الاختلاط بين الواقع والشرع

Cover Image for الاختلاط بين الواقع والشرع
نشر بتاريخ

تصعدين الحافلة قاصدة الكلية أو مكان العمل، فتبحثين عن مقعد خال تجلس بجانبه امرأة فلا تجدين غير التي بجانب الرجال. أتجلسين على إحداها أم تظلين واقفة؟ حالة صراع داخلية تجتاح نفس المؤمنة الخائفة على نفسها من مثل هذه التفاصيل الصغيرة في كل مرة يتكرر فيها هذا المشهد، أما التي “جردها من الدين ومن الحياء جو الفساد العام” [1] فغير مكترثة للذي يتماس جسدها معه في وسائل النقل المكتظة.

نشأة الاختلاط المجنون

يعتقد المتصفح للتاريخ أن الاختلاط من مخلفات الاستعمار في بلادنا الإسلامية والعربية على وجه الخصوص، وأنه حصل نتيجة تفشي أفكار الغرب، دعاة المساواة وتحرير المرأة والنضال النسوي، وألبسوها ألفاظا طنانة من قبيل التقدمية والتمدن والحضارة. فلما كان النقص في الوازع الديني؛ تبخر الحياء وتشربت بنات المسلمين وشبابها هذه الأفكار الواهية، وتغرروا بها، فعاثوا في الأرض فسادا بالفسق والميوعة والفجور، في الشواطئ والحدائق والمقاهي والأندية الرياضية، وحتى في الجامعات والمؤسسات التعليمية والثقافية. يتصافحون بكل أريحية ويجلسون جنبا إلى جنب غير مكترثين بما يصح وما لا يصح.

ذريعة العافية السيكولوجية

مهووسات ومهووسون يصرون على أن انعزال البنات عن الأولاد يزيد الكبت في نفوسهم، لذلك وجب كسر الشهوة وتهذيبها ونزع هذا الجنون الجنسي باختلاطهم. “فلسفة دوابية زاحفة تحتل ديار المسلمين موقعا موقعا” [2].

حل مؤقت جاهل

ظن البعض في وقت سابق أن الحل لهذه المعضلة هو سجن المرأة وحبسها والحكم عليها بالخرجتين؛ الأولى من بيت أبيها إلى بيت الزوجية، والثانية منه إلى قبرها. سموه سد الذرائع، ونهجوه غيرة على المرأة وخوفا عليها من الذين في قلوبهم مرض، وخوفا على الرجال من الافتتان بالنساء. يخبر الإمام المرشد رحمه الله أنه “أشد غيرة على دين الله من رسول الله لا يكون، وأعلم منه بروح الشريعة وحكمة الله عز وجل لا يكون” [3]. فما هو إذا إلا فقه منحبس مُكتسٍ بغطاء العمى والحرفية والظاهرية كما سماه الإمام، غافل عن ضرورات الحياة المعيشية التي تفرض على المرأة الخروج في مجالات تلتقي فيها النساء والرجال.

ضرورة حتمية

نسرع للتأكيد أن الاختلاط ضرورة حتمية تابعة لسنة الله في الخلق الذين جعلهم سبحانه وتعالى ذكورا وإناثا، تخرج المرأة لتتعلم وتعمل ولتطور مؤهلاتها وقدراتها مساهمة في الحياة المجتمعية في كل المجالات المتاحة لكفاءتها وطاقتها دون المس بحيائها وعفتها وكرامتها.

العودة إلى المنبع الصافي

بين الشارد عن دين الله كفرا وفسوقا، والشارد عنه تعصبا وجهلا، نرجع إلى قرن النبوة؛ وهو عالم آخر غير عالمنا الفوار. نجد عموم المسلمين رجالا ونساء يجلسون متجاورين في المسجد ليستمعوا إلى خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن حدث وتعذر على إحداهن السمع سألت رجلا قريبا منها: (ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر كلامه) [4]. في المجتمع النبوي كانت روح المسجد غالبة متفوقة على أهواء الناس، مهذبة لنفوسهم ليسكنها الحياء والحشمة والوقار. لذلك كان اجتماع المومنين والمومنات في المسجد للتزاور والتناصح والمذاكرة والتعلم من المعلم الأعظم صلى الله عليه وسلم.

ثبات لا اختباء

وفي أصعب المواقف وأشدها كالغزوات شاركت صحابيات جنبا إلى جنب مع الصحابة في ساحة الجهاد بحزم وقوة وثبات. فهذه عائشة بنت أبي بكر وأم سليم رضي الله عنهما مشمرتان يوم أحد تنقلان القراب فتفرغانها في أفواه القوم. لم تكن المرأة يوما في الزمن النبوي مختبئة عن الرجال، منكبة على أشغال البيت، منصرفة عن أحوال الأمة، بل كان حضورها حضورا مميزا قويا. ونعرض الموقف الذي جمع بين أسماء بنت عميس وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم جميعا حين تعزز عليها بالأحقية والأسبقية؛ أتراها وضعت قطنا في فمها قبل أن تقول غاضبة فتسمع الجميع صوتها: “كلا والله، كنتم مع رسول الله يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم. وكنا في دار البعداء البغضاء بالحبشة… وايم الله! لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم” [5]. المهاجرة المجادلة الغاضبة واقفة تحاجج ابن الخطاب بقوة وثبات.

ولنا في حياة أمهات المومنين والصحابيات أمثلة كثيرة لمواقف الرجولة الإيمانية والثبات. فهل كانت الصحابيات إذا حبيسات بيوتهن منعزلات مخفيات عن الأنظار؟ كلا، بل “جمعهم والصحابة العلم بعد أن جمعتهم السفينة، وجمعتهم الهجرة، وجمعهم الإيمان” [6].

ضوابط وآداب

كان اختلاط الصحابة والصحابيات في المجتمع النبوي مقننا بضوابط نابعة من وحي كتاب الله، نلخصها في قواعد ثلاث؛ أولها غض البصر، يقول الحق عز وجل في محكم تنزيله: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ  (سورة النور، الآيتان: 30 – 31)؛ خطاب إلهي موجه لكلا الجنسين لحفظ البصر المفضي إلى تحريك باقي الشهوات. والقاعدة الثانية يبينها الشق الثاني من الآية الكريمة أمرا وإرشادا إلى الحجاب، واللباس الإسلامي ليس مجرد غطاء تستر به المرأة جسدها، بل هو “رمز في نفس اللابسة لما يعتلج في ضميرها” [7] من إيمان وقبض على الدين وتمسك به، وما الحجاب إلا إذن صريح ومباشر للمرأة المسلمة بالخروج من بيتها لقضاء حوائجها ومشاركتها في الحياة العامة، “إذ لولا ضرورة الخروج ومشروعية الخروج، لما كانت هناك حاجة لتوصية المرأة المسلمة بستر زينتها وصون جسدها” [8]. والقاعدة الثالثة، وهي من الأهمية بمكان: اجتناب الخلوة، فيفي عصر التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي فتحت رياح الهوى العاتية باب الخلوة بين الفتيات والشباب على مصراعيه، تخبرك هي أو هو (نحن نتحدث في المواضيع الدينية والثقافية لا غير)، يتخذون نقاشاتهم وأحاديثهم ذريعة تضفي عليها الطهر والتقى، وإنه لعمري منزلق خطير ومدخل من مداخل الشيطان، يلعب من خلالها في النفوس كيف يشاء، فيتيه كلاهما في خيالات لا يحمد عقباها. يقول الإمام المرشد رحمه الله تعالى “أخزى ما يكون الاختلاط، إن كان في الخزي دركات، حين يخلو رجل بامرأة. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك نهيا مشددا فقال: “لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع محرم””[9].

وصايا أخيرة

لك يا أخيتي – وأنا معك – من صديقاتك وأخواتك الأعداد الكثيرة للنقاش معهن، والمذاكرة والمراجعة دون حاجة للاختلاء برجل أجنبي في زاوية ما في المكتبة أو في غرفة الدردشة الخاصة بمواقع التواصل الاجتماعي. في الأوساط المختلطة اجعلي كلامك قاصدا لا ريبة فيه، بنبرة صوت واثقة، وزعي نظراتك على الجميع حتى لا يظن رب العمل أو الأستاذ أو الزميل عنك الخوف وعدم الثقة. تشبثي بحدود نطاق العلاقة التي تجمعك بالرجل سواء كانت عملا أو مشروعا تعملين عليه معه. ولا تنسي أخيتي؛ ما دام همك الله والخوف من معصيته نصب عينيك فلن يخيبك الله جل وعلا، ولن تقعي ضحية هوس الاختلاط.

يقول المرشد رحمه الله تعالى: “ولمن خافت مقام ربها جنتان، ولمن اتقت ربها حب الله لها، وخشية الله مقام الرسل ومقام أولي العلم” [10]، قال الله تعالى: ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ ٱللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُۥ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا ٱللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبًا (سورة فاطر، الآية 28).

والحمد لله رب العالمين.


[1] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، الجزء الثاني، الطبعة 2018/1، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، الصفحة 100.

[2] نفس المصدر. نفس الصفحة.

[3] نفس المصدر، الصفحة 117.

[4]  عن سيدتنا أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها قالت: “قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا، فذكر فتنة القبر التي يفتتن فيها المرء، فلما ذكر ذلك ضج المسلمون ضجة حالت بيني وبين أن أفهم آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سكت ضجيجهم قلت لرجل قريب مني: أي بارك الله فيك، ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر كلامه؟ قال: قال قد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور قريبا من فتنة الدجال” رواه البخاري.

[5] رواه أبو موسى الأشعري، صحيح البخاري، 4230.

[6] تنوير المومنات، مرجع سابق، الصفحة: 96.

[7] المصدر نفسه، الصفحة 111.

[8] المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[9] المصدر نفسه، الصفحة 102.

[10] المصدر نفسه، الصفحة 336.