الإنسان في المنهج الإسلامي والمنهج الوضعي في التنمية البشرية المعاصرة (4).. تحقق الكرامة الإنسانية في مقاصد الشريعة

Cover Image for الإنسان في المنهج الإسلامي والمنهج الوضعي في التنمية البشرية المعاصرة (4).. تحقق الكرامة الإنسانية في مقاصد الشريعة
نشر بتاريخ

قال الأستاذ محمد الطاهر بن عاشور: “صلاح الإنسان بصلاح عقله، وصلاح عمله، وصلاح ما بين يديه من موجودات العالم (البيئة)” 1. ومعنى هذا أن مظاهر تحقق الكرامة الإنسانية في مقاصد الشريعة تكمن في القواعد التالية:

قاعدة نفي الإكراه في الدين

وهو مبدأ عظيم مؤكد في الشريعة الإسلامية يتأكد من خلاله تحقيق مقصد كرامة الإنسان وأنه لا يجبر على الدخول في الإسلام إلا عن قناعة تامة وقبول عقلي حيث قال الله تعالى: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ 2،  قال ابن عاشور: “ونفي الإكراه خبر في معنى النهي، والمراد نفي أسباب الإكراه في حكم الإسلام، أي لا تكرهوا أحدا على اتباع الإسلام قسرا، وجيء بنفي الجنس لقصد العموم نصا، وهي دليل واضح على إبطال الإكراه على الدين بسائر أنواعه” 3. وهذا يدل بجلاء على أن الإسلام دين يســتوعب مبدأ التنوع في العقائد دون أن يكون لهذا التنوع أي مساس بالحقوق الأخرى، وهذه حقيقــة أكدها الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه حينما قال: “الناس صنفــان، إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق”. ويعتبر هذا الأمر قانونا إلهيا ملزما في أمر الدين، وقاعدة فقهية وجب العمل بها، وذلك للاعتبارات التالية:

1. الاختلاف فطرة إنسانية

إن تاريخ الوجود الإنســاني هو تاريخ التنوع في الاعتقادات والمذاهب، وهو ما يتماشــى مع أهداف خلق الله للإنسان؛ ومن ثمة فاختلاف البشــر في عقائدهم هو أيضا سنة كونية مرتبطة بحكمة الله تعالى، حيث قال سبحانه: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ 4. ومن هنا يتبين لنا أن الاختلاف فطرة إنسانية، لذا كان لزاما الاعتراف به وترسيخه في ضمير المســلم بحيث تجعل علاقته بالآخر تقوم على أساس العدل والإنصاف والإكرام.

2. الدعوة إلى الإسلام بالكلمة السواء

لم يلجأ الإسلام في دعوته لغير المسلمين إلى اعتناقه إلى أسلوب الإكراه والضغط. وكان على الدعاة أن يقفوا عند واجب الاستمرار في دعوتهم وطلب أسباب هداية الناس، على أســاس أن مهمتهم هي البلاغ فحسب، والله يتولى حساب المعرضين، مصداقــا لقوله تعالى مخاطبا نبيه: فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ 5. وهذا المبدأ الذي يحمل فكرة التســامح كان أحد العوامل الرئيســة في نشر الإسلام حتى وصل إلى ربوع العالم المختلفة، ولا يزال في ازدياد، وهي حقيقة أكدهــا المستشــرق الهولندي دوزي (Dozy Reinhart) بقوله: «إن تسامح ومعاملة المسلمين الطيبة لأهل الذمة أدى إلى إقبالهم على الإســلام، وأنهم رأوا فيه اليسر والبساطة مما لم يألفوه فــي دياناتهم الســابقة” 6.

3. ضمان حرية ممارسة الطقوس الدينية

الإســلام لم يكره غير المســلمين على الدخول فيه، فقــد تركهم علــى أديانهــم، و ســمح لهــم بممارسة طقوس عباداتهم وضمان سلامة دور تلك العبادة، وقد أشاد بهذا الموقف المستشرق إميل ديرمنغهم (Dermenghem Émile) بقوله: “وفاض القــرآن والحديــث بالتوجيهــات إلى التســامح، ولقد طبق الفاتحون المســلمون الأولون هذه التوجيهات بدقة، عندما دخل عمر القدس أصــدر أمــره للمســلمين ألا يســببوا أي إزعاج للمسيحيين أو لكنائسهم، وعندما دعاه البطريق للصلاة في كنيســة القيامة امتنع، وعلل امتناعه بخشــيته أن يتخــذ المســلمون مــن صلاته في الكنيسة سابقة، فيغلبوا النصارى على الكنيسة” 7. ومما يؤكد هذا النهج للمســلمين مع غيرهم ممن يخالفونهم في العقيدة أنهم لم يتدخلوا في الشــؤون التفصيلية لهم، ولم يجبروهم على التحاكم أمام المســلمين وإن طلبوا منهم الانصياع للأحكام العامة للشــريعة المتعلقة بسلامة المجتمع وأمنه.

قاعدة رفع الحرج 

إن مبدأ التيسير ورفع الحرج الذي انتهجه الشرع في أحكام الشريعة يعتبر مظهرا واضحا لكون هذه الشريعة موافقة للفطرة التي جبلت عليها نفوس الناس، ومعلوم أن من الفطرة النفور من المشقة غير المعتادة وما فيها من شدة، فكان الشارع مراعيا لرفع الحرج عن المكلفين بما يوافق فطرتهم، كما تجلى ذلك في مظهرين أساسيين: أحدهما؛ أن أحكام الشريعة بنيت في جملتها على التيسير مصداقا لقول الله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ 8، والثاني؛ أن هذه الشريعة تسلك مسلك تغيير الأحكام من الصعوبة والمشقة إلى السهولة والتيسير فيما يعرض للفرد أو الجماعة من عسر وضيق من باب الرخصة؛ ولذلك كان من القواعد الشرعية المقررة قاعدة “المشقة تجلب التيسير”. وهذا ما جعل الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، وعامة ودائمة، وذلك للاعتبارات التالية:

1. رجوع رفع الحرج إلى الوسطية والاعتدال

إن اليسر ورفع الحرج في الشريعة يرجع في جوهره إلى قاعدة الاعتدال والتوسط التي يمتاز بها الإسلام، وقد قرر الشاطبي قديما هذه القاعدة الهامة في الدين بقوله: “إذا نظرت في كلية شرعية فتأملها تجدها حاملة على التوسط، فإن رأيت ميلا إلى جهة طرف من الأطراف فذلك في مقابلة واقع أو متوقع في الطرف الآخر؛ فطرف التشديد، وعامة ما يكون في التخويف والترهيب والزجر، يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الانحلال في الدين، وطرف التخفيف، وعامة ما يكون في الترجية والترغيب والترخيص، يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الحرج في التشديد، فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط لائحا ومسلك الاعتدال واضحا؛ وهو الأصل الذي يرجع إليه والمعقل الذي يلجأ إليه” 9.

2. رفع الحرج وسيلة لمقاومة الغلو والتشديد

إن ظاهرة الغلو وما يرادفها من المصطلحات الأخرى مرفوضة في الإسلام، بجميع صوره وأشكاله، سواء على مستوى الأفراد أو مستوى الجماعات؛ لما له من أضرار ونتائج سيئة في العاجل والآجل، على المستوى العام والخاص. ولهذا جاءت نصوص الكتاب والسنة محذرة من الوقوع فيه وسلوك منهجه، وأمرت في المقابل بالإنصاف مبنية خصائص هذا الدين وقواعده، ومنها التيسير ورفع الحرج، والنهي عن التشدد والغلو. عن أَبِي هريرة أن النبي ﷺ قال: “إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، ولنْ يشادَّ الدِّينُ إلاَّ غَلَبه فسدِّدُوا وقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، واسْتعِينُوا بِالْغدْوةِ والرَّوْحةِ وشَيْءٍ مِن الدُّلْجةِ” 10.

3. رفع الحرج وسيلة لتحقيق الامتثال لأحكام الشرع

إن اليسر ورفع الحرج هو وسيلة مساعدة على تحقيق الغاية المتمثلة في الانصياع لشرع الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، كما يفيد ذلك معنى الإسلام: أي الاستسلام الكلي لله تحقيقا للعبودية له تعالى وحده، بما يكفل تحقيق مقاصد شرعه في جلب المصالح للعباد وردع المفاسد عنهم. ولذلك حثت كثير من الآيات القرآنية على الحفاظ على صلاح العالم الذي يعيش فيه الإنسان والتحذير من السعي في إفساده. مما يدل على أن المقصد العام من التشريع هو حفظ نظام الأمة والعالم واستدامة صلاحه بصلاح الإنسان المستخلف فيه؛ بحيث يشمل ذلك الصلاح دين ونفس وعقل الإنسان وما بين يديه من موجودات العالم الذي يعيش فيه، ومن ذلك جوانب العقيدة والعبادات والمعاملات وجميع شؤون الحياة؛ بما يحقق الإعمار والبناء في الأرض.

قاعدة اعتبار المصالح

من المقرر عند أهل العلم أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، والشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، ولابن القيم رحمه الله في ذلك كلاما رائعا حيث قال: “وهي عدل كلها، ومصالح كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، أو من الرحمة إلى القسوة، أو من المصلحة إلى المفسدة، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل” 11. ولا خلاف بين العلماء على أهمية المصلحة في التشريعات الإسلامية، وأن الأحكام والتصرفات الدينية منها والمدنية جميعها وضعت ابتداء لتحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة، لذلك ظهرت الجملة “الشريعة الإسلامية كلها مصالح”، لأن التشريعات الإسلامية في جميع مجالاتها الدينية والمدنية موضوعة لتحقيق مصالح الناس. لذلك اعتبرت المصلحة أحد مصادر التشريع الإسلامي، وتتأكد هذه الحقيقة من خلال الأصول والقواعد التشريعية التي من أشهرها:

1. قاعدة لا ضرر ولا ضرار

أصل هذه القاعدة ما رواه الحاكم وغيره عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله عليه وسلم قال: “لا ضرر ولا ضرار” 12. هذه القاعدة من أركان الشريعة وتشهد لها نصوص كثيرة من الكتاب والسنة، ونص القاعدة يمنع الضرر مطلقاً ويشمل دفعه قبل وقوعه بالطرق الممكنة ويحرص على إزالة آثاره ومنع تكراره في حال وقوعه، ومنع الضرر يتوخى تجنب الثأر الشخصي المؤدي لزيادة الضرر وتوسيع دائرته، فلا يحق لمن أتلف ماله، إتلاف مال الغير.

2. قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد

قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد تعتبر من قواعد الفقه الإسلامي المندرجة تحت القاعدة الأم المتفق عليها: لا ضرر ولا ضرار والتي تكشف من خلال تطبيقاتها وما يندرج تحتها من فروع كثيرة عن مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية وهو: منع الفعل الضار في جميع صوره قبل وقوعه احترازًا، ومعالجة أثره بعد وقوعه إزالة ورفعا. ومصالح العباد ليست محدودة بالدنيا فقط، بل تشمل مصالح الدنيا والآخرة، ومن ذلك إقامة الحدود على مستحقيها، فإنها مصلحة في الدنيا بردعهم، ومصلحة في الآخرة بتكفير ذنبهم. وهذا مما يميز الشريعة الإسلامية عن الأنظمة الوضعية التي تنظر إلى تلك العقوبات على أنها مصادمة لحقوق الإنسان.

3. قاعدة المصالح المرسلة

حرص الأصوليين على فكرة بناء الأحكام على المصالح جعلهم يضعون «المصالح المرسلة» أساساً آخر لتشريع الأحكام في الإسلام، وكان الهدف منها استخلاص أحكام جديدة لم يتعرض لها الفقهاء من قبل، إذا ما استبانت فيها مصلحة المسلمين. وإذا كان علماء الشريعة يؤكدون أن المصلحة تتحقق، إما بجلب النفع للإنسان، أو بدفع الضرر عنه، فإن من رحمة الله بالناس في التشريع أنه قصد حفظ التوازن بين مصالح الفرد ومصالح الجماعة.. لذلك فإن ما جعله الشرع مباحاً مأذوناً، أو واجباً مفروضاً على الإنسان، فهو إما نافع له نفعاً محضاً أو نفعه أكثر من ضرره، أو أنه محقق المنفعة لأكبر مجموعة من الناس. وما جعله الشرع حراماً أو مكروهاً فهو لأنه محض ضرر أو لأن ضرره أكثر من نفعه. وهكذا شرع الله كل ما يحقق النفع للإنسان ويدفع الضرر عنه لكي يتحقق له ما خلق من أجله من الخلافة في الأرض، وإخلاص العبادة له سبحانه وتعالى.


[1] محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشّريعة الإسلاميّة، ص: 60.
[2] سورة البقرة، الآية 256.
[3] ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج 3، ص 26.
[4] سورة هود، الآيتان 118 – 119.
[5] سورة آل عمران، الآية 20.
[6] رينهارت دوزي، نظرات في تاريخ الإسلام عصري صدر الإسلام وملوك الطوائف في الأندلس.
[7] إميــل درمنغهم، حياة محمد.
[8] سورة الحج، الآية 76.
[9] الموافقات، ج 2، ص167-168.
[10] رواه البخاري.
[11] درار، إدريس جمعة، الرأي وأثره في الفقه الإسلامي، ص 430.
[12] النووي، الأربعون النووية، ص 32.