبة فيهم ولاتزال تربية وتنظيما وزحفا، وتتشوف قلوبهم إلى قطف ثمرة الخلاص والاستخلاف بحول الله تعالى.

‌د. التربية على التحصن بسياج الشريعة والتأسي الكامل بالنموذج النبوي الكريم لأنه العاصم من غلبة الحال، وشطح المقال، وطغيان جذبة الأنوار، مما يحفظ السالك من الزيغ والخطل، ويثبت قدميه على شريعة الائتمار بالمعروف لأنه إذا انضاف إلى غلبة “الأنوار” نزوعٌ إلى التفرد عن الجماعة ومعروفها، فإن التعرض للخطأ يتضاعف، كما تتضاعف القابلية لاتباع الهوى والاستسلام لداعي الدعوى والعياذ بالله. وهذا المعيار ما أفنى فيه الإمام عمره تعليما وتوجيها، تنقية لطريق السالك من الإعراض عن الشرع بمقابل اعتماد الرؤى والفراسة والكشف في بناء الأحكام، أو بالمقابل الالتهاء بفيوضات المشاهدات والمبشرات والحرص على الفتوحات القلبية عن إتمام السير إلى الله تعالى، “وإلا جاء الناس يوم الأشهاد بأعمالهم الصالحة وجاء هو بسجل مشاهداته”، يقول رحمه الله تعالى “فلا نبني على الرؤيا عملا، إنما هي مبشرات تسر ولا تغر. وظيفتها أن تشجع فينا خصال الإيمان ونية الجهاد، لا أن تصبح مصدر الأحكام” 12.

‌ه. إعطاء الصحبة بُعدها الجماعي كما كانت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة والتابعين رضي الله عنهم، من خلال توحد “التنظيم” و “التربية” تحت قيادة ربانية واحدة.

‌و. التربية على خصال الإيمان وشعبه، وعلى العناية بسلامة القلوب، لأن القلب المؤمن عندما يبرأ من أمراضه في مصحة التربية وبعد أن تُعنى به يدُ الصحبة، ويصقله الذكر ويكشف الله عز وجل عنه غطاءه يصبح حاسة دقيقة جامعة “وخزائن الله عز وجل مذخورة لمن صبر على العمل الصالح، مذخورة لمن تطهر واستقام وصدق وبذل … وجاهد” 13.

‌ز. التربية على الذكر وفق ما سطرته السنة الشريفة والدعاء والتلاوة والحفظ لكتاب الله تعالى ولزوم الطهارة ودعاء الرابطة باعتباره انخراطا في سلسلة نورانية من لدن سيدنا آدم عليه السلام إلى أخر الزمان، ووصلة مع هذه الأرواح الطيبة ترحما ودعاء وسلاما، ثم تأسيا واقتداء، فربطا للمؤمنين بالجماعة: “ونرى دعاء الرابطة ضروريا لربط المؤمنين في جماعة. فإذا سرى معنى الربط بتكرار المجالسة، وتكرار الوقوف بين يدي الله في الصلاة، والعمل المشترك، والدعاء الرابط، التقت الصحبة بالجماعة ولم تكن الجماعة شكلا ولا الصحبة صحبة انفرادية” 14.

3- التربية على الشورى بآدابها وضوابطها الشرعية لأن “الشورى في الأمر الخاص والعام والحكم دين من الدين” 15 كما يقول رحمه الله تعالى، ولأنها العاصمةُ من انفراط عقد الجماعة، ومن أهم الطرائق الشرعية لاتخاذ القرارات، ودليل التحاب والانسجام والانجماع على الله تعالى، والتطاوع المفضي للطاعة والوفاء بالالتزامات والتجسيد العملي لشريعة “وائتمروا بينكم بمعروف”.

4- التربية على سمو الإرادة لأنه “ليس للنفس الهابطة سير ولا عروج ولا دروج” وعلى التصافي والتزاور والتحاب في الله تعالى بين المؤمنين والمؤمنات، “من يفرقه شبر من الأرض عن إخوانه ليس رجلا” كما كان يقول رحمه الله تعالى.

5- التربية على ترك الخلاف الشاق للجماعة والأنا المؤذن بخراب الباطن، والتنافس المقيت وحب الظهور والشفوف على الأقران والانتصار للنفس المناقض للولاية الإيمانية، لأن مثل هؤلاء لا مجموع لهم يؤهلهم ليكونوا نوارة تعطي الرحيق، وعلاجهم العودة إلى المنطلق الأول بالتوبة ورفع الهمم لإرادة وجه الله تعالى.

6- التربية على تخليص الصحبة وعدم الالتفات مع التقدير لكل أهل الله وأوليائه والحرص على تنويع المصادر والتبريز في المهنة والتماس العلوم وإتقان اللغات لأن “هم الأمة لا يحمله الورع القاعد، لكن يحملهُ وينهض بمقتضياته الأقوياء بالعلم والخبرة، الأمناء بخوف الله والوفاء بعهده” 16 “لا يمكن أن يستفيد من صحبتنا وجماعتنا من يتوزع توجهه ذات اليمين وذات الشمال” 17. ذلك أن “منهاجنا، لا يقبل الشركة بوجه، ولا يستفيد منه من وضع رجلا داخل صحبتنا وجماعتنا ورجلا خارجها” 18. ولأن التربية الإحسانية الكاملة الجامعة على منهاج النبوة يقول المؤلف، لا تقبل التلفيق بأخذ كلمة من هذا وإشارة من ذاك، واقتباسِ حالٍ من هنا ومقالٍ من هناك، أما الذي وفقه الله فاستقامت قدماه على المنهاج … فلا عليه بعد ذلك أن يسافر إلى أقصى الدنيا وأن يأخذ ما شاء ومن حيث شاء فراحلته معها سِقَاؤها وحِذاؤها 19.

7-  التربية على العروج في مقامات الإيمان والإحسان على منهاج النبوة طلبا لوجه الله تعالى وما يتطلبه من حمل النفس على الصبر إلى قمة العقبة، ورفع الهمة عن التشوف إلى السُّفل، قال رحمه الله: “أنا أفرح كثيرا أن أسمع عن إخواننا أن همتهم تعلقت بالله عز وجل فأصبح طلب القرب منه وإرادة وجهه همهم الدائم… لكن هذه اليقظة ليست إلا الخطوة الأولى، فمن صبر معنا على المنهاج النبوي رجونا له من المقامات… ومن خطا معنا هذه الخطوة ثم حاد عن طريقنا من حيث يظن أنه يزيد خيرا إلى خير فإنما تنكب عن المنهاج النبوي لينزَوِيَ مع طلاب الأحوال والكشف وما إلى ذلك. وذلك عندنا نزول عن الهمة القعساء” 20.

8- التربية على الصدق مع الصحبة والجماعة، التربية على الصدق مع الصادقين، وتحمل مشاق المسير سلوكا إلى الله تعالى واقتحاما للعقبات لأن السهول الواطئة مرتع لغيرنا: هذا الصدق “في حد ذاته مقام أي مقام” 21.

9- التربية على الحفاظ على الهوية الإحسانية باعتبارها العمود الفقري لأي خلاص فردي أو جماعي، ودليلا على أن للمؤمن والمؤمنة عند الله حاجة، و”لا يمكن أن تولد الشخصية الإيمانية والهوية الإحسانية في فراغ الخلوة وقارورة المختبر. من بين فرث المجتمع ودمه يتعين أن تبرز هذه الهوية من ضرع التربية لبنا خالصا” 22.

10- التربية على المواظبة على يوم المؤمن وليلتِه 23، والحرص على المجالس مع ما تحتاجه من صدق وتصاف وتحاب بين الأعضاء، مع المحافظة على ما يزيد انسجامهم من بث الثقة وتفعيل “دستور الأخوة في الله وبرنامجها العملي” 24، وحضور الرباطات ومجالس النصيحة التي تنوب عن المجالسة المباشرة والمشافهة. والحرص على سمو الأخلاق لأنه “لا صحبة مع سوء الخلق والانفعال الغضبي” 25، لأن الاستقرار النفسي شرط أساسي في بناء الجماعة فأي عنصر يغلب عليه الانفعال يُسبب قلق المؤمنين ويصبح مثبطا ومنفرا” 26، ولأن “الصحبة والجماعة” تنقص بقدر ما ينقص المؤمنَ والمؤمنةَ شعبةٌ من شعب السلوك العملي، ومنها كذلك التربية على الرفق والرحمة وطلب العلم والخبرة ونبذ الرئاسات لأنها من أكثر المعيقات المشتتة للهمم ولوحدة الصحبة والجماعة ذلك أنه قد “يعترض طريق التحاب في الله حب الرئاسات، وقلة الخبرة والعلم بأساليب الرفق والرحمة، فإذا ببعضهم كان يريد الله زعما، فلما برقت أمام عينه بارقة شفوف على الأقران نسي الله فأنساه نفسه. أولئك هم الفاسقون” 27.

11- التربية على الجمع بين حقوق الصحبة وحقوق الجماعة: بما تتطلبه من قلوب طاهرة من حب الدنيا والعمل للآخرة إرضاء لله تعالى (قصة أبي بكر مع ربيعة بن كعب الأسلمي حول عذق النخل)، لأن سلوكنا اقتحام عقبة بما هو حركةُ الفرد في سلوكه إلى الله، وحركة الجماعة المجاهدة في حركتها التغييرية، وحركة الأمة في مسيرتها التاريخية، فإن لم يَكن من قوة الإيمان وقوة طلب وجه الله عز وجل ما يعين السالك على الاقتحام، حبط ولا ريب في محطة من محطات سيره. 

12- التربية على الموازنة بين الصحبة وعمل المؤسسات من خلال:

‌أ. قيام العلاقات على أساس النواظم الثلاث؛ المحبة، النصيحة والشورى، والطاعة “”فما نصح لنفسه ولا لله ولرسوله وللمسلمين من يشكك في قرارات القيادة، يجر خلافه في الرأي مع غيره. ولا نصَح من لا يؤثر الصمت في مكانه على الكلام في غير موضعه. ولا نصح من احترف النقد لأجل النقد” 28.

‌ب. الطلب القاصد الصامد لوجه الله تعالى.

‌ج. جمع الهمم والانجماع على الله تعالى والدخول في جوار الصالحين وفتح القلب حتى يسمع كلام الله لأن الاضطراب لا يصلح معه سلوك.

وكل ذلك بشهادة المؤلف وشهادتنا معه، كان حاصلا مشعا في إدارته لعمل المؤسسات من إشراك وإنصات وتشاور واستخارة وضبط الوقت وإدارة النقاش وتبادل التحاب والأفكار…

13- التربية على تقدير القيادة الربانية، عنصر ثبات الجماعة. تلك القيادة غير المعصومة عن الخطأ وغير المنزهة عن أن يتناولها النصح والنقد، لكنها في المقابل “قيادة محبوبة، مربية، مطاعة (…) قيادةٌ تُشِعُّ من ربانيتها معاني الرحمة والذلة على المؤمنين والشدة على عدوهم، ويشع من عِلْمِها نورُ التوفيق للرأي السديد والاجتهاد الرشيد، ويشِع من حِفظها لحدود الله مهابةٌ معنويَّة تجعل طاعتها وفداءها بالأنفس مَطْلَباً عزيزا” 29. لماذا؟ الجواب عند الإمام رحمه الله تعالى: “صَفُّ الطليعة يجب أن يبقى متماسكا برباط الإيمان، رباط الثقة بالله، وبإخوتنا، وأولي الأمر منا.

خاتمة:

 ما جاء في هذه المداخلة المتواضعة لا يعدو أن يكون غيضا من فيض كتاب قيم مبنى ومعنى، بذل صاحبُه، مشكورا بإذن الله مأجورا، قصارى الجهد في جمع وتوضيب وتبسيط مادة دسمة نافعة مشوقة، لا شك أن كل جزئية من جزئياتها ستستثير نهَم الباحثين في هذا العلم العظيم علم السلوك إلى الله تعالى، ذاك العلم الذي لا يتعلم عبر الأوراق، بل تُغرس أسسه بصحبة أهل الله العارفين بالله لا بالمحبة اللفظية الحالمة بل بالكينونة معهم والتعلم منهم والتشَرب من قلوبهم بالتلمذة والمحبة المباشرتين، وإن الصوت الذي نادى من “هنا الطريق، من هنا البداية” لايزال يتردد في جنبات الجماعة والأمة، من خلال مكتوبات صاحبه ومسموعاته ومن خلال أبنائه وبناته الذين قيض الله لهم صحبته، وقذف في قلوبهم حبه، واستأمنهم على أمر الصحبة والجماعة، على أمر الصحبة في الجماعة. يقول الإمام رحمه الله تعالى: “احترام أولياء الله من بعيد، ومحبتهم بلا صحبة، والثناء عليهم دون أن يكون الثناء حافزا لنا على اللحاق بهم، أعمال لا تثمر إيمانا وإن أثمرت ثوابا” 30.

إن “السلوك إلى الله” عند الإمام عبد السلام ياسين، يقول فضيلة الأستاذ، لا تنفصل فيه التجربة الشخصية الممتدة عبر عقود طويلة من عمره المبارك عن جهاده العلمي والفكري بتعبير المؤلف، فلم يكن السلوك عنده خبرة ذاتية خاصة، كما لم يقتصر فيه على الإنتاج والتأليف، بل هو كل ذلك متكاملا ومندمجا تكاملا واندماجاً بديعين، زادهما جمالاً وجلالاً حرصه ومكابدته للتربية الجامعة الميدانية لأجيال من المؤمنين والمؤمنات” 31 “ومن أراد الفهم حقا وعمقا عن الإمام المجدد رحمه الله فليأخذ كل هذا مجموعا مجتمعا مندمجا. فلا يكفي على الإطلاق أخذ نصوص من هنا، وعبارات من هناك، وأفكار من هنالك، دون أن تضع كل ذلك في سياقه ومساقه واجتهاده الذي لم يتوقف في حياته، ولن يتوقف إن شاء الله كما كان يحب ويدعو إلى ذلك رحمه الله، ودون أن تضع إلى جانب كلِّ هذا من ربّاهم وبما ربّاهم” 32.

توصيات:

1- التجربة الشخصية للإمام رحمه الله تعالى تفعيل عملي لسؤال الكيف الواصل بالله تعالى، وعلامات كبرى مميزة على طريق السلوك إلى ربنا جل وعلا، تحتاج إلى البناء على منتهاها واستفادة الأجيال من عصارتها المعبرة عن كيف يكون السلوك على منهاج النبوة.

2- الكتاب الذي نجتمع عليه علامة مميزة في بيان تصور الإمام السلوكي الجهادي بمفهومه الشامل الذي يركز على جهاد التربية لمحوريته في البناء والتغيير والتنظيم والزحف لجمع شتات الأمة وتصويب وجهتها نحو آفاق أوسع، ولا يعدو اجتماعنا الحالي عليه ملامسةً لبعض درره وتشويقا إليه، حري أن يتبع بمحطات تدارسية أخرى لكشف خباياه وسبر أغوار مضامينه.

3- على حملة هذا الإرث داخل الجماعة أن يجتهدوا في بيانه وتبليغه ليبقى نوره ساطعا بالغا للأجيال اللاحقة إلى قيام الساعة، وحتى يعم فضله ويتم الانتقال فيه من الوصف إلى الاتصاف، ولا يتحقق هذا إلا بالحفاظ عليه وعدم تضييعه بالتنافس المرَضي والأنانية الشيطانية وكدر القلوب وحب الرئاسة 33


[1] عبد السلام ياسين، الإسلام غدا، ص9
[2] منير الركراكي وعبد الكريم العلمي، حوار شامل مع الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين، بدون طبعة ولا سنة، ص 21
[3] الحوار الشامل، ص10
[4] عبد الكريم العلمي، السلوك إلى الله عند الإمام عبد السلام ياسين، ص
[5] عبد السلام ياسين، الإسلام غدا، ص9
[6] عبد الكريم العلمي، السلوك إلى الله عند الإمام عبد السلام ياسين، ص95
[7] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص131
[8] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، 1/20
[9] تنوير المومنات، 1/20.
[10] عبد السلام ياسين، الإحسان، 2/339.
[11] نفس المصدر، 1/350.
[12] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص184.
[13] من رسالته رحمه الله تعالى إلى مجلس الإرشاد ثلاثة أشهر بعد خروجهم من سجن السنتين.
[14] المنهاج النبوي، ص130.
[15] عبد السلام ياسين، وصيتي، ص12.
[16] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص54
[17] من رسالة بعثها الإمام رحمه الله تعالى على يد الأستاذ المهندس أبي بكر بن الصديق إلى الإخوة المسؤولين آنذاك في مراكش لنصح وتوجيه إخوة في مدينة تابعة لهم بتاريخ 29 ذي القعدة 1411هـ الموافق ل 9 يونيو 1991م.
[18] نفس الرسالة إلى مسؤولي مراكش حينئذ.
[19] عبد الكريم العلمي، السلوك إلى الله، ص 139
[20] من رسالة بعثها الإمام رحمه الله تعالى على يد الأستاذ المهندس أبي بكر بن الصديق إلى الإخوة المسؤولين آنذاك في مراكش.
[21] عبد السلام ياسين، الإحسان، 2/254
[22] نفسه، 2/483
[23] وهو عبارة عن توجيهات عملية لما يمكن للمؤمن ومعه المؤمنة مع بعض خصوصية، أن يقوما به في بحر يومهما وليلتهما، وقد طبعت في 1422هـ/2002م، وتمت إضافة “دعاء الرابطة” في هذه الطبعة إليه، واحتل “دعاء الرابطة” في هذه الطبعة ما يقارب نصف عدد صفحات الكتاب تأصيلا وكيفية ومقصداً وثماراً.
[24] المنهاج النبوي، ص86
[25] نفسه، ص145.
[26] نفسه، ص145.
[27] رسالة تذكير، ص13.
[28] المنهاج النبوي، ص94.
[29] عبد السلام ياسين، جماعة المسلمين ورابطتها، ص95
[30] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص127.
[31] عبد الكريم العلمي، السلوك إلى الله، ص 191.
[32] عبد الكريم العلمي، السلوك إلى الله، ص 82.
[33] فإذاً جماعتنا الصحبة في الجماعة أو صحبة في جماعة، أي نعظم إخواننا ونحب إخواننا وأخواتنا ونريد لهم الخير، وتكون قلوبنا صافية، وإلا فإذا كانت القلوب كدرة فإنها لا تبلغ ولا توصل. أرأيتم السلك الذي يمر عبره التيار الكهربائي إن كان صدئا هل يوصل التيار؟ لا يوصله أبدا، إنما توصل الأسلاك إن كانت نقية ليس فيها صدأ. وكذلك حال قلوبنا إن كان فيها حب الرئاسة بالأخص بالأخص -حب الظهور وحب الرئاسة- فما تبلغ شيئا” شريط كيف نبلغ هذا الإرث؟. موقع https://yassine.tv.