الاشتغال بعيوب النفس عن عيوب الغير

Cover Image for الاشتغال بعيوب النفس عن عيوب الغير
نشر بتاريخ

خلق الله تعالى النفس البشرية وأودع فيها من الاستعداد للخير والشر ما به يمتحنها سبحانه في هذه الحياة، قال سبحانه وتعالى: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء، 35] أي امتحانا، فأمر سبحانه الناس بالانشغال بما تستقيم به أعمالهم وتزكو أنفسهم لكي تنال فلاح الدنيا والآخرة، قال سبحانه: ونَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۝ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا وقال: قَدْ أَفْلَحَ مَن زكَّاهَا ۝ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [الشمس، 7-10]. فمن عكف على تزكية نفسه وتطهيرها وتَبَصَّر بعيوبه واشتغل بإصلاحها فقد أفلح وسلم، ومن اشتغل بعيب غيره وأتبع نفسه شهواتها خاب وخسر، قال الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر، 38].

ومن الآفات التي تحول بين الإنسان وصلاحه وفلاحه أن يُشْغِل نفسه بغيره، فإن ذلك من مكر النفس الخبيثة والشيطان، ومن شدة الغفلة والغرور وادعاء الصلاح، والله عز وجل يقول: فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم، 32]، فمن تتبع الناس وعيوبهم ونقائصهم فقد زكى نفسه وفيها من النقص ما لم يره، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يبصر أحدكم القذى في عين أخيه، وينسى الجِذْعَ في عينه”. ويقول الإمام عبد السلام ياسن رحمه الله تعالى: “إننا إن نحلل مجتماعاتنا لإصلاحها دون أن نحلل أنفسنا لمعرفتها وإصلاحها كمن ينفخ في غير ضرم. كيف تصلح المجتمع والدنيا وزينتها حشو فكرك وقلبك” [1].

وإن الانشغال بعيوب الناس يجر الإنسان إلى مساوئ الأخلاق؛ بدءا بسوء الظن والغيبة وزرع الضغينة بين الناس وجلب الكره والعداء للنفس والكدر للقلب والتعرض لعقاب الله له بالفضيحة وتتبع عورته وعيوبه، لأن الجزاء من جنس العمل، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ”. وذكر ابن حبان في روضة العقلاء أنه: “ومن اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه عمى قلبه وتعب بدنه وتعذر عليه ترك عيوب نفسه”. فبهذا تضيع على الإنسان فرصة إصلاح نفسه وتقويمها ونجاتها من سوء المآل والله عز وجل يقول: وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ [الأنعام، 164].

وإن السلامة – كل السلامة – في انشغال الإنسان بنفسه؛ يتصفحها ويتهمها بالنقص والتقصير، ويعكف على إصلاحها وتقويمها لا يشغله أحد عنها ولا يشغل نفسه بأحد، روى الإمام أحمد في مسنده “من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه”، هذا الحديث أصل عظيم من أصول تهذيب النفس وتزكيتها، وقد عدّه بعضهم ثُلث الإسلام وقالوا بأنه اجتمع فيه الورع كله، لماذا؟ لأن ترك ما لا يعني لا تقوى عليه إلا القلوب السليمة، والنفوس الطاهرة، نفوس تنطوي سرائرها على الصفاء، فأصحابها في راحة، والناس منهم في سلامة.

والمنشغل بنفسه يربيها، محبوب بين الناس قد كف أذاه عنهم، وهذا جزاؤه كذلك من جنس عمله، فمن جمع همه وهمته لإصلاح النفس سيكفيه الله ما أهمه وييسر له ويعينه على صلاحه: وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [آل عمران، 101]، وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، مَنْ يَتَحَرَّى الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ”. وقال الإمام المجدد رحمه الله تعالى: “متى فرغت من ترويض نفسك على المكروه طبعا، للمحبوب شرعا، من الأفكار والسلوك والعواطف والحركة فقد قاربت أن تفلت من فلك الحياة الدنيا ومصايد الشيطان” [2] ، وهو مع هذا في مأمن من إثم سوء الظن بالله وبخلقه، ومن سوء الاغترار بالنفس والشيطان، يقظ، مشغول بالاستقامة على أمر الله، مراقب لسيره محاسب لنفسه متهمها.

قال ابن القيم رحمه الله “اربأ بنفسك عن تعيير المقصرين، فلعل تعييرك لأخيك بذنبه أعظم إثما من ذنبه وأشد من معصيته لما فيه من صولة الطاعة وتزكية النفس وشكرها والمناداة عليها بالبراءة من الذنب وأن أخاك باء به ولعل كسرته بذنبه و.. ووقوفه بين يدي ربه ناكس الرأس منكسر القلب أنفع له وخير من صولة طاعتك.. فإن الميزان بيد الله والحكم لله”.

وأفضل ما يداوي الإنسان به نفسه هو المحاسبة إذ هي طريق الصلاح، والانشغال بتقويم النفس سبيل الإصلاح. والمحاسبة والتقويم يتطلبان عزيمة ومثابرة خاصة، والانشغال بالعثرات والانصراف إلى النقد والانتقاد أعظم الأضرار. وإنه لا يهتم بالصغائر إلا الصغار ولا يفتش عن المساوئ إلا البطَّالون.

قال الله تعالى: يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍۢ [الحشر، 18].

وقال الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: محاسبة نفسك هي “واجبك نحو الله. قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا». والعاقل من جعل دَيْدَنَه محاسبة النفس صباح مساء، يستغفر ربه لزلاته، ويحمده على نعمائه، ويستغفر ويبكي ويتوب ويتفكر ويذكر” [3]، فمن حاسب نفسه علم قدرها ومقامها وعرف ما له وما عليه.

يا واعِظَ الناسِ عَمّا أَنتَ فاعِلُهُ ** يا مَن يُعَدُّ عَلَيهِ العُمرُ بِالنَفَسِ

اِحفَظ لِشَيبِكَ مِن عَيبٍ يُدَنِّسُهُ ** إِنَّ البَياضَ قَليلُ الحَملِ لِلدَنَسِ 

كَحامِلٍ لِثِيابِ الناسِ يَغسِلُها ** وَثَوبُهُ غارِقٌ في الرِجسِ وَالنَجَسِ 

تَبغي النَجاةَ وَلَم تَسلُك طَريقَتَها ** إِنَّ السَفينَةَ لا تَجري عَلى اليَبَسِ 

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.


[1] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ط 1989/2، الشركة العربية للنشر والتوزيع القاهرة، ص 361.

[2] المصدر نفسه، ص 362.

[3] عبد السلام ياسين، الإحسان، ط 2018/2، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ج 1، ص 269.