الأسرة الصالحة عماد الأمة القوية

وَالذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنَ اَزْوَٰجِنَا وَذُرِّيَّٰتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً (74) أُوْلَٰٓئِكَ يُجْزَوْنَ اَلْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّة وَسَلَٰماً  (75) (سورة الفرقان).

توطئة

سورة الفرقان تنتظم حول أربعة مقاصد كبرى تضمنتها آية الاستهلال، يقول الله عزوجل: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا؛ و هي دحض لشبه الكفار، وكشف لعورات صدورهم، ووعد شديد يناسب النذارة التي تتغياها السورة، وهي بعد إيناس للنبي ﷺ ووعد بالنصر والتأييد.

ولتستكمل السورة مقاصدها وأغراضها توجت ببيان أوصاف وأحوال خلص عباد الله تعالى، أوصاف جمعت كمال القلب والروح إخباتا وتعلقا إلى كمال الأخلاق تحليا وتخليا. ومن أحوالهم المجيدة دعاؤهم الذي اخترناه موضوعا للمدارسة وَالذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنَ اَزْوَٰجِنَا وَذُرِّيَّٰتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً.

1. الأسرة الصالحة ومقصد الاستقرار والسعادة

ها هم عباد الرحمن ثمرة الصنعة الربانية والجهاد النبوي تتوج كمالاتهم بعكوفهم على باب الله راغبين في استقرار وسعادة بيوتهم في دار العبور.

* معاني الاستقرار والسعادة من خلال الآية الكريمة

اجتهد أهل التفسير واللغة في بيان مراد الله  عزوجل من قرة العين، فقيل إنها برد دمعها، لأنه دليل السّرور، وحره دليل الحزن. وقيل إنها مِنَ القرارِ، بحصول غاية الرّضا لمصادفة الفؤاد ما يحبّه. يقول الإمام القرطبي رحمه الله: “ذلك أن الإنسان إذا كانت عنده زوجة اجتمعت له فيها أمانيه من عفة ونظر وحوطة، وكانت عنده ذرية معاونون له على وظائف الدين والدنيا، لم يلتفت عنهم إلى غيرهم، فتسكن عينه عن الملاحظة، فذلك حين قرة العين”، ويرى الإمام الطاهر بن عاشور رحمه الله أن “قرة العين كلمة جامعة للكمال في الدّين واستقامة الأحْوالِ في الحياة”.

يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله: “ها هم أولاء عباد الرحمن مستقرين أزواجا في أسرهم مع ذرياتهم… الذرية الصالحة والوُد بين الزوجين سعادة تبدأ من هنا في الدنيا قرةَ عين. قرة العين غاية السرور. والذي يفرح له المؤمن وتفرح المؤمنة فوق كل شيء الاطمئنان إلى أنهما وذريتهما سائران في طريق السعادة الأخروية” ¹.

* مقومات الاستقرار والسعادة في الأسرة

– الجمع بين الدين والخلق

الأساس الركين في العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة المؤمنين أنهما عبدان لله، يتفيئان في رحلتهما قول الله عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات، 56). يجددان النية في سعيهما وفي ما يأتيان من عمل وما يذران، حاذيهما إخلاص العبودية لله ومنتهى صبرهما ومصابرتهما نيل رضا الله. يقول الإمام رحمة الله عليه: “من هنا نبدأ وإلى هنا نرجع… ما ينبغي أن تبذلنه من جهد متواصل، في تربية النشء، ابتداء تربية أنفسنا على الإيمان بالله عز وجل، والتعلق به والاستعداد للقائه” ².

والإحسان في بعده العبادي يفضي لزاما إلى الإحسان في بعده الخلقي كما جاءت بذلك أوصاف عباد الرحمن، طاعة لله عز وجل وتأسيا برسوله ﷺ. فـ”الخُلق عمادٌ ثانٍ في شخصيةِ المؤمن والمؤمنة. وأحاديثُ المصطفى ﷺ تدل على أنه قد يكون في الرجل والمرأة بعضُ تَدَيُّنٍ لكن نَقْصُه في ميزان الأخلاقِ والمروءة لا يُؤَهِّلُه لصلاحيَّةِ الحفاظِ على الفطرةِ إنجابًا وتربيةً، ومن أجل تحقيق هذين الهدفين شُرِّعَ الزواجُ بالجامعِ بين الدينِ والخُلقِ والجامعةِ بينهما. دينٌ بلا كرمٍ هذا لا يَصِحُّ. عقلٌ بلا مروءةٍ، هذا لا يَتَّفِقُ. دعوى الحسبِ دون خُلقٍ لا تُقْبَلُ… الإيمانُ هو الخُلقُ، والخُلقُ هو الإيمان… ”إن من أكْمَلِ المومنينَ إيمانا أحسَنُهُم أخلاقا وألطَفُهُم بأهله” (رواه الترمذي)” ³.

– تكامل الوظائف في كنف التواد والتراحم

الزواج في الإسلام تجلله قدسية الميثاق الغليظ، وينظم رابطته الرعاية المتبادلة قوامة وحافظية تحت ظلال المودة والرحمة؛ “فعلى الزوج القِوامة، وهي حماية الزوجة وصيانتها وجلب المصالح إليها. وعليها هي الحافظية، تحفظه في نفسها وبيتها وولده وماله” ⁴. فـ”لا تنازع الحافظية القِوامةَ… القوامة قرينة الحافظية” ⁵. تكاملا وتعاونا.

ففي حديث لثوبان رضي الله عنه يقول فيه: لما نزل في الفضة والذهب ما نزل، قالوا: فأي المال نتخذ؟ قال عمر: “أنا أعلم ذلك لكم، فأوضع على بعير فأدركَه وأنا في أثره، فقال: يا رسول الله أي المال نتخذ؟ قال: “ليتخذْ أحدكم قلبًا شاكرًا، ولسانًا ذاكرًا، وزوجة تعينه على أمر الآخرة” وفي رواية “تعينه على إيمانه” ⁶.

و”بالمودة والرحمة الحميمين – روح الزوجية – يتميز الزواج المطابِق بالقصد والفعل والتوفيق الإلهي للفطرة. وبهما لا بمجرد العَقْد القانوني يحصل الاستقرار في البيت، وبالاستقرار في البيت يشيع الاستقرار في المجتمع… أصل الاستقرار ومثواه ومِرْساتُه الزوج الصالحة” ⁷.

2. الأسرة الصالحة ومقصد صلاح الأمة

وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا؛ دعاء يهـدي إلى الرشد في تعاون المؤمن مع أهله وذريته وفي توصيل الدعوة بالأسرة… تقوى وإيمـان وإمامة وبيت فيه قرة العين. هذا من ذاك، وذاك من هذا” ⁸.

* في معاني إمامة المتقين وتوريثها من خلال الآية الكريمة

إمام: تصلح للواحد والجمع، وتأتي بمعنى “قدوة”، وقيل: هو جمع “آم” بمعنى القصد، يقول إبراهيم النخعي رحمة الله عليه: “لم يطلبوا الرياسة، بل أن يكونوا قدوة في الدين. وهذا حسن أن يطلب ويسعى له”. وأثر عن الحسن البصري ومجاهِد رَحمَهم الله: “أئِمَّةٌ في التَّقْوى حتّى نأتم بمن قبلنا ويأتم بنا من بعدنا”. سعي وطلب ليصبحوا وذرياتهم قنوات قلبية تنقل نور النبوة عبر الأجيال.

وعن هذه الوصلة القلبية يقول الإمام رحمه الله: “إن الإسلام دين الله الخالد، حبلُه موصولٌ بين السماء والأرض بِوَصْلة النبوة والرسالة، موصول بين الأجيال الإسلامية بواسطة ورَثةِ النبوة، حَمَلَةِ الرسالة، علماء الأمة العاملين” ⁹.

 ومن صلاح الأبوين وكمالهما المنطلق والأساس “أسرة لبِنة. أسرة برج. أسرة خندق. أسرة مَبعث… لصناعة أمة قوية”عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، م.س، ج 2، ص 214.

* مقومات لابد منها لسريان نور النبوة عبر الأجيال

– إحياء الفطرة وحوْطها

يقول رسول الله ﷺ: “كلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرةِ” ¹⁰. “والفطرة استعداد الخلقة الباطنية لتلقي الإيمان بالله عز وجل وبغيبه، وكفاءتُها لمعرفته سبحانه وتعالى”. “وكمال الأبوين مربيين مسؤولين رهين بتأييدهما أمانة الفطرة بالتربية الإيمانية الإحسانية صونا  للنشء من كل شيطنة، حتى تصبح النبوة سراجا منيرا في القلوب” ¹¹.

والمرأة لها الصدارة في عملية حوْط إحياء الفطرة، وتربيتها… المرأة الصالحة هي عماد الأمة. ليس في هذا أية مبالغة ¹².

– الدعاء توصيل للأسرة الصالحة بالأمة القوية

يقول الإمام القشيري “الْإِمَامَةُ بِالدعاء لا بِالدّعوى”، يعني بتوفيق اللَّه وَتيسيره ومنّته لا بما يدعيه كل أَحد لنفسه”. عباد الرحمن لزموا الدعاء، لإيقانهم أن “الدعاء هو العبادة” ¹³، ولعلمهم بأنه الرابطة القوية بينهم وبين ربهم، وأنه وسيلة القرب منه سبحانه؛ فبه يستقوون وبأنواره يسترشدون.

ودعاء عباد الرحمن تعم فيوضاته وخيراته أسرهم وأحبابهم، اقتداء بسنن الأنبياء في وصل الإيمان بالأهل والذرية، وتأسيا بإمام المرسلين ﷺ، في أحواله مع آل بيته الأطهار وأمته وأقواله، إذ يقول ﷺ: “ثلاث دعوات مستجابات: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده” ¹⁴، وللإمام المناوي لطيفة في شرحه لهذا الحديث، يقول: “لأنه صحيح الشفقة عليه، كثير الإيثار له على نفسه، فلما صحت شفقته استجيبت دعوته، ولم يذكر الوالدة مع أن آكدية حقها تؤذن بأقربية دعائها إلى الإجابة من الوالد؛ لأنه معلوم بالأولى” ¹⁵.

والإمام رحمه الله أولى اهتماما خاصا بدعاء الرابطة، وحرص على التذكير به وبفضله، وحض أبناء وبنات الجماعة على المواظبة عليه، وجعله معلمة من معالم يوم المؤمن وليلته، وأساسا من أسس الاتباع الكامل لسنة رسول الله ﷺ، كما ندب رحمه الله  إلى تخصيص حظ طيب منه للوالدين والأهل والولد وذوي الرحم، “واعتبره التجسيد الروحي القلبي لحسن التعامل في البيوت” عبد الكريم العلمي، السلوك إلى الله عند الإمام عبد السلام ياسين. ص، 228.، لتعمهم جميعا خيرات وبركات نورانيته.  يقول رحمه الله رفعا للهمم وترغيبا للتشوف لإمامة المتقين: “بهذا يستشعر المؤمن انتماءه إلى الموكب النوراني -موكب الإيمان والجهاد- من لدن آدم عليه السلام إلى يوم القيامة، فيدخل الداعي في بركة أمة الخير التي تولاها الله عز وجل” ¹⁶.

ختام

أُوْلَٰٓئِكَ يُجْزَوْنَ اَلْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّة و سَلَٰماً.

يختم مشهد عباد الرحمن بالانتقال إلى النعيم المقيم في أعلى وأرفع منازل الجنة “الغرفات” جزاء صبرهم. عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال: “إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم. قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم. قال: بلى، والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين”.  ولما كان المنزل لا يطِيب إلّا بالكرامة والسلامة، أكرموا بتحية وسلام رب الدار الكريم المتعال وملائكته.