الأسرة في الإسلام (1).. أسس وأركان

Cover Image for الأسرة في الإسلام (1).. أسس وأركان
نشر بتاريخ

تعتبر الأسرة اللبنة الأساس في بناء صرح المجتمعات؛ بصلاحها وسلامتها يصلح المجتمع، فهي الوتد الذي تنبني وتقوم عليه، يؤسسها رجل وامرأة يضمنان باتحادهما استمرار النسل البشري الذي خلقه الله من أجل مهمة الاستخلاف في الأرض، قال الله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (سورة الروم الآية: 21).

فإذا اجتمع السند والسكن والمودة والرحمة، اجتمع الخير كله للرجل والمرأة على السواء.

وعلى الرغم أن مصطلح الأسرة لم يذكر في القرآن الكريم، إلا أن التشريع الرباني أولى له تفصيلا وعناية كبيرة؛ فاهتم بتنظيم هذه العلاقة وفق منظور تشريعي مقاصدي؛ فبين حقوق أفرادها وواجباتهم والقيم التي ينبغي الانضباط لها.

ومصطلح الأسرة ينحدر من الجذر اللغوي “أسر”، ويدل على الإمساك والقيد، وأسره يأسره أسرا وإسارة، شده بالإسار، والإسار ما شد به وهو القيد، ومنه القيد ومنه الأسير. وفي القرآن الكريم: نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ (الإنسان، 28)، أي شددنا خلقهم. وأسرة الرجل: عشيرته ورهطه الأدنون لأنه يتقوى بهم، والأسرة أيضا الدرع الحصينة [1].

من هنا يتبين أن من معاني الأسرة التي يمكن استخلاصها؛ هي أن الأسرة تبدأ بفردين (رجل وامرأة) يشد بعضهم بعضا ويجمعهم قيد يجعل كل واحد أسيرا للآخر، قد يكون القيد متينا ويقوم على علاقة أساسها المودة والرحمة، وقد يكون العكس إن تلاشى ذلك، فيكون قيدا حاجبا آسرا لحرية كل واحد منهما، لذا وجب قبل أن يوثق أن تتوفر فيه الشروط اللازمة لضمان استمرارية علاقة أبدية لا مؤقتة، تحقق الغاية التي خلقت ووجدت من أجلها؛ وهي الاستخلاف وإعمار الأرض. عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين، فليتق الله في النصف الباقي” [2].

وقد اعتنى الدين الإسلامي بالأسرة أيما اعتناء، وأولاها قدرا كبيرا من التشريعات والأحكام، لأنها النواة التي تمتد عبرها الأمم، وأمة الرسالة الخاتمة أولى بالعناية لإقامة مجتمع عفيف يتجنب الانحراف عن الفطرة، خال من الأمراض الاجتماعية الخطيرة، يتخطى العقبات ويسعى لإحصان المؤمنين والمؤمنات، وينشأ الجميع نشأة طيبة يسودها الطهر والعفاف.

وحفاظا على لحمة الأسرة وحماية أركانها من الهدم، سن الله تعالى تشريعات كثيرة تسبق عملية تأسيسها، فإذا كانت الأسرة نواة المجتمع فكلما كانت النواة صالحة كان المجتمع مستقرا قويا، لذلك فرض الله عقدا ينظمها تحدد الشريعة شروطه وما يترتب عنه وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَٰقًا غَلِيظًا (النساء، 21)، ووصفه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: “اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله” [3].

قال أبو جعفر الطبري في شرح ذلك: الميثاق الذي عني به في هذه الآية: هو ما أخذ للمرأة على زوجها عند عقدة النكاح من عهد على إمساكها بالمعروف أو تسريحها بإحسان، فأقر به الرجل، لأن الله جل ثناؤه بذلك أوصى الرجال في نسائهم.

كما أن أهمية هذا العقد وشرفه، سواء عند ابتدائه أو عند إنهائه، موضع جد لا هزل فيه، كما ورد في الحديث النبوي الشريف الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة” [4].

ولحماية مؤسسة الأسرة حث الشارع الحكيم أيضا على مراعاة عدة شروط:

أولا- اختيار الشريكين، فللمرأة الحرية في اختيار الزوج. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت” [5].

ثانيا- إذن الولي، وهو بين الوجوب والندب، وفي هذا يقول الأستاذ عبد الحليم أبو شقة: “وإذا كان إذن الولي للمرأة بين الوجوب والندب، فمن بر الرجل والديه أن يشاورهما وأن يطيعهما في المعروف وبخاصة في أمر يهمهما، وإن وجوب إذن الولي أو ندبه فيه مزيد رعاية للفتى والفتاة من إنسان صاحب خبرة يكون بجانبهما ساعة تأسيس أسرة صغيرة جديدة” [6].

ثالثا- حضور الولي عقد الزواج، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا نكاح إلا بولي، والسلطان ولي من لا ولي له” [7].

كما قرن عقد الزواج بشروط عدة من بينها: الرعاية ووجوب الإعلان ووليمة الزواج.. وغير ذلك كثير، حرصا منه على إقامة أسس متينة لهذه اللبنة الأساس في المجتمع.

ولم يستثن الشارع الحكيم تخصيص الشريكين بصفات تضمن المعاشرة الطيبة والدائمة، فجاءت وصية المصطفى صلى الله عليه وسلم بالتأكيد على اختيار الزوجة صاحبة الدين أولا، فهي الوتد الذي تقف عليه الخيمة وتصمد أمام الرياح والعواصف الهوجاء التي تهب على الأسرة، “تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك” [8]، ومثله بالنسبة للزوج “إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ” [9].

أولى الإسلام عناية خاصة بالأسرة فوضع أسسها وسهر على إقامة أركانها، كما لم يغفل جوانب الخلل والنقص التي يمكن أن تعتريها، فوضع منهجا نبويا سليما لحل النزاعات وفض الخلافات، نبسط له مبحثا خاصا لأهميته تحت عنوان “إصلاح ذات البين”.


[1] ابن منظور، لسان العرب (أسر)، الراغب الأصبهاني، المفردات في القرآن، مادة (أسر).
[2] ـ الطبراني في الأوسط، قال الألباني: حديث صحيح.
[3] ـ رواه مسلم: كتاب الحج: باب حجة الرسول صلى الله عليه وسلم. ج 4، ص 41.
[4] ـ صحيح سنن أبي داود: تفريع أبواب الطلاق: باب في الطلاق على الهزل، حديث رقم 1920.
[5] ـ البخاري: كتاب النكاح، باب: لا ينكح الأب وغيره البكر والبنت إلا برضاها. ج 11، ص 97.
[6] ـ عبد الحليم أبو شقة: تحرير المرأة في عصر الرسالة، ج 5، ص 74.
[7] ـ رواه أحمد، صحيح الجامع الصغير، حديث رقم 7432.
[8]ـ أخرجه البخاري، كتاب: النكاح، باب: الإكفاء في الدين، رقم: 5090.
[9] – رواه الترمذي (1084)، وابن ماجة (1967) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.