الأخلاق الحسنة.. أساس بناء

Cover Image for الأخلاق الحسنة.. أساس بناء
نشر بتاريخ

تعتبر الأخلاق والآداب من أهم أسس الحضارة الإنسانية، لا غنى عنها لأي أمة من الأمم ولأي مجتمع من المجتمعات. فهي ضرورية في بناء المجتمعات دينيًا واجتماعيًا وسياسيًا وثقافيا. وإنما يقاس المستوى الحضاري للأمم بمقياس مستواهم الأخلاقي، يقول الشاعر أحمد شوقي: 

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت

فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا 

ولذلك اعتنى الإسلام بالأخلاق والآداب أيما اعتناء في تشريعه وأحكامه وتعاليمه، قرآنا وسنة، فأمر سبحانه بمكارم الأخلاق ومحاسنها، فقال تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (الأعراف، 199). وامتدح نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم فقال: وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم، 4)، وبعثه صلى الله عليه وسلم: “برسالته لتهذيب النفوس وإقرار محاسن السلوك مما تعارفت الإنسانية على تحسينه، عن مالك بن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعثت لأتمم حسن الأخلاق”، وبالخلق الكريم أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كان آخر ما أوصاني به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وضعت رجلي في الغرز أن قال: يا معاذ! أحسن خلقك للناس” (رواه الإمام مالك). وأخرج الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن”.

تعريف الأخلاق

جاء في لسان العرب لابن منظور: الأخلاق جمع خلق، والخلق بضم اللام وسكونها هو الدين والطبع والسجية والمروءة، وقال الراغب الأصفهاني: “والخَلق والخُلق في الأصل واحد… لكن خص الخَلق بالهيئات والأشكال والصور المدركة بالبصر، وخص الخُلق بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة.

أما في الاصطلاح، قال القرطبي: “الأخلاق أوصاف الإنسان التي يعامل بها غيره وهي محمودة ومذمومة”، وعرَّف الجرجاني الخلق بأنَّه: “عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر، فإن كان الصادر منها الأفعال الحسنة كانت الهيئة خلقًا حسنًا، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي مصدر ذلك خلقًا سيئًا.

أهمية الأخلاق

يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: “هذه الشعب من شعب الإيمان، وسائر شعب الإيمان البضع والسبعون، ركائز سلوكية لا يمكن لطامح في مقامات الإحسان وسلوك طريق العرفان أن يتجاوزها أو أن يتنكبها، وإلا كان كمن يبني على غير أساس” [1] وقال: “المؤمنون أبرار، والبر حسن الخلق، فمن لا حظ له فيه يستعان بما لديه من خير لكن لا يعول عليه. وغياب هذه الشعبة من مجموع المؤمن تسقط أهليته للعضوية، لأنه لا صحبة مع سوء الخلق والانفعال الغضبي، ومعهما تسقط كل شعب هذه الخصلة” [2].

إذن هذه الشعبة من شعب الإيمان تكتسي أهمية كبيرة في منهاج التربية والسلوك إلى الله عز وجل لكل طالبي الإحسان ومبتغي وجه الله تعالى، وهذه الأهمية نلخصها في ما يلي:

الدين والخلق قرينان

روى الإمام أحمد رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسام قال: “كرم الرجل دينه، ومروءته عقله، وحسبه خلقه”.

روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “تنكح المرأة على إحدى خصال ثلاثة: تنكح المرأة على مالها، وتنكح على جمالها، وتنكح المرأة على دينها، فخذ ذات الدين والخلق تربت يمينك”.

روى الترمذي بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا خطب إليكم من ترضون دينه و خلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير”.

في الحديثين الأخيرين حث صلى الله عليه وسلم على توخي الدين والخلق مقرونان معا عند الزواج، فهما معا مما يؤهل المرأة والرجل لصلاحية الحفاظ على الفطرة إنجابا وتربية.

وروى الإمام أحمد عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الإسلام طيب الكلام وإطعام الطعام” قلت: ما الإيمان؟ قال: “الصبر والسماحة”، قلت: أي الإسلام أفضل؟ قال: “من سلم المسلمون من لسانه ويده”. قال: قلت: أي الإيمان أفضل؟ قال: “خلق حسن”.

قال الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: “الكرم هو الدين، والخلق أخ الدين، والعقل هو المروءة فلا دين بلا خلق ولا خلق بلا دين” [3].

كمال الإيمان في كمال الخلق

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أكمل الناس إيمانا أحسنهم أخلاقا، وأفضل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم” و”إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم” أبو داود، وبشر صلى الله عليه وسلم الكاملين والكاملات في الأخلاق فقال: “إن من أحَبكم إليَّ وأقرَبكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسِنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلي وأبعدَكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيقهون، قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيقهون؟ قال: “المتكبرون” (رواه الترمذي عن جابر بن عبد الله بسند حسن).

قال الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: “من المؤمنين من ينقص إيمانهم لسوء خلقهم… إنه لا صحبة مع سوء الخلق” [4].

الخلق معيار

الخلق الحسن معيار أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة، وأوصى به وألح في الوصية كي لا يظن المسلمون أن الله يقبل تدينا رهبانيا “سماويا” حتى يكون تعاملنا مع الناس في الأرض مقوما بقيم أهل الأرض. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أتدرون ما المفلس؟” قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: “إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار”.

فحسن الخلق معيار الفلاح والنجاح وقد أردى المفلس سوء خلقه في النار، ومعيار الخيرية وميزان الأهلية الخلق، يقول تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (الحجرات، الآية 13)، قال الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: “إن البكائين في المساجد العاكفين على التلاوة والذكر لن يكونوا هم أهل النور والربانية إلا إن كان سلوكهم العملي مع الناس، الأقرب فالأقرب، سلوكا أخلاقيا مروئيا” [5].

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها: “خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي”. وأخرج البزار عن أنس رضي الله عنه قال: “قالت أم حبيبة: يا رسول الله، المرأة يكون لها زوجان ثم تموت، فتدخل الجنة هي وزوجاها، لأيهما تكون للأول أو للآخر؟ قال: “تُخير فتختار أحسنهما خلقا كان معها في الدنيا، يكون زوجها في الجنة، يا أم حبيبة، ذهب حُسن الخلق بخيريْ الدنيا والآخرة”.

حسن الخلق قربة وحسنة

عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما من شيء أثقل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله يبغض الفاحش البذيء”.

وأخرج الإمام أحمد عن أم الدرداء رضي الله عنها قالت: “بات أبو الدرداء ليلة يصلي فجعل يبكي ويقول: اللهم أحسنت خَلقي فأحسن خُلقي. حتى إذا أصبح فقلت: يا أبا الدرداء، أما كان دعاؤك منذ الليلة إلا في حسن الخلق؟ فقال: يا أم الدرداء، إن العبد المسلم يَحسُن خلقه حتى يدخله حسن خلقه الجنة، ويسوء خلقه حتى يدخله سوء خلقه النار”.

وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: “إنه من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة، وصلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار”.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: “تقوى الله، وحسن الخلق”.

وورد في مسند الإمام أحمد رحمه الله أن وفدا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله من أحب عباد الله إلى الله تعالى؟ قال: “أحسنهم خلقا”.

وقال يحي بن معاذ رحمه الله: حسن الخلق حسنة لا تضر معها كثرة السيئات، وسوء الخلق سيئة لا تنفع معها كثرة الحسنات.

كيف نكتسب الأخلاق؟

إن الأخت الصالحة مدعوة لكسب الفضائل ومقاومة الرذائل وامتلاك القوة الإيمانية الإرادية لتَرقَى صعُدا في معارج الكمال الروحي والكمال العلمي والكمال الخلقي والكمال الجهادي [6]، فإن أية فضيلة خلقية باستطاعة أي إنسان أن يكتسب منها بالتربية وبالإرادة الصادقة والاستعداد للتحلي بما يليق والتخلي عما لا يليق وذلك بصبر على وصبر عَن، “صبر عن” هو الإمساك عن ما يقتضي العقل والشرع الإمساك عنه، و”صبر على” هو حمل النفس على ما تكره من الاستقامة وإرغامها وإن كرهت على أفعال وأخلاق وعبادات وأقوال يأمر بها العقل والشرع [7].

روى الإمام البخاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم وإنما الصبر بالتصبر”. وبكلمة جامعة فالأخلاق تكتسب بالتربية، والتربية أولى خطواتها وصل القلب ببيئة تربوية وصحبة منهضة مؤثرة، قال صلى الله عليه وسلم: المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل” (رواه الترمذي عن أبي هريرة). وبمجاهدة مستمرة وسط الصادقين نستنهض همتنا بعلو همتهم لنتأسى جميعا بخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، “فالسنة الشريفة كفيلة بأن تجمعنا على نموذج واحد في الحركات والسكنات في العبادات والأخلاق في السمت الحسن…” [8].

لا نيأس من تخليق الأنفس، بل نحاول ونحاول، نُليِّن طباع النفوس جفاءها قسوتها بذكر الله تعالى والتوبة والعبادة، ومجالسة الخَيّرات، نتعلم معايير الخير والشر، والفسق والإيمان، والحلال والحرام، ودقائق السلوك الاجتماعي واللياقة والأدب. قال عبد الله بن المبارك: “نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم”. ومع ذلك كله الدعاء والتضرع كما علمنا الصادق صلى الله عليه وسلم: “اللَّهمَّ اهدني لأحسنِ الأخلاقِ لا يَهدني لأحسنِها إلَّا أنتَ ، وقني سيِّئَ الأعمال والأخلاق لا يقي سيئَها إلا أنتَ” (رواه مسلم عن علي بن ابي طالب كرم الله وجهه). وكان سيدنا عمر بن الخطاب يدعو الله تعالى أول ما ولي الخلافة فيقول: “اللَّهُمَّ إِنِّي غَلِيظٌ فَلَيِّنِّي، وَشَحِيحٌ فَسَخِّنِي، وَضَعِيفٌ فَقَوِّنِي”، استعانة بالله تعالى على تشذيب النفس وتقويم اعوجاجها وجبر نقصها.

الله كما حسَّنْت خَلْقنا فحسن خُلقنا وقنا عذاب النار.

_________________________________

[1] عبد السلام ياسين، الإحسان، ج 1، ط 2018/1، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ص 215.

[2] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، ط 1989/1، الشركة العربية للنشر والتوزيع – القاهرة، ص 149.

[3] عبد السلام ياسين، رسالة المروءة وحسن الخلق، منشورة على موقع aljamaa.net.

[4] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، م س، صص 148 – 149.

[5] عبد السلام ياسين، رسالة المروءة وحسن الخلق، م س.

[6] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ط 2018/1، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ج 1، ص 16.

[7] المصدر نفسه، ص 14.

[8] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، م س، ص 143.