أمّ تصنع مجد أمة بعظام أكتاف الإبل

Cover Image for أمّ تصنع مجد أمة بعظام أكتاف الإبل
نشر بتاريخ

كنت أبحث جادة عن سر عظمة العظماء، فاستقرأت التاريخ، فإذا بي أجد نفسي أمام طود عظيم واسم شامخ شموخ الجبال الرواسي، ووتد صلب يشد الخيمة والبناء من الأساس، ويرفع العلم عاليا، هذه أمة أعز الناس. فعرفت من أين أستقي، من أعالي التاريخ نستقي، ومن النبع الصافي نرتوي. ومع الأمهات – وأية أمهات! – المومنات صانعات المستقبل… ما أجمل السياحة! سياحة في زمن الفقه المنحبس، حيث أصبحت الكلمة فيه متهمة، فطوردت وحوصرت واعتقلت وأعدمتها الأنظمة. وكانت سياحتي في خزانة هذه الأمة مع كتاب عظيم، وبغض النظر عن موضوعاته الفقهية فقد أثار اهتمامي عنوانه: “الأم”. ما أعظم هذه الكلمة! لقد كان لها شأو عظيم عند صاحب هذا الكتاب. فتعالوا معي في سياحة جميلة نعرف السر الدفين لهذه التسمية، ومن تكون هذه الأم؟ ومن صاحبة هذا الوسام العظيم؟

وسام من درجة قائد.. يحمل بطاقة تعريف

هي فاطمة بنت عبد الله الأزدية، كنيتها: أم هبية الأزدية، وهي حفيدة أخت السيدة فاطمة أم الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. هاشمية من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.

تزوجت هذه المؤمنة الطيبة من المؤمن الطيب إدريس بن العباس بن شافع بن عبد يزيد بن المطلب بن عبد مناف، هاشمي مُطلبي شريف. كان فقيرا فخرج إلى الشام طلبا للرزق حاملا معه زوجه الصابرة فاطمة، وفي غزة العزة كان المستقر، وعلى ثرى هذه الأرض الطيبة ولدت فاطمة ابنها محمد، وبعد أن بلغ الابن الثانية من عمره مات الزوج الحبيب تاركا وراءه فاطمة الشابة وابنها محمد والفقر ثالثهما.

وهنا بدأت فاطمة تخط لهذه الأمة سطورا من المجد والعز والكبرياء، وكأني بها تناجي الحبيب المصطفى وتغني لحن الخلود هاتفة:

يا حبيبي يا محمد..

هاك ما تباهي به الأمم..

أم أنا.. علوت فوق المحن..

أهديتك فلذة كبدي.. وقهرت به الزمن..

يا حبيبي يا محمد… يا من هديتني السبيل..

هل تقبل هديتي؟! تشفع لي في يوم لا ينفع فيه إلا من أتى الله بقلب سليم.

ما أجملها، وما أروعها، وما أعزها من هدية يا فاطمة، يا هاشمية يا بنت الكرام. يكفيك فخرا أن صدقت ووفيت، وجاهدت فأبليت، حتى صدقت في ابنك نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: “عالم قريش يملأ الأرض علما”.

أتدرون أيها الأحباب من يكون؟! إنه الإمام الشافعي الذي قال فيه الإمام أحمد بن حنبل: “كان كالشمس في الدنيا وكالعافية للناس”.

جهاد واقتحام

كانت فاطمة حافظة للقرآن والحديث، بصيرة بأحكام الشريعة، فأتقنت فن البناء والاقتحام، ورحلت من غزة بلد العزة والجهاد إلى مكة بلد الوحي والعلماء لتعلم ابنها أول مبادئ العلم: حفظ كتاب الله عز وجل.

وهو ابن الأربع سنوات تناجيه وتقول: يا بني مات أبوك، وإننا فقراء، وليس لنا مال، وإني لن أتزوج من أجلك، وقد نذرتك للعلم لعل الله يجمع بك شمل هذه الأمة.

يـاه! يجمع شمل هذه الأمة! حلم كبير، وأمنية عظيمة، وبغية جليلة. إلا أن فاطمة العظيمة قهرت الحلم وجعلته حقيقة وفهمت، بل فقهت جيدا، معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تَناكحوا تَناسلوا أُباهي بكم الأممَ يومَ القيامةِ” (1).

بمثل هذا يتباهى رسول الله عليه الصلاة والسلام، ففهمتُ جيدا ما قاله إمامنا الجليل في كتابه التنوير: “وعلى المومنة واجب ألا تضع غثاء، ولا تتسبب في التكثير الأرنبي بينما غيرها يربي صقورا ونمورا” (2).

نعم ربت الفقيهة الهاشمية صقرا اسمه الإمام الشافعي، وأتقنت كل فنون التربية؛ فكانت المستشارة اللبيبة الناصحة لابنها، تشير عليه في كل أمر جلل بما هو صالح وأصلح. يذكر لنا البيهقي بسنده عن ابن وهب أنه قال: “سمعت الشافعي يقول: لما أتت علي سنتان حملتني أمي إلى مكة.. وكنت يتيما في حجر أمي فدفعتني إلى الكتاب، ولم يكن عندها ما تعطي المعلم”.

هذه عقبة، إلا أن فاطمة قد أتقنت فن الاقتحام فأوصته بالذل للعلم والأدب للمعلم حتى يتميز عن أقرانه من أبناء الجاه، وحصل ما كانت ترومه.

يقول الشافعي: “وكان المعلم قد رضي مني أن أخلفه إذا قام، فلما جمعت القرآن، دخلت المسجد، فكنت أجالس العلماء وكنت أسمع الحديث والمسألة فأحفظها، فلم يكن عند أمي ما تعطيني أشتري به القراطيس”.

وهذه عقبة أخرى استهانت بها الأم العظيمة، فكانت الشريفة فاطمة تذهب إلى حيث تذبح البهائم فتجمع عظام أكتاف الإبل تغسلها وتجففها وتحملها لتكون أناجيل لعلم ابنها. يقول الشافعي: “فكنت أنظر إلى العظم فآخذه فأكتب فيه فإذا امتلأ طرحته في جرة فاجتمع عندي حيان، أي جرتان…”. أو كانت تذهب إلى ديوان الكتبة فتجمع ما رماه المدون من بقايا الأوراق فتصلحها وتجمعها ليدون عليها الإمام العلم.

يكفيني هذا من سيرتك يا أم صاحب كتاب “الأم”، يا أما عظيمة ويا بحرا من الدروس.

أختاه، أيتها الأم الحبيبة يا من تشتكي قهر الزمان، وتتحايل على نفسها بقلة الحيلة في زمن الفتن، وتشتكي إلى الله قلة ذات اليد وقهر الرجال، أمعك الآن دليل بعد ما سمعت؟ لم تفكر فاطمة في الحلول الجاهزة، ولم تفكر في أن توظف ابنها خبازا أو سباكا أو مساح أحذية ليكتسب ويريحها من التعب وشظف العيش ـ مع كل احترامي لأصحاب هذه المهن الشريفة ـ ولكن نذرته للعلم لعل الله يجمع به شمل هذه الأمة. ترى من منا أيتها المؤمنة الغالية قد نذرت ابنها لتحرير القدس الشريف أم أن هذا مطلب بعيد؟! فعلى الأقل تحرير نفسه وجيله من ذل الخيانة والاستكبار، وأن يكون واثقا بأن وعد الله حق، ووعد الله.. أن هذه الأمة منتصرة.

أختاه يا أما لها هم ورسالة، لما خرجت الحبيبة فاطمة بابنها من غزة إلى مكة كان همها، كل همها، التخطيط للمستقبل وبدقة عالية، لم تهزمها الشدائد، لم تفكر في المطعم أو المحضن، ولا حتى في العيش العسير والحال المنكسر، كل ذلك يهون، المهم أن يكون ابنها سيد رجال زمانه، مبعوثها إلى كل الأمة. ولقد أعطت ووفـّت. فأين عطاؤنا؟! وبصوت عال يستنهض الهمم الراقدة: أين عطاؤنا؟ فيرجع إلي الصدى قائلا: آت بإذن الله، فلا تحزني، إنا ساعون إليه وجاعلوه يقينا.

أختاه أيا مربية جيل الغد، ماذا اخترت أن يكون ابنك؟ فإذا كانت الحبيبة فاطمة قد اختارت في زمانها عظام أكتاف الإبل وتحدت المألوف لتبني بها مجدا للأمة، فأنت لن تعدمي الوسيلة في زمانك تتحدين بها قهر الزمان. المهم أن تكون لك رسالة كما كانت لأم الشافعي: همة عالية وعزيمة ماضية.

وكلما يممت بين سطور سيرة الشافعي إلا وجدت أمه واقفة بصمت – صمت الملآن – قد أتقنت النصح والعطاء بعبادة المحسن. فأخذني الانبهار بهذه السيدة الطيبة، وسحرتني حتى النخاع قدرتها العجيبة على العطاء بلا حدود، فوجدتني أحدث نفسي: حتما سأعود، سأعود لأقف مع هذا البرج الشامخ وقفة أخرى – بل وقفات – أستنبط من سيرتها معاني الحياة السعيدة، بل فنون الأمومة الجليلة. من تصنع مجد هذه الأمة.

وفي رحاب العيد نقف لنحيي هذه المؤمنة العظيمة، من صنعت بابنها صرحا عظيما لمجد هذه الأمة، ونقول لها رسالتك أيتها الهاشمية رسالتنا، مستقبل الأمة، مستقبل الخلافة على منهاج النبوة أمانة في أعناقنا. وهمنا، كل همنا، الله تعالى والمصير إليه. وهدفنا أن نقدم عملا محمودا يحسب لنا جهادا ويصُفنا في زمرة الهاشمية المطلبية والحبيبات من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ذاك مطلب يسمو له الأحرار في زمن التيه والانكسار.

فاللهم اجعلنا أحرارا وكبارا في زمن الصغار.


(1) مختصر المقاصد للزرقاني، ص 326، صحيح.

(2) عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ط 2018/4، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ج 2، ص 202.