اتباع رسول الله ومحبته والصلاة عليه ضمان لمحبة الله

Cover Image for اتباع رسول الله ومحبته والصلاة عليه ضمان لمحبة الله
نشر بتاريخ

أول لفظ وأول مصطلح افتتحت به الخصال العشر هو الصحبة. والصحبة قوامها وروحها وجوهرها الحب والمحبة. وأول ركن بني عليه الإسلام كما يعلمه عوام المسلمين بَلْهَ خواصهم، هو الإيمان بالله والشهادة بذلك قولا والإقرار به اعتقاداً. وهذا الإيمان أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أقسم على ذلك، فقال كما روى عنه أبو هريرة رضي الله عنه: “والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تومنوا، ولن تومنوا حتى تحابوا” (صحيح مسلم)، فالإيمان لا يحصل إذن إلا بالمحبة.

ولتوضيح قدر المحبة التي تجب لله ولرسوله والتي تورث الإيمان وتحققه، نقرأ في كتاب الإحسان (ج 1) في فصل محبة رسول الله هي العروة الوثقى: “ولا حدود للتفاني في محبة الشخص الكريم على الله حتى يكون أحبَّ إلينا من الناس أجمعين ومن أنفسنا”، واستدل على ذلك بما رواه البخاري عن عبد الله بن هشام قال: “كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بنِ الخطاب. فقال له عمر: يا رسول الله! لأنت أحبُّ إلي من كل شيء إلا نفسي! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا والذي نفسي بيده، حتى أكونَ أحبَّ إليك من نفسك!” فقال عمر: فإنه الآن والله لأنْتَ أحبُّ إلي من نفسي! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “الآن يا عمر!”. ويضيف في فقرة أخرى: “نستنتج من هذا أن الإيمان مرتبط وجوبا بمحبة الله، وأن لا محبة لله دون محبة رسوله صلى الله عليه وسلم”. نستنبط من هذا أنه لا تصح هذه المحبة وتؤتي أكلها ما لم تكن من القوة والعنفوان بحيث يتضاءل معها كل حب لسواهما حتى ولو كان هذا السوى نفسك التي بين جنبيك، فأحرى بمن دونها من محاب من أهل ومال وباقي الشهوات المحببة إلى النفوس والتي فصلتها آية آل عمران: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ والتي لخص سبحانه وتعالى فيها متاع الحياة الدنيا بقوله ذلك مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا والله عنده حسن المآب.

ومقام تفضيلِ محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل شيء سواه والذي أقسم عليه سيدنا عمر رضي الله عنه بقوله “الآن، واللَّهِ، لَأَنْتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن نَفْسِي” لا يتأتى دفعة واحدة، وإنما يحصل بالترقي درجة بعد درجة، بدليل قوله رضي الله عنه “الآن”، مما يعني أنه من قبل أن ترفعه عناية رسول الله صلى الله عليه وسلم وحالُه لم يكن وصله بعد. هذا المقام إنما اكتسبه الصحابة الكرام من صحبة النبي (وقد أسلفت أن الصحبة محبة واتباع) وما استفادوا منها من الاستفاف من حاله الشريف والتنور بنوره المنيف، وهو كما وصفه كعب بن زهير رضي الله عنه:

إِنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ ** مُهَنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ مَسْلُولُ

ومعايشةِ إحسانِه، والإحسان يستعبد القلوب، وكما أنشد أبو الفتح البستي:

أحسِنْ إلى النّاسِ تَستَعبِدْ قُلوبَهُم ** فطالَما استبَعدَ الإنسانَ إحسانُ

وكذلك من جمال خلقته صلى الله عليه وسلم التي وصفها حسان بن ثابت رضي الله عنه بقوله:

وأَحسن منكَ لم ترَ قطُّ عيني ** وَأجْمَل مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النّسَاءُ

وقد ورد في حديث أخرجه مسلم: “إن الله جميل يحب الجمال”، كما أنه مما أكسبهم تلك المحبة الخارقة وذلك الاتباع غير المشروط “صوابية” -إن صح المصطلح- جميعِ أفعاله، وكيف لا وهو المعصوم من الخطإ، وله معية دائمة مستمرة مع الحق عز وعلا، أخبر صلى الله عليه وسلم بذلك إذ قال لعمر يوم الحديبية: “يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا”. وباختصار، أكسبهم ذلك الحبَّ كمالُه صلى الله عليه وسلم، ولا حد لكماله بل لا يساويه فيه أحد لقوله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخر) كما روى ذلك أبو سعيد الخدري رضي الله عنه في حديث أخرجه ابن ماجه رحمه الله وصححه.

هذه المحبة وما أنتجت من صحبة كان من تجلياتها تلك المواقف المرصعةُ بها كتب مناقب الصحابة وسيرهم، وهي معلومة مشهورة، يغنيني عن سردها شهرتها، وأكتفي بالمقولة الشهيرة والشهادة الخالدة في الصحابي الجليل زيدٍ بنِ الدَّثِنَة رضي الله عنه، التي أدلى بها أبو سفيان: “ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً”.

وبعد غياب الشخص الكريم عليه من ربه أفضل صلاة وأزكى تسليم، تسلم المشعل -مشعل إيقادِ أنوار القلوب وإحياءِ مواتها- منه صلى الله عليه وسلم كبار الصحابة من المهاجرين ومن الأنصار، فأحسن التتلمذَ لهم والأخذَ عنهم مع المحبة والتقدير من وصفهم التنزيل بقوله عز وجل: وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ فأصبح هذا الوصف علما لهم. نقرأ في مناقبهم وسيرهم نماذجَ سامقةً في محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، استمدوها من الصحب الكرام لما خصوهم بالمحبة والتعظيم والتأسي والاقتداء؛ فعَدَتْهم أحوالهم ونفعهم اقتداؤهم بهم وتشبههم بأعمالهم، كما نفعهم الجلوس إليهم في مجالس تعليمهم ومزاحمتهم بالأكتاف في جهادهم ومغازيهم، رضي الله عن الجميع.

وخلاصة القول أن التلمذة والائتساء شرطان ضروريان لاكتساب الصحبة لا يمكن تحصيلها بدونهما، لكنهما غير كافيان بمفردهما ويحتاجان لتكملة حتى يكمل الإيمان الذي لا يتم ويكتمل إلا بأن يكون الله ورسوله أحب إلينا مما سواهما. يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله في الجزء الأول من كتاب الإحسان  في فصل “محبة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هي العروة الوثقى” بتصرف بسيط: “ذاق والله حلاوة الإيمان، ومَلَكَ ناصيةَ التوفيق وأشرف على مشارف الإحسان، من كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما” إلى أن يقول: “هذه أنوار حبه الشريف المنيف فهل من محيص!”.  

ثم بعد كلام عن مدى محبة الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف أوصلتهم هذه المحبة إلى أن يفتدوه بالمهج، دل رحمه الله على ما يقرب المسافات للمريد الطالب، فأكد أن المفتاح لذلك إنما هو “تولي الشخصِ الكريم صلى الله عليه وسلم والصلاة الدائمة عليه وحب آل بيته المطهرين”. وأسطر بالخط العريض على قوله رحمه الله “والصلاة الدائمة عليه”. التولي عمل قلبي والصلاة عليه عمل جوارحي، فالقلب يحب واللسان يذكر ويصلي.

ونقرأ في كتاب المنهاج النبوي عند عرض الشعبة الحادية والعشرين؛ شعبة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: روى مسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا». فإن كان هذا فضل الصلاة على الحبيب صلى الله عليه وسلم، فكيف لا يستكثر منها المؤمن. حتى يقول رحمه الله: “نكتفي بالصيغ الواردة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهي كثيرة. والصلاة الإبراهيمية في التشهد وغيره هي العمدة”. (ومعلوم أن كلامه هنا تجاوزه رحمه الله بعد ذلك ليستقر على صيغة المكيال الأوفى للصلاة على آل البيت كما وردت في الحديث الذي نعرفه جميعا).

ثم يضيف: “صلاتنا على الرسول الكريم على الله عز وجل تبلغه، ويبلغه سلامنا، كما جاء في الحديث. فلنتأدب مع إمام الأنبياء وخيرة الخلق صلى الله عليه وسلم. وأول هذه الآداب تعظيمُه في أنفسنا، ومحبته الموصولةُ بمحبة الله لا تنفك. ومن الآداب أن نهدي ثواب صلاتنا عليه لروحه الشريفة. ومنها أن نكثر من الصلاة عليه يوم الجمعة”. ويزيد رحمه الله: “ولا يفوتنا كما يفوت الكثيرين أن المقصود من الصلاة عليه والتسليمِ والإكثارِ منهما هو صحبته ومحبته، فإننا إن أكثرنا ذكره كما أمرنا، أصبحت صورته ومعناه في قلوبنا بمثابة النور الذي نهتدي به إلى ذكر الله ومحبته، نتيجةً للصلاة على المحبوب المجتبى صلى الله عليه وسلم وَصِلتِنا الدائمة به. فالصلاة صلة. الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الخير، لذلك أوصى بعض سلفنا الصالح أن يبتدئ المؤمن دعاءه ويختمه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: «فإن الله تعالى أكرم من أن يقبل الصلاتين ولا يقبل ما بينهما»”.

ونقرأ في تنوير المؤمنات (ج 2): “لا شك أن تاج الأدعية وذروةَ سنامها الصلاةُ على النبي صلى الله عليه وسلم: ففي الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشرا». أي فضل أعظم من هذا يا من تَغْبَنُ نفسها! وأية هديةٍ أنفس. وأية بشرى أفخم!”.

ونقرأ كذلك للإمام رحمه الله في فصل محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتاب الإحسان إشارة إلى أن من حب الله وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حب أهل بيته عليهم السلام. يقول رحمه الله وأعلى مقامه: “لا فاصل بين حب الله وحب رسول الله وحب أهل بيت رسول الله، وإن تنوعت النعمة. وأعظم نعم الله علينا الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم. اللهم لك الحمد على ما تغذونا به من نعمك، ولك الحمد على نعمتك العظمى محمد حبيبك”.

وهناك شروط عملية جوارحية تكمل الشرط الوجداني القلبي وتحصل محبة النبي صلى الله عليه وسلم، للحديث عنها أعرض فقرات من درس للوالد سيدي الحسن بن الصديق رحمه الله عثرت عليه بخط يده، في موضوع مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ربه وفضل الصلاة عليه، انطلاقا من قوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا. يقول رحمه الله بعد كلام: وإذا كانت محبته صلى الله عليه وسلم بهذه المنزلة من الدين ومما توافر على إيجابها الشرع والطبع، ولا يكاد يخلو منها قلب مومن، وكان مما تقضي به العادة، ويشهد له الواقع، أن من أحب شيئا أكثر من ذكره وأُولٍع بالثناء عليه، كان خيرَ ما يذكر به صلى الله عليه وسلم ويثنى به عليه الصلاةُ عليه، امتثالا لأمر الله تعالى، وشكرا له على النعمة العظمى به، وهذا أقل القليل اعترافا بحسن صنيعه وجميله، وأداء لبعض حقه علينا فيما أسدى إلينا من معروف وخيرٍ كثير وما أرشدنا إليه ودلنا عليه من كل ما فيه صلاحنا وسبب سعادتنا في الدنيا والآخرة.

وشكر من أجرى الله الخير على يده وبواسطته هو من شكر الله عز وجل، ومن لم يشكر الناس لا يشكر الله كما في الحديث. ومن ثم كانت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قربةً وطاعة وعبادة لله عز وجل، بل من أجلّ العبادات وأفضل القرُبات والطاعات التي رتب الله عليها ثوابا كثيرا وأجرا عظيما لا يزهد فيه ولا يرغب عنه إلا محروم.

ويكفي في عظيم فضلها إجمالا أن الله تعالى أمر بها عباده في محكم كتابه، أمراً بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكة قدسه، فقال تشريفا وتكريما وتنويها بقدر نبيه الكريم: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا.

وهذه الآية هي السادسة والخمسون من سورة الأحزاب المدنية. ووجه ارتباطها بما قبلها من الآيات أنها سيقت في معرض وجوب تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيم حرماته وسلوك الأدب معه في حياته وبعد مماته، وتجنب كل ما يؤذيه في حق نفسه أو في حق أزواجه أمهات المومنين رضوان الله عليهن. بدءا من قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ۖ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ۚ الآية وما بعدها إلى أن قال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ثم أردفها بوعيد من يوذي رسوله بقول أو عمل، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا. فجاءت الآية ضمن هذا السياق لتؤكد مضمون الآيات قبلها في وجوب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، لعظيم حرمته ومكانته عند ربه؛ وأنه أهل لكل إجلال وتكريم وتعظيم. فهو معظم ومكرم من قبل ربه وإلهه وخالقه والمنعِم عليه، ومن قِبَلِ ملائكته وأهل الملأ الأعلى المكرمين؛ حتى إن الله جل جلاله وعز سلطانه وهو الغني الحميد لَيُصَلِّي عليه بنفسه وكذلك ملائكته المقربون الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يومرون، ووظيفتهم طاعة الله والاشتغال بذكره وعبادته، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وهم الموكَلُون بتدبير أمر ملكوت الله في سماواته وأرضه، وكما تشير إليه آية: “فالمدبرات أمرا”؛ هم كذلك يصلون عليه، وهم من الكثرة والعدد بحيث لا يحصيهم إلا خالقهم، وقد ورد في حديث رواه الحاكم “إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَزَّأَ الْخَلْقَ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ، فَجَعَلَ تِسْعَةَ أَجْزَاءٍ الْمَلَائِكَةَ، وَجُزْءًا سَائِرَ الْخَلْقِ”، وهم مع هذه الكثرة، كلهم يصلون عليه صلى الله عليه وسلم. أفلا نكون نحن المومنين به والمنتفعين برسالته دنيا وأخرى والراجين لشفاعته وشرفِ الحظوة بالانضواء تحت لواء كرامته يوم القيامة، والقربِ منه في الجنة، أولى بالصلاة عليه وأحرى؟ اللهم بلى ثم بلى!

وكان في تصدير الآية بإخبار الله تعالى بصلاته وصلاة ملائكته على نبيه ورسوله، والتمهيد بذلك لأمر المومنين بالصلاة عليه حثٌّ لهم وترغيب في الاقتداء بصلاته وصلاة ملائكته عليه من جهة وحتى يقدروا بذلك من جهة أخرى قدر هذا النبي الكريم الذي وصفه ربه بأنه بالمومنين رؤوف رحيم، ومنَّ عليهم ببعثته ورسالته فقال جل من قائل: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمُ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ.

ثم بعد أن أخبر سبحانه أنه يصلي عليه هو وملائكته في الملإ الأعلى، أمر عباده المؤمنين بالصلاة عليه، ليجتمع له بذلك تشريف العالَمَين العلوي والسفلي، وليظهر بذلك فضله بين أهل السماوات وأهل الأرض، وهذه خصوصية خصَّه الله بها دون سائر أنبيائه ورسله. فلا يعرف عن رسول غيرِه تعبَّدَ الله أمته بالصلاة عليه كما تَعَبَّدَنا نحن المسلمين بالصلاة عليه والتسليم.

ولتأكيد هذا الترغيب جاءت الآية جملة اسمية لتفيد الدوام والاستمرار بامتياز اسميتها، وتفيدَ تجدّد صلاة الله وملائكته عليه وقتا بعد وقت باعتبار خبرها الواقع فعلا مضارعا وهو يدل على تجدد ودون انقطاع.

وأكدت الآية ب: “إن” إما للاعتناء بشأن الخبر، وإنه من الأهمية بمكان، وإما لوقوعها موقع العلة والجواب عن سؤال مقدر عن سر هذا التشريف والتعظيم المستفاد من الآيات السابقة لها، فجاءت الآية لتبين سر ذلك وهو أن الله وملائكته يصلون عليه.

ومن كان الله وملائكته يصلون عليه، كان أهلا لكل تشريف وتبجيل وتكريم وتعظيم. فكان في الآية من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والتنويه بعالي مقامه عند ربه ما ليس في غيرها من الآيات، كما قاله القاضي عياض، وحكى الإجماع عليه.

وهنا قد يرد سؤال سبق أن أورده الفخر الرازي في تفسيره، ثم أجاب عنه، وهو إذا كان اللهُ وملائكته يصلون على رسوله فأي حاجة تدعو إلى صلاتنا نحن عليه؟ وأجاب عن ذلك بأن صلاتنا عليه ليس لحاجته إليها، وإلا فلا حاجة إلى صلاة الملائكة مع صلاة الله عليه، وإنما وقع الأمر بها لإظهار تعظيمه منا، حتى يثيبنا الله عليها، وكما أوجب علينا ذكره ولا حاجة له إليه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: “من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا”.

ونقل عن أبي عثمان الواعظ، قوله: “سمعت سهلَ بنَ محمد بنِ سليمان يقول: “هذا التشريف الذي شرف الله به محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله: إن الله وملائكته يصلون على النبي هو أتم وأجمع من تشريف آدم عليه السلام بأمر الملائكة بالسجود له، لأنه لا يجوز أن يكون الله مع الملائكة في ذلك التشريف، وأخبر عن نفسه أنه يصلي على نبيه هو وملائكتَه، فتشريف يصدر عن الله أبلغ من تشريف يختص به الملائكة، من غير أن يكون الله معهم فيه. ويزاد على ذلك أن سجود الملائكة لآدم عليه السلام إنما وقع مرة واحدة، أما صلاتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي مستمرة ودائمة، وبدون انقطاع إلى يوم القيامة. فدل ذلك على عظيم مكانة نبينا عند ربه عز وجل، وإنه منه بأعلى مكانةٍ وأشرفِ منزلةٍ، وأعظمِ مقام، لن يصل إليه ملك مقرب، ولا نبي مرسل. صلى الله عليه وآله وسلم.

وقد لخص الإمام رحمه الله واجبات اليوم والليلة للمؤمن والمؤمنة، وبعد أن أشار إلى حصص ذكر الكلمة الطيبة فحدد لها الحد الأدنى حيزا زمنيا من ثلاث جلسات من ربع ساعة على الأقل لذكر لا إله إلا الله مع حضور القلب مع الله عز وجل، لكن دون الإشارة إلى عدد معدود (وإن كان بعد ذلك حدده في دروسه وأشرطته)؛ نجده فيما يتعلق بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والإكثار منها، حدد الحد اليومي الأدنى منها عدديا في 300 مرة على الأقل، مع تخصيص ليلة الجمعة ويومها للصلاة عليه دون تحديد عدد؛ ونفهم من كلمة تخصيص أن على المومن والمومنة إضافة على الثلاثمائة مرة التي يخصصها كل يوم للصلاة على النبي فإنه يوم الجمعة يخصص لها  زيادة على ذلك الأوقات التي كان يخصصها لذكر الكلمة الطيبة.

أؤكد في الختام على أني إنما أردت أن أذكر بفضل الصلاة على النبي ومحبته وتولّي آل بيته، ولا يفهم من قولي أن يكون ذلك على حساب الكلمة الطيبة، فهي العماد وهي التي تكسب الإيمان وكيف لا وهي أعلى شعبة من شعبه، لكن لتعمل الكلمة الطيبة عملها في تجديد الإيمان لا بد لها وكما أوضحت من محبة الله ومحبة رسوله مشفوعة بمحبة آل بيته، ولا تتحقق هذه المحبة إلا بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي وسيلتنا للكينونة مع الله والملائكة. وأتمثل في ضرورة الجمع بين عُمْدَتَي خصلة الذكر المنهاجي، كلمة التوحيد والصلاة على النبي بقول الشاعر:

 لكلٍّ مكان لا يَسُدُّ اختِلالَه ** مكان أخيه في جُزوعٍ ولا جـَـلدِ

هَلِ العَيْنُ بَعْدَ السَّمْع تكْفِي مكانهُ ** أم السَّمْعُ بَعْد العيْنِ يَهْدِي كما تَهْدي