إماطة الأذى عن الطريق

Cover Image for إماطة الأذى عن الطريق
نشر بتاريخ

مضى على سكننا في منزلنا الجديد بضعة أشهر؛ تأقلمت فيها بسرعة مع جاراتي، ولله الحمد.

فرغم كثرة درجات السلم التي أصعدها إلى الطابق الثالث حيث توجد شقتي، أجد متعة في الصعود والهبوط كل مرة وأعتبرها حصة رياضية مجانية.

إلا أن الذي أثار انتباهي طوال مدة إقامتي في شقتي الجديدة هو نظافة سلم الإقامة واحترام الجميع لأوقات رمي القمامة، فلا تجد أحدا يرمي الأزبال هنا وهناك.

ويوم الجمعة بالتحديد تكون درجات السلم في غاية النظافة، وتنبعث منها رائحة البخور في الصباح الباكر وكأن أحد الجيران يعمد إلى تبخيرها بالعود أو ما شابهه من العطور الطيبة صبيحة كل جمعة.

وحين استفسرت جاراتي عن السر وراء النظافة الدائمة لهذه الإقامة، أخبرنني أن الفضل يعود. بالأساس إلى تلك السيدة التي تسكن بالطابق الأرضي، اسمها حليمة وهي أرملة في عقدها السادس تسكن لوحدها بعد زواج بناتها الأربع ووفاة رفيق دربها.

استغربت لأمر هذه السيدة التي تسكن بالطابق الأرضي وتتجشم عناء صعود أربعة طوابق من السلالم كل جمعة لتنظيفها وتبخيرها بالعود.

لماذا تفعل هذا وهي لا تستعمل السلالم أصلا؟

ما سر هذه المرأة الفاضلة؟ هل مازال في زماننا هذا نساء بهذه الأخلاق العالية؟

قررت ودون تفكير طويل أن أتعرف على هذه السيدة الفاضلة وأسألها لم تفعل هذا؟ ومن دون مقابل؟ وأسئلة أخرى دفعتني إلى طرق باب شقتها بحجة أن استفسر منها عن قطة ابني الصغير هل دخلت عندها؟

فتحت لي حليمة بابها بابتسامة عريضة ودعتني إلى الدخول قبل أن تسأل من أنا. سررت باستقبالها العفوي واسترسلت بالحديث معها وأخبرتها دون انتظار طويل عن سبب زيارتي الحقيقي:

“أخبريني بالله عليك كيف ولماذا تنظفين سلم العمارة وحدك ومن دون مقابل ومن طلب منك ذلك وأنت أصلا لا حاجة لك بطلوع السلالم وأنت تسكنين الطابق الأرضي؟

ثم كيف لم أنتبه إليك، وأنا معكم في الإقامة منذ سبعة أشهر؟ ظننت في البداية أن الحارس هو من يقوم بالتنظيف؛ حتى أخبرتني جاراتي بسرك؛ فمن أي عصر أنت؟ وما حاجتك لما تفعلين؟ ألم يكن حريا بسكان العمارة أن يتناوبوا كلهم على هذا الأمر؟

قبل أن أكمل وابلي من الأسئلة والاعتراضات؛ ابتسمت حليمة بوجهي وقالت: “على رسلك جارتي، الأمر أبسط مما تعتقدين. أنا كما ترين امرأة متوسطة الحال أعيش على معاش زوجي المتوفى، ولله الحمد، يكفيني لسد حاجياتي اليومية وليس لي مال زائد أتصدق به، فقررت منذ سنوات أن أنظف سلم العمارة وأنوي به إماطة الأذى عن طريق جيراني صدقة جارية على والدي وزوجي رحمة الله عليهم أجمعين. وأنا أفعل هذا قبل استيقاظ الجيران وخروجهم لأعمالهم، ملتمسة بركة يوم الجمعة وأطلب من الله بصدقتي هذه أن يبارك لي في صحتي ويغفر ذنوبي ويرزقني حسن الخاتمة. هذا كل ما في الأمر يا ابنتي. وان كنت ترين أن هذا العمل فيه منفعة ويجب أن يساهم فيه الجميع فأنا المنتفعة الأولى به عند الله سبحانه وتعالى. فلم أتركه يفعله غيري فأنا أولى به؟”.

انحبس لساني في فمي ولم أدر ما أقول لها. فسألتني إن كنت أشرب الشاي بسكر أو بدونه لتخرجني من دهشتي.

ما أكرمك لالة حليمة وما أصغر عقل من لا يدرك كنه الأمور مثلي.