الاستقرار الأسري: التحديات والمرتكزات

Cover Image for الاستقرار الأسري: التحديات والمرتكزات
نشر بتاريخ

يقول الله سبحانه وتعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الروم، 21).

يقول ابن خلدون إن الإنسان اجتماعي بطبعه، أي إنه فطر على العيش مع الجماعة، ولا يقدر على العيش بمعزل عنها مهما توفرت له سبل الرفاهية والراحة.

وجاءت كلمة إنسان من الأنس، أي الاستئناس بمن حوله، والحياة بمجملها خبرة مشتركة تقوم على التعاون والمشاركة، وعليه فإن الأسرة هي الخلية الأولى للنمو والخبرة والنجاح أو الفشل، وهي الخلية الأولى التي ينتظم من خلال سلوكياتها كل أفراد الأسرة.

الأسرة ضرورة اجتماعية يحرص الإسلام على سلامتها وتوازنها واستقرارها، لأن في ذلك حفظا للإنسان وللمجتمع، والأسرة هي النواة الأساسية للمجتمع، ويعتبر الاستقرار الأسري عاملا مهما في استقراره، فالأسرة خاضعة للتفاعل بين أفرادها.

والتواصل والحوار أهم أدوات استقرار الأسرة، فالأسر التي يغيب التواصل والحوار بين أفرادها، أو القائمة على الصراع والكراهية، لا تنتج سوى صور الانحراف المغذي لمآسي المجتمع، بينما التواصل المباشر والواضح والصادق والحوار البناء من سمات الأسر المستقرة، ومن هنا كان اهتمام الإسلام منذ اللحظة الأولى بوضع الضمانات الكافية لتحقيق الاستقرار الأسري انطلاقا من اختيار الشريك إلى بناء العلاقة الزوجية على المحبة والمودة والرحمة.

إن ترسيخ عوامل استقرار الأسرة في المجتمع الإسلامي يؤدي إلى إمداد المجتمع بنسل صالح يقوم بدوره في الحياة خير قيام كما أمر الله سبحانه، إذ إن أبناء المجتمع هم ثمار الأسر، وإذا استقرت الأسرة استطاعت أن تمدّ المجتمع بالنسل الصالح.

الاستقرار الأسري عبارة عن علاقة أسرية تقوم على التفاعل الدائم بين أفراد الأسرة جميعا، وهي ثمرة سلوك قصدي وعمدي في معظمه، وهو شعور يترتب عن الأعمال التي يقوم بها كل فرد في الأسرة، وعلى إدراك الدوافع والنيات التي تقف وراء سلوك الأطراف الأخرى.

وعلى الرغم من تماسك وضع الأسرة – نسبياً – في المجتمعات العربية والإسلامية إلا أن السنوات الأخيرة عرفت كثيراً من المتغيرات التي أربكت نظام الأسرة، سواء على مستوى العلاقات أو على مستوى الوظائف والأدوار، مما فرض نوعاً جديداً من التحديات.

1- تحديات الاستقرار الأسري

وتتمثل التحديات التي تواجه الأسرة في الواقع المعاصر من تأثيرات الحياة المعاصرة بمكوناتها المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعرفية، وخصوصاً التكنولوجية – ونحن نعيش أوْج عصر التكنولوجيا – وخاصة الشبكة العنكبوتية بمؤثراتها العميقة والمتمكنة من كل حياتنا في جميع جوانبها، لتحدث أثرا عميقا في المستويات المختلفة داخل الأسرة المسلمة. ويمكن أن نجمل تحديات الاستقرار الأسري في:

ضعف التواصل داخل الأسرة: نجد العلاقات داخل الأسرة المعاصرة آخذة في التراجع، فقد تحولت من علاقات تسودها المودة والتعاون إلى علاقات قائمة على الذاتية والشخصية، ويمكن أن نرجع هذا التغير في شكل العلاقات إلى سيطرة الطابع الفردي على الحياة الاجتماعية ونمو الفردانية، وكذا تغير القيم الحاكمة للأسرة في الحياة المعاصرة والتي تمددت فيها قيم الأنانية، والقسوة، واللامبالاة، وبالتالي أصبحت هذه العلاقات مهددة داخل الأسرة بالتوتر والتأزم، بل والانهيار في أحيان كثيرة (ارتفاع حالات الطلاق) (1).

جاءت الثورة المعلوماتية لتشكل أكبر تحدّ للأسرة في علاقاتها نتيجة تكريسه لروح الفردية داخل كيان الأسرة، وليصبح لكل فرد من أفراد الأسرة عالمه الافتراضي الذي ليس له أي صلة بعالمه الواقعي الذي يعيشه مع أسرته.

التباين بين الأجيال: تكونت عند الأجيال الأصغر ثقافة جديدة مختلفة عن أسلافهم بسبب تعرضهم لهذا التنوع الكبير والمختلف من أنماط الثقافة السائدة، وما نتج عنه من شخصيات مختلفة في الفكر والشعور بل وحتى المظهر، كأحد تجليات العولمة التي أسهمت تكنولوجيا المعلومات في بلورتها.

فساد الإعلام: وتبرز أهمية الاعلام كوسيلة من وسائل التنشئة الاجتماعية في المكانة التي يحتلها في توجيه الفعل الاجتماعي والتأثير على توجهات الأفراد ومواقفهم وسلوكياتهم. هذه الأهمية التي يحتلها الإعلام دفعت معظم الأنظمة للسيطرة عليه، وتسخير أكبر عدد من المتخصصين لضمان الهيمنة على أفكار الناس وعواطفهم (2). ويلخص الأستاذ عبد السلام ياسين خطورة الإعلام في قوله: “خطفت الثقافة المرئية المسموعة المهرجة الخليعة المتلصصة من الأم أبناءها وبناتها. بل خطفتها نفسها، وأخذت أفراد الأسرة رهائن في انتظار ملهوف للحلقة التالية…. تجلس الأسرة لمشاهدة ما كان منكرا يخدش الحياء ويجرح المروءة بعد أن وطَّأَته العادة واستألفه التكرار فأصبح أمرا عاديا، انتهك برقُع الحياء وأصبح ما كانت تنفِر منه الفطرة ويمجه الذوق ويضج منه الدين أمرا أليفا مألوفا” (3).

التخلي عن مهمة التربية: تخلت معظم الأسر عن مهمتها الأساسية في تربية الأجيال تربية سليمة صالحة، فقد أدى خروج المرأة إلى العمل الذي فرضته الظروف المعيشية للمساهمة في الدخل الأسري، إلى تغيير المركز الاجتماعي للمرأة وكذا وظائفها الاجتماعية، لكنها تدفع ضريبة باهظة تتمثل في صعوبة التوفيق بين عملها خارج البيت وداخله وبين مهامها الأساسية التي هي تربية الأبناء. ينشغل الأبوين في تلبية الحاجيات المادية واستكمال ما بقي من الكماليات منها، وهذا على حساب زرع قيم المحبة والتضامن وإخلاص العبودية لله في أبنائهم، والنتيجة هي هذه الأعداد الغثائية التائهة من الأطفال والشباب بلا مرب ولا مراقب.

إن علاج هذا الوضع الاجتماعي وإصلاح أعطابه يستلزم الرجوع بالأسرة إلى وظيفتها ومسؤوليتها التربوية الشاملة، والتي تنبني على مجموعة من الأسس لضمان استقرار الأسرة.

2- مرتكزات الاستقرار الأسري

الأسرة هي اللبنة الأساس في بناء الفرد الصالح والمجتمع السليم، فهي المحضن الذي أعده الله سبحانه وتعالى للخلق من أجل الاستقرار فيه، وبقدر ما تكون الأسرة صالحة متماسكة يكون المجتمع أخويا وقويا، وقد نظمت النصوص الشرعية مؤسسة الأسرة سواء ما يتعلق بالعلاقات بين أطرافها: الزوجين، والآباء بأولادهم، وكذا ما بين الأقارب، وفصلت الحقوق والواجبات لكل إنسان داخل بناء الأسرة، سواء الواجبات المعنوية والحقوق المادية.

يتوقف بناء الأسرة على مجموعة من المرتكزات التي تؤدي إلى استقرارها وتسهم في بناء صرح الأمة وتحقق الاستخلاف الرباني في الأرض: المعاشرة بالمعروف، الشورى الأسرية؛ مشاركة الآخر في تحديات الحياة، الرحمة والعفو؛ المرأة شقيقة الرجل في الأحكام… ويمكن إجمالها في ثلاثة أسس رئيسية:

الأساس الإيماني: يرتبط أفراد الأسرة بمجموعة من العلاقات المادية، ولكن العلاقة بين أفراد الأسرة ليست دنيوية مادية بل إنها علاقة دينية سامية متينة، ينتظمها رابط الإيمان بالله وحبه سبحانه وتعالى وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وكل أعمال البر التي ارتضاها دين الإسلام، فحينما تتأسس الأسرة على تقوى من الله عز وجل، فإنها تمتد إلى الحياة الآخرة، قال تعالى جَنّاتُ عَدْن يَدْخُلونها وَمَن صَلَحَ مَن آبَائِهم وَأَزْواجِهم وَذُريّاتهِم والَمَلاَئِكة يَدْخُلُون عَلَيْهِم مَن كُل بَاب (الرعد، 23). ولا يتأتى هذا الأساس الإيماني إلا بحسن اختيار الشريك، فالزواج ليس الغاية منه إشباع الغريزة بل فطرة إنسانية وضرورة اجتماعية، فالصفة الأساسية التي يجب مراعاتها عند اختيار الزوج هي الدين والخلق وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُم والصّالحِين مِن عِبِادِكُم وَ إِمائِكُم إِن يكُونُوا فُقَرَاء يُغْنهُم الله مِن فَضْله واللَّه وَاسع عَلِيم (النور، 32).

إن الاختيار القائم على أساس الإيمان وحسن الخلق من جانب الزوج والزوجة هو صمام أمان الحياة الأسرية، فبالإيمان يستقيم عود البيت وتثبت قوائمه، ويصبح على أتم الاستعداد لمواجهة التأثيرات الداخلية والخارجية (4).

الأساس العاطفي/الاجتماعي: يقول الله سبحانه وتعالى: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة (الروم، 21). تعد المودة والرحمة والألفة بين أفراد الأسرة بشكل عام، والتكريم المتبادل بينهما، والتعاون على رعاية الأسرة من أهم الأسس التي يقوم عليه استقرار الأسرة ودوامها، “بالمودة والرحمة الحميمين يتميز الزواج المطابِق بالقصد والفعل والتوفيق الإلهي للفطرة، وبهما لا بمجرد العَقْد القانوني يحصل الاستقرار في البيت، وبالاستقرار في البيت يشيع الاستقرار في المجتمع” (5).

ويعبر سيد قطب عن هذا التكامل الضروري بين الجنسين والمبني على المحبة، وكذا أثر هذه العلاقة الطيبة على الأبناء: “فيدركون حكمة الخالق في خلق كل من الجنسين على نحو يجعله موافقا للآخر، ملبيا لحاجته الفطرية: نفسية وعقلية وجسدية، بحيث يجد عنده الراحة والطمأنينة والاستقرار ويجدان في اجتماعهما السكن والاكتفاء، والمودة والرحمة، لأن تركيبهما النفسي والعصبي والعضوي ملحوظ فيه تلبية رغائب كل منهما في الآخر، وائتلافهما وامتزاجهما في النهاية لإنشاء حياة جديدة تتمثل في جيل جديد..” (6)، ومما يسهم في استمرار هذه المحبة عدم تجبر الزوج الأب على أبنائه ولا تمرد الأم على زوجها، وابتعاد الأبناء عن الكلام البذيء، وسعي أفراد الأسرة جميعا إلى الالتزام بالآداب الإسلامية قولا وسلوكا وفعلا.

الأساس المادي/الاقتصادي: في زمن سيادة ثقافة الاستهلاك وارتفاع الاحتياجات اليومية للأسرة، يشكل العامل الاقتصادي أهمية قصوى في استقرار الأسرة، حيث تقدير دخل الأسرة وتنظيم ميزانيتها، وتوفير جميع حاجات ومتطلبات الأفراد الصحية وتأمين الملبس والمسكن المريح.. والمشرع الإسلامي ربط الزواج بالقدرة المادية، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال، قال لنا رسول الله: “يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج…”.

كما نظَّم الإسلام أمور الأسرة المالية في الحياة وحتى بعد الموت عن طريق الإرث، فبيَّن من تجب عليه النفقة ومن تجب له، وأنها واجب من الواجبات الدينية، وليست صدقة فيها مِنّة، وأنها واجبة للزوجة والوالدين وإن كانوا مخالفين للابن في الدين، وتجب للأولاد ما داموا صغارا، كما بيّن أنصبة الورثة وبيَّن حدودها وطريقة استيفائها، وجعل ذمة كل من الزوجين مستقلة، كما أن خروج الزوجة للعمل لا يُسقط نفقتها الواجبة على الزوج المقررة شرعاً، وفق الضوابط الشرعية.

بالرغم مما سبق، فإن مشاكل النفقة وتدبير الميزانية ودور الزوجة في تحمل التكاليف المادية، أصبح اليوم من أهم المشاكل التي تساهم في التفكك الأسري.

إن اهتمام الإسلام بوضع أسس متينة لتماسك الأسرة واستقرارها غايته خلق مجتمع آمن ومستقر، إذن فهذا الاستقرار إن توفر في المجتمع، فإن له ثمارا يعود أثرها على الفرد والمجتمع.

خاتمة

إن للأسرة وظيفة مقدسة ورسالة سامية في المجتمع، لهذا فهي تحت منظار الدول والأمم، فهي الأداة التي يمكن أن نبني بها مجتمعا آمنا وراقيا، ويمكن أن تكون المعول الذي نهدم به القيم والمبادئ.

إن استحضار مراقبة الله تعالى والارتقاء بالعلاقات الأسرية وجعلها أداة للسلوك الى الله، وبنائها على مبادئ الإسلام ودعائمه وأسسه، وتجاوز مسببات تفكيك الأسرة، والحرص على التعاون بين جميع أفرادها، والنهوض بالأسرة ماديًا ومعنويًا، هو الضمانة لإقامة العدل وتحقيق التوازن المجتمعي، مع دور التشريعات في ترسيخ هذه الأسس، وكذا ما تستلزمه المناهج التعليمية التربوية والإعلام بكل مكوناته، دون نسيان دور المسجد في تهيئة الأبناء والشباب لبناء أسرة مستقيمة والاهتمام بها والذود عنها.

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.


الهوامش:

(1) ماجد بن عبد الله العصيمي: الأسرة والتحديات الاجتماعية للإنترنت.

http://www.icefs.net/archives/icefs

تمت زيارة الموقع 21/9/2019.

(2) صباح العمراني: “المرأة والمشاركة السياسية بالمغرب”، افريقيا الشرق 2018، ص 137.

(3) عبد السلام ياسين: تنوير المؤمنات، الجزء الأول، ص 136.

(4) عبد الإلاه بالقاري: الاستقرار الأسري: أسسه وثماره:

https://www.yassine.net/ar/2018/03/19901/ 

(5) عبد السلام ياسين، العدل؛ الإسلاميون والحكم، دار الآفاق، بيروت، ط 3، 2001م، ص 278.

(6) سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، القاهرة، ط 17، 1412هـ، 5/2763.