الانتخابات في المغرب.. بين استراتيجيات الإصلاح واستراتيجيات التغيير

Cover Image for الانتخابات في المغرب.. بين استراتيجيات الإصلاح واستراتيجيات التغيير
نشر بتاريخ

تقديم

أناقش في هذا المقال الواقع الانتخابي من خلال ما أسميه الفقه السياسي العالي، وهو الفقه الذي يقرأ الحدث كما هو وضمن سياقه، بحيث يقف على أصوله وعوامله قبل فروعه وأسبابه، ويتجه به إلى أفق المطالب العالية المتعلقة بضمان العدل والحرية والكرامة للشعب المغربي.

نعم النظام السياسي المغربي القائم في حاجة ماسة إلى عمليات تجميل دقيقة حتى يضمن شروط الاستمرارية لاستبداد ناعم، لأن ضمان الاستمرارية هذه قاعدة جوهرية في العملية السياسية في المغرب، ومنها العمليات الانتخابية.

تتحالف قاعدة “ضمان الاستمرارية” مع قاعدة “التوازن السياسي والمجتمعي” مع قاعدة “الكل موجود ولا أحد قوي”، وقاعدة “الكل مجتمعا لا يشكل قوة سياسية ومجتمعية حقيقية في البلاد” ومع أخواتها من القواعد لتحدد مضمون الدستور المغربي وتنظم فصوله وأبوابه وتؤسس للقوانين التنظيمية لتفرز بالتلقائية أن القصر هو الحاكم الكلي والفعلي.

لا أريد أن أضيع وقت القارئ في تفاصيل هذه القواعد وأخواتها وبيان تفاصيلها في تنظيم أبواب وفصول الدستور المغربي وتراتبية القوانين وتنظيمها، لأن مخرجات التنزيل في آخر المطاف هي تحقيق مضامين هذه القواعد الكلية، لكن فقط يفيد التذكير بها هنا (أي القواعد) في أن العمليات السياسية تروم تحقيق هدفين:

الأول: إصلاح بنيات النظام السياسي وقواعده، ومن ثم إصلاح قواعد العملية السياسية، ولاشك أن الإصلاح هنا يقتضي العمل من داخل هذه القواعد واحتلال المواقع وتنفيذ المواقف التي تمكن من الإصلاح وفق تدرج تتحكم فيه شروط اللحظة السياسية المحلية والدولية.

الثاني: تغيير قواعد النظام السياسي ومن ثمة بنياته وقواعد اللعبة السياسية، ولا شك أن استراتيجيات التغيير تختلف تماما عن استراتيجيات الإصلاح حتى وإن تشابهت المواقع والمواقف في لحظة سياسية جزئية معينة بين تيار التغيير وتيار الإصلاح.

لذلك يأتي هذا المقال للمساهمة في الرفع من مستوى النقاش السياسي الدائر، خاصة في صفوف الشباب، الذي يشكل قاعدة الهرم السكاني سياسيا ومجتمعيا، قصد فهم واستيعاب مضمون العملية السياسية في المغرب وتدقيق المطلوب اتجاهها.

متى يكون لاستراتيجيات الإصلاح معنى؟

بغض النظر عن مستند منطق الإصلاح لدى الحركة الإسلامية، وهو منطق تبريري مصاغ في سياق تاريخي لا يسمح له بغير أن يكون كذلك، وهو سياق الانكسار التاريخي الذي توج في مرحلة هامة بالانبهار بالاستعمار، بغض النظر عن كل هذا، يجب أن يتأسس نقاش هذه الاستراتيجيات على تحديد الإشكالية المحورية التي يجسدها السؤال التالي: هل يمكن أن يتحول النظام السياسي في المغرب من نظام سياسي استبدادي قروني، بغض النظر عن طبيعة أشخاصه الإنسانية، إلى نظام ديموقراطي، ذلك أن الجواب بنعم أو لا هو ما يحدد الاختيار بين منطق الاصلاح التدرجي أو منطق التغيير الجذري الذي لا يهمل سنة التدرج؟

ولتحديد أرضية مناسبة للجواب ينبغي تفصيل صياغة الإشكالية وفق السؤال التالي: هل بنية النظام السياسي في المغرب وحدة واحدة لا تقبل التجزؤ، أم هو وحدات منفصلة لكنها منتظمة فقط عبر نسق سياسي يمكن اختراقه من خلال الاشتغال على وحدة أو وحدات وفق استراتيجية إصلاحية لكل صور الفساد ومعاني الاستبداد حتى تصبح هذه الوحدة أو الوحدات صالحة بنفسها وخادمة لإصلاح ما سواها من الوحدات الاستبدادية الفاسدة الأخرى؟

وفي حالة استحالة الاشتغال على الوحدات منفصلة، وهي الصورة الأسهل في حالة الإصلاح، هل هناك إمكانية الاشتغال على بنية الاستبداد الموحدة من داخلها حتى يحصل تفكيكها ومن ثم القدرة على إصلاحها مهما استغرقت هذه العمليات من الوقت؟

لذلك يمكن أن يكون لاستراتيجيات الإصلاح فائدة ومعنى وجدوى في هذه الصور من صور النظام السياسي الاستبدادي، فيكون التمكن ساعتها من مواقع معينة، كالجماعة والجهة والبرلمان والحكومة أو مواقع ضمن هذه الوحدات الجزئية، أثر إصلاحي لبنية الاستبداد والفساد لتتجه حركة الإصلاح إلى كل وحدات البنية عموديا وافقيا حتى أخر معاقل الاستبداد والفساد حتى ولو كان شخصا فتصلحه أو تجعل مكانه غيره في حالة عدم قابليته للإصلاح.

لكن الأمر يصبح له معنى آخر حينما تكون بنية الاستبداد وحدة واحدة موحدة غير قابلة للتجزؤ ومنتظمة ضمن كل تفاصيل الحياة السياسية والمجتمعية؛ بما في ذلك مجالات المال والاقتصاد ومصادر الثروة ومضامين التربية والتعليم والثقافة وهكذا، وهو ما يجعلها غير قابلة لأي اختراق يمكن من تفكيكها إلى وحدات أو مداخل لاستراتيجيات إصلاحية مهما كانت قوة هذه الاستراتيجيات وفعاليتها في التأثير.

من هنا يبدو واضحا أن الفكر السياسي في المغرب ينبغي أن يكتشف من الآليات والوسائل ما يجعله قادرا على تحديد طبيعة النظام السياسي وتدقيق صورته ضمن الصور المحددة سابقا حتى نتمكن من بناء تصور صحيح للاشتغال السياسي من خلال توحيد إطار العمل وأرضيته، لأن من غير الوصول إلى هذه المرحلة سنبقى نعيش حالة التشرذم السياسي والمجتمعي والاختلاف الغامض والنقاش الأعمى، ومن ثم عدم فهم بعضنا البعض ثم عدم تفاهمنا فتنابزنا بالألقاب فصراعنا الغامض والوهمي، وهو واقع التدافع السياسي والمجتمعي في المغرب.

فقراءة التاريخ السياسي للمغرب، وخاصة حركة وماهية النظام السياسي القائم فيه، والذي شكل دوما صلب العلمية السياسية وعمودها، كما أن قراءة تاريخه السياسي الحديث بعد ما سمي بالاستقلال؛ اي منذ أول دستور صيغ في هذه المرحلة إلى آخر دستور سنة 2011، نستطيع التأكيد على أن بنية النظام السياسي في المغرب متجذرة تاريخيا وعميقة دينيا، كما يفهم النظام الدين، وممتدة في التجربة الغربية الحديثة المهيمنة عالميا، وهو ما جعله نظاما فريدا محافظا على عمقه التاريخي بوضوح ومضمونه الديني بصرامة واندماجه العميق في التجربة الغربية بمرونة هائلة، فضلا عن الإمكانية التي وفرتها له هذه الركائز الثلاثة لاحتواء الواقع واللحظة السياسية بكل تفاصيلها وعناصرها، مما جعل القوى السياسية والمجتمعية أمامه قزمية الحجم والرصيد التاريخي دوما، وأن شرعيته لا ترتبط أبدا بعمليات انتخابية مهما كان مستواها ومجالها ومصداقيتها ومخرجاته، كما لا ترتبط بمعنى الرصيد النضالي لهذا الوطني او ذاك إلا في سياق الاحتواء والتدجين، كما لا يهمه أمر المعارض مهما علا شأنه وكثرت تحالفاته في الداخل والخارج، لأنها لن تكون في مستوى العلاقات التي ينسجها في إطار علاقات خارجية وداخلية مبنية على مصالح قوية واستراتيجية بل مصيرية في كثير من الأحيان، الأمر الذي ساهم في إنشاء فكر سياسي مغربي مهيمن لا يملك إلا الحكم بحتمية وجود هذا النظام على مر الأجيال مع إصلاح ما يمكن إصلاحه، وفي أحسن الأحوال لا يملك القدرة على نقد بنيته نقدا متكاملا يمكن من تفكيكها وإعادة بنائها بما يتوافق وشورط العدل والحرية.

ومن مقتضيات هذا الواقع العميق أن الحزب السياسي في المغرب والمؤسسة المجتمعية وسائل إدارية وإجرائية كما مؤسسات الدولة من برلمان وحكومة وغيرها، وليست مؤسسات مصيرية تقريرية حيث تنفذ مواقف وبرامج ولا تنتج استراتيجيات مصيرية وتنفذها وفق إرادة شعبية حرة. لذلك لا نجد في الخطاب الرسمي إلا “إرادة الملك” و”تعليمات صاحب الجلالة” و”جاء في الخطاب الملكي” وما شابه هي المهيمنة، حتى وصل بنا الأمر إلى التقسيم المقدس: “حكومة صاحب الجلالة” و”معارضة صاحب الجلالة”، كما أن الملفات الكبرى والمصيرية بيد الملك وفريقه.

مقتضى هذا التحليل أن النظام السياسي في المغرب يملك القدرة على الالتفاف على الجميع واحتواء الجميع دون ثمن إلا ما يتعلق بالامتيازات التي يمكن أن يتمتع بها الأشخاص المدجنون أو المحتوون أو الوسائط منهم في تدجين المؤسسات والهيآت، ولعل آخر عملية التفاف كبرى هي ما جرى عبر خطاب 9 مارس 2011 عقب الحراك المجتمعي والانتفاضات العربية التي أفرزت دستور 2011 وتصدر حزب العدالة والتنمية مواقع سياسية منها رئاسة الحكومة.

نخلص من كل هذا إلى أن استراتيجيات الإصلاح في المغرب غير مجدية إلا في حيز المعنى الإجرائي التدبيري لقضايا الشأن العام في إطار كلية النظام السياسي غير القابلة للتفكيك وغير قابلة للإصلاح، وقد كانت أكبر صرخة احتجاجية في الباب هي خروج السيد عبد الرحمان اليوسفي من التاريخ وليس من السياسة فقط لما أدرك أنه لا أمل في لعب دور شكلي في مرحلة تاريخية حاسمة من مسار الحرية والديموقراطية في المغرب.

جدوى استراتيجيات التغيير الجذري في المغرب

لم يعرف المغرب تجارب الإصلاح فقط، بل عرف كذلك تجارب ثورية سواء نَظّر لها اليسار أو بعض الإسلاميين، لكن مآلات التجارب الثورية واضحة لكونها لم تتجاوز لحظة إعلان الموقف الثوري ولم تمتد إلى مجالات الوعي والتفكير السياسي، وذلك لعوامل كثيرة نجملها في كون الفكر الثوري في عمومه لم يستند على مشاريع ثورية بقدر ما استند على مواقف ثورية فقط، وهو ما لم يجعله في مستوى مواجهة نظام متجذر وله خبرة طويلة في التعامل مع معارضيه، فضلا عن كون الفكر الثوري اعتمد أساليب تنظيمية وهيكلية عازلة عن العمق الشعبي، مضاف كل هذا إلى اعتماده، غالبا، في صياغة مواقفه السياسية والثقافية على مرجعية لا علاقة لها بالشعب المغربي.

وعندي كما كتبته منذ أكثر من خمسة عشر عاما أن زمن الثورة بمفهومها التقليدي قد انتهى بلا رجعة، لأن المرحلة التاريخية في معناها الإنساني والعلومي والتواصلي لم تعد تسمح بقيام الثورة كما عرفتها الإنسانية إلى حدود أواسط القرن العشرين، لذلك نجحت الثورة الإيرانية في عام 1979 لأن مضمونها لم يكن ثوريا بالمعنى الكلاسيكي، لكنها ربطت حركة الإسلام بمطالب المستضعفين، وقد كان سيكون لهذه التجربة معنى تاريخيا وإنسانيا كبيرا لولا أن سجنت نفسها في طائفية مذهبية ثم عرقية واعتمدت السلاح في تعاطيها مع قضايا شعوب في لحظة تاريخية هامة (يراجع في الباب مقالنا المنشور تحت عنوان: مأزق النظرية السياسية لدى الحركة الإسلامية المعاصرة).

لكن انتهاء زمن الثورة لا يعني ألبته انحسار العمل في إطار المنطق الإصلاحي، بل هناك منطق آخر لا يعتمد المنطق الثوري ولا يسجن نفسه في سياج منطق الإصلاح الجزئي، بل يؤمن بالتغيير الجذري.

فماهي استراتيجية التغيير الجذري؟

تستند هذه الاستراتيجية على معطى واقعي أكدته التجارب، وهو أن بنية النظام السياسي في المغرب ذو الطبيعة الاستبدادية القرونية بنية مغلقة تشكل وحدة موحدة غير قابلة للاختراق كما يتصوره المنطق الإصلاحي ولا للتفكيك إلى وحدات حيث صار كلية تاريخية ودينية ومصالحية دولية ومحلية ارتهنت بالفساد السياسي والمالي، وربطت بين التحكم في مصادر الثروة والسلطة وسخرت لذلك قوة إعلامية موجهة، مما يجعل من الرهان على العمل من داخل هذه البنية قصد إصلاحها وتحويلها إلى نظام ديموقراطي رهان خاسر ومضيعة للوقت إلا أن يكون معنى الإصلاح هو القيام بأدوار إجرائية تدبيرية يومية لا علاقة لها بحركة كليات النظام السياسي مضمونا وسياسة، وفي هذه الحال لا إشكال، لأن الهدف والموقف واضحين، ليبقى ادعاء الإصلاح الشامل عبر التدرج هو ادعاء باطل إن لم يكن مراوغا في هذه الحال.

وهنا أجدني مضطرا إلى الإشارة إلى الوضوح الذي اعتمده السيد عبد الإله بن كيران بعد تجربته في رئاسة الحكومة وتبوء حزبه الصدارة في المشهد الانتخابي، لا أقول السياسي، حيث كان مضطرا للقول بأنه مجرد موظف عند صاحب الجلالة وأن صاحب الجلالة هو الذي يحكم.

فهذا الوضوح يطوي لنا مسافات هامة في النقاش ويحدد مجاله، ويقرر أن من يحكم الشعب المغربي ليس من ينتخب وليس من يعين، كما أن هذه التصريحات تدقق في الاختيار السياسي لحزب العدالة والتنمية وهو القيام بمهام الإدارة والتدبير اليومي في ظل النظام السياسي القائم.

ليس هنا مجال لمناقشة السيد بن كيران في توجهه هذا الذي هو توجه تيار كبير من أبناء الحركة الإسلامية في المغرب، لكن لنؤكد على أن الإصلاح الذي يقبله منطق التغيير الجذري ليس هو ما يقوم به السيد بن كيران، لأن استراتيجيات التغيير الجذري لا ترفض القيام بمهام إصلاحية جزئية ما دامت هذه الأخير خادمة لحركة التغيير الجذري، ولذلك لا تقبل هذه الحركة الارتهان إلى لحظة إصلاحية جزئية مهما كانت فائدتها ما لم تُفعل في إطار عمليات تفضي إلى تحقيق مطالب التغيير الجذري ضمن استراتيجياته الكبرى.

وهو ما يعني أن التغيير الجذري لا يراهن على المؤسسات الرسمية مهما كانت الفرص التي تتيحها والتي ينبغي استثمارها في الوقت المناسب وبالحكمة اللازمة، وإنما رهانه على القوة المجتمعية الواعية التي تتحرك باعتبارها إرادة شعبية واعية لتحاصر الاستبداد والفساد دون اعتماد العنف مطلقا، فهي مشتغلة دوما على بناء قواعدها العلمية والفكرية والتنظيمية المجتمعية والتواصلية وعرض مشروعها التغييري مهما كانت العقبات، لأنه لا يمكن محاصرة إرادة ومواقع الاستبداد إلا عبر إرادة شعبية واعية ومسؤولة، الأمر الذي لا يريد أن يسمح به الاستبداد لحد الآن في المغرب، أي أن تتحرك إرادة الشعب بحرية لبناء وفرض عملية سياسية حرة ونزيهة ومستقلة.

وهنا يطرح السؤال على النظام السياسي لا على غيره.

فبما أنه بنية مغلقة تشكل وحدة واحدة وموحدة غير قابلة مطلقا للإصلاح من الداخل عبر استراتيجية إصلاحية، فلم يبق له إلا أن يعلن رسميا عن رغبته في التحول من نظام استبدادي إلى نظام ديموقراطي عبر إجراءات عملية تؤكد للجميع الضمانات الحقيقية على تحقيق هذه الإرادة، وفي هذه الحال لن يبق خيار أمام الجميع إلا الانخراط في بناء مرحلة انتقالية مفصلة حتى الوصول إلى لحظة الحكم بإرادة الشعب، أما الرهان على الخطاب الديماغوجي وعمليات الالتفاف الكبرى فلم يعد ممكنا باعتبار درجة الوعي لدى الشعب وخاصة الشباب منه الذي قاطع الانتخابات مرارا مقاطعة واعية وليس عزوفا كما يروج الخطاب الرسمي، مما يعني أن خيار التغيير الجذري سيبلغ مداه ما توفرت قيادة مكتملة تسطيع بناء القوة المجتمعية وفق استراتيجية واضحة.

ويؤكد البحث الرصين أن مسار التغيير الجذري الذي يرفض العنف كما يرفض السقوط في سجن اللحظة الإصلاحية الجزئية والانتظارية مسار جد معقد في المغرب، وهو ما فرض على الكثيرين الاستسلام للخيار الوحيد، خيار الانتخابات مهما كانت صورتها، لذلك لا يعني هذا التعقيد ان هذا المسار غير مجد، بل يمكن أن يكون هو الخيار الأساسي والمحوري لتحقيق مطالب الشعب في الحرية الحقيقية.

فالقوة المجتمعية ضمن استراتيجيات التغيير الجذري تشتغل عموديا وأفقيا في انسجام تام، بحيث العمل العمودي متجه دوما إلى البينات الفوقية على مستوى تجديد الخطاب السياسي والرقي به، وعلى مستوى فضح الفساد السياسي وصناعة الوعي السياسي الضروري الذي يكشف زيف المؤسسات الرسمية حتى يصل بدرجة الوعي العام إلى اليقين بعدم شرعية هذه المؤسسات وتعارضها مع مصالح الشعب الحقيقية، خاصة المؤسسات الأم للنظام السياسي، وقد قلنا سلفا أن شرعية النظام السياسي في المغرب لا ترتبط بأي انتخابات، لذلك مهما كان التزوير والفساد الانتخابي لا يؤثران البتة على شرعية النظام لأنه لم يستمدها من انتخابات ولا من انقلابات وإن اثرت على وجهه في الخارج، لكنها لا تمس الشرعية ولا تعطيها لا من قريب ولا من بعيد.

ولا تكتفي القوة المجتمعية بهذا فقط بل عليها أن تتقدم بمشروعها السياسي الكبير الذي يجعل من صلبه تقديم نظام الحكم الذي تراه هذه القوة مناسبا لتحقيق إرادة الشعب وخدمته الخدمة الكاملة وضمان قوته وحريته واستقلاله.

ومن مقتضيات خطاب القوة المجتمعية السياسي أن يملك الكفاءة في تفكيك بنية النظام السياسي وإن كانت وحدة واحدة موحدة حتى يتسنى له حصارها عمليا حصارا شاملا، ولذلك لن يصدر هذا الخطاب إلا من خلال وجود مشروع مجتمعي متكامل يمكن من نقد العمق التاريخي للنظام السياسي نقدا جذريا، ويمكن من تفكيك علاقته مع الإسلام في صورته الكاملة، إسلام العدل والحرية، ويمكن من كشف زيفه في ادعاء الديموقراطية التي يؤثل صرحها عبر انتخابات لا تمت للديموقراطية بأية علاقة.

أما الاشتغال العمودي فهو القدرة على بناء القواعد المجتمعية والتنظيمية والهيكلية في عمق المجتمع وامتلاك الكفاءة التعبوية على قاعدة الإيمان بالمشروع التغييري لا على قواعد الحماس الثوري والانفعالي الذي لن يجدي نفعا، بل قد يكون مدخل الاندحار السياسي الشامل.

لاشك أن هذه المهام التغييرية بالغة الصعوبة خاصة مع وعي النظام السياسي بتعارضها مع اختياراته، ولأنها لا يُقبل ثقلها من طرف من يعيش على خفة المنطق الإصلاحي، أو من يجعل بين عينيه وهدف سعيه مصالحه الشخصية أو العائلية أو الفئوية، لكن هي مسيرة أجيال، وهو ما يعني أن استراتيجيات التغيير الجذري لا تقبل الاستعجال في جني الثمار كما لا تقبل أن تقضي أية لحظة في دهليز الانتظار.

فاستراتيجيات التغيير الجذري التي تحتضنها القوة المجتمعية الواعية وتقودها قيادة تاريخية عالمة لا تهدد النظام السياسي بالمعنى العنفي الثوري المبني على منطق الانتقام، بل تدفع النظام السياسي في اتجاه عام لصالحه ولصالح الشعب يفرض عليه اختيار قبول الإصلاح الشامل المتدرج والاستسلام للإرادة الشعبية العامة والاحتكام إليها وتحكيمها تجنبا للحظة الانهيار الشامل المهددة لكل أمة ودولة يديرهما نظام استبدادي مغلق مهما كانت نعومته.

فالقوة المجتمعية بهذا المعنى ضمانة عامة حقيقية لتجنيب البلاد واقع الانهيار المجتمعي والسياسي، أي هي ملاذ عام وفي نفس الوقت عامل توازن حقيقي بين مصالح الأمة في الداخل والخارج وبين مصالح باقي الأمم وفق منطق الواجب والحق.

إن القوة المجتمعية ضمن استراتيجيات التغيير الجذري لا تؤمن بالمنطق الانتقامي، بل تلتقط كل مبادرة وفرصة حقيقية وعملية عامة وخاصة لتستثمرها في أفق بناء واقع الحرية والكرامة والعدل، ومن ثمة فهي تعرض دوما مجال التوبة العامة؛ اي الإقلاع الواعي والعملي الحقيقي عن كل أنواع الفساد والاستبداد مع رد المظالم وفق خطة تدرجية تضمن الحقوق وتؤمن الحرمات لينخرط الجميع في عملية البناء التاريخي لحركة المجتمع من جديد.

ولذلك لا تختزل القوة المجتمعية ضمن استراتيجيات التغيير الجذري العملية السياسية في العمليات الانتخابية، بل تجعل من زحفها الشامل، في أفق واضح الصورة والوسائل والمراحل، يغطي حركة المجتمع ويعيد بناءها وفق قواعد الحرية والشورى والعمل الجماعي المنظم بخطاب ووعي سياسيين مستوعبين وفاعلين جامعين لكل العناصر الإيجابية في المجتمع ومحاصرين لكل العناصر السلبية

خاتمة

دون السقوط في فخ لعبة الأرقام ونسب المشاركة المتعلقة بالانتخابات، وهي لعبة محدودة جدا ويمكن أن تشكل دورا ضروريا ضمن اللعبة العامة الرسمية لما يحيط بها من غموض وقصور في التحليل وتحقيق الهدف من نقد الواقع الانتخابي في المغرب، يروم هذا المقال الكشف عن مستوى جديد وتجديدي في بناء الخطاب السياسي النقدي في المغرب، والبحث عن مداخل جديدة للخروج من نفق الأزمة السياسية والمجتمعية الناتجة عن إصرار النظام السياسي على الاستمرارية على صورته “التاريخية” التي لا تقبل من المجتمع المغربي ومكوناته إلا أن يكونوا جزء ثانويا ضمن الحركة التاريخية للمجتمع المغربي وامتداده في المستقبل ليبقى هو قطب العملية وقلبها حتى وإن اصبحت اللحظة التاريخية غير قابلة لهذا النمط من الأنظمة وأن إصرارها على الاستمرار على صورتها وبطبيعتها يهدد جملة وتفصيلا بالانهيار الشامل ليس للنظام السياسي فقط بل للدولة والمجتمع على السواء، وساعتها لا يبقى معنى لشيء.

إن النقاش السياسي في المغرب ما زال يعرف تضاربا صارخا وغموضا شديدا، خاصة على مستوى تقييم الاستراتيجيات العاملة في المجال، ويبدو واضحا أن عدم تحديد الفروق الجوهرية بين الخطاب الإصلاحي وبين الخطاب التغييري يزيد الأمر غموضا بالنظر إلى طبيعة النظام السياسي القائم.

فالكشف الصريح عن طبيعة النظام السياسي وعدم قابليته للإصلاح كي يتحول إلى نظام ديموقراطي حقيقي تعلو معه إرادة الشعب في الحكم والمحاسبة، يشكل مدخلا هاما في بناء الخطاب السياسي الذي يقود إلى الحرية الحقيقية. ومن هنا اقتضى الأمر الوقوف على قصور الاستراتيجيات الإصلاحية في تحقيق مطالب الشعب المغربي حيث لا تفضي إلا إلى صنع موظفين ساميين ومحليين في الجماعات والجهات يسهرون على التدبير اليومي حتى ولو حوصر فيه الفساد المستشري في هذه المؤسسات.

إن استراتيجية النظام السياسي في التخفيف على كاهله بالتخلص من الأعمال التدبيرية التي عقدت علاقته مع الشعب طيلة عقود، والتخلص من عبء الملفات الاجتماعية المهددة بالانفجار والغضب الشعبي، ثم من المسؤولية المالية المباشرة التي أصبحت مؤرقة للدولة المغربية وحركتها اليومية وعلاقتها مع الشعب والخارج، فرضت عليه هامشا من الاستيعاب والاحتواء لأنواع الخطاب الإصلاحي مهما كانت مرجعيته، خاصة بعد ما سمي بالربيع العربي، ضمن حيز التدبير لا التسيير والتنفيذ لا التقرير والمشاركة الجزئية لا التداول على السلطة ومصادرها، وهو ما يبرهن على أن الخيار الوحيد المتبقي، مع حرص النظام وإصراره على التحكم الاستبدادي والتحالف مع الفساد طوعا أو كرها، هو خيار التغيير الجذري الذي يراهن على بناء القوة المجتمعية القادرة على الزحف الواعي والمسئول والرفيق والحكيم لمحاصرة الاستبداد والفساد وفرض إطار لتنظيم مرحلة انتقالية تتوج بأن تكون إرادة الشعب هي الحاكمة وفق مشروع مجتمعي تحرري ومستقل. ولا شك أن هذا عمل أجيال لا أشخاص يملؤون الدنيا ضجيجا وصخبا.