آفة اللسان

Cover Image for آفة اللسان
نشر بتاريخ

ألا إن في الجسد مضغة إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب. وليس في الجسد عضو يدلنا على مكنون القلب أكثر من اللسان، هذا اللسان الذي تترصده مزالق الغيبة والنميمة في جل المجالس. لأجل ذلك ينبغي التحكم في اللسان، لكي نفوز بالنجاة من آفاته وأهمها:

فضول الكلام

وهو مذموم، ومعناه الخوض في ما لا يعني والزيادة في ما يعني.ومهما تأذى المقصود بكلمة واحدة، فالثانية فضول. فلنستحضر دوما قول الله تعالى : إن عليكم حافظين كراما كاتبين…الآية.

وكذلك قوله سبحانه : عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد.

فلنحسب حسابا لصحيفتنا إذا نشرت وقد ملأناها صدر نهارنا، وأكثر ما فيها ليس من أمر ديننا ولا دنيانا .

الخوض في الباطل

وهو الكلام في المعاصي كحكاية أحوال النساء، ومجالس الخمر، ومقامات الفسق، وتنعم الأغنياء وتجبرهم ومراسمهم المذمومة وأحوالهم المكروهة، فإن كل ذلك مما لا يحل الخوض فيه وهو حرام. وأكثر الناس يتجالسون للتفرج بالحديث ولا يعدو كلامهم التفكه بأعراض الناس والخوض في الباطل وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعظم الناس خطايا يوم القيامة أكثرهم خوضا في الباطل. وقد قال أيضا: إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة.

المراء والجدال

والمراء هو الاعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه، إما في اللفظ وإما في المعنى وإما في قصد المتكلم. فكل كلام سمعته، إن كان حقا فصدق به، وإن كان باطلا أو كذبا ولم يكن متعلقا بأمور الدين فاسكت عنه.

وأما المجادلة فعبارة عن قصد إفحام الغير وتعجيزه وتنقيصه بالقدح في كلامه ونسبته إلى القصور والجهل فيه.

والباعث على هذا هو الترفع بإظهار العلم وأحيانا يثور الشجار بين المتمارين كما يثور الهراش بين كلبين.

وعلاجه أن يكسر الكبر الباعث على إظهار فضله والرغبة في تنقيص غيره.

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ترك المراء وهو محق بنى الله له بيتا في أعلى الجنة.

الخصومة

وهي أيضا مذمومة، وهي لجاج في الكلام. و الخصومة مبدأ لكل شر لأنها توغر الصدر وتهيج الغضب، وإذا هاج الغضب نسي المتنازع فيه وبقي الحقد بين المتخاصمين، حتى يفرح كل واحد بمساءة صاحبه ويحزن بمسرته ويطلق اللسان في عرضه، وأقل ما فيه تشويش خاطره حتى إنه في صلاته يشتغل بمحاجة خصمه. ولا خشونة في الكلام أكثر وأعظم من الطعن والاعتراض الذي حاصله إما تجهيل وإما تكذيب.

والقصد من النهي عن الخصومة هو أن تكون في الباطل أو بغير علم، أو أن يقصد بها اللدد واللجاج كمن يقول: إنما أريد بها عناد فلان وكسر عرضه، وإني إن أخذت منه هذا المال ربما رميت به في بئر ولا أبالي . فذلك مذموم جدا.

أما المظلوم الذي ينصر حجته بطريق الشرع من غير إسراف وزيادة لجاج ودون قصد عناد وإيذاء ففعله ليس بحرام. إلا أنه إن كان مستغنيا عن الخصومة فيما خاصم فيه لأن عنده ما يكفيه فمن الأحسن أن يترك الخصومة لأنها تفوت عليه طيب الكلام وما ورد فيه من الثواب. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يمكنكم من الجنة طيب الكلام وإطعام الطعام . وقال تعالى : وقولوا للناس حسنا . ولله المثل الأعلى، لننظر إلى الكيفية التي أمر الله سيدنا موسى وأخاه أن يخاطبا بها فرعون:

“اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى.”

ثم قال سبحانه من قائل لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:

“لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك”

الفحش والسب وبذاءة اللسان

والفحش هو التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة. قال ابن عباس إن الله حيي كريم يعفو ويكنو والقرآن يزخر بالأمثلة التي تؤكد ذلك.

ونحن حين نضطر لذكر عيوب يستحيا منها فلا ينبغي أن نعبر عنها بصريح لفظها كالبرص والقرع والبواسير، بل يقال العارض الذي يشكوه فلان، ونتلطف ما أمكن لكي لا ندخل في الفحش بألسنتنا.

والباعث على الفحش إما قصد الإيذاء وإما الإعتياد الحاصل من مخالطة الفساق وأهل الخبث واللؤم، ومن عادتهم السبب.

قال أعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أوصني، فقال :

عليك بتقوى الله وإن امرؤ عيرك بشئ يعلمه فيك فلا تعيره بشئ فيه يكن وباله عليه وأجره لك ولا تسبن شيئا.

وقد سأل شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا يا رسول الله إن الرجل من قومي يسبني وهو دوني هل علي من بأس أن أنتصر منه ؟ فقال: المتسابان شيطانان يتعاويان ويتهارجان.

اللعن

نورد هذه الآفة لتهاون الناس باللعنة وإطلاق اللسان بها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ملعون من سب والديه، وفي رواية : من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه . قالوا يا رسول الله كيف يسب الرجل والديه ؟ قال : “يسب أبا الرجل فيسب الآخر أباه”.

وقد لعن أحد الصحابة رجلا شرب الخمر وحضر مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له الرسول عليه السلام : لا تكن عونا للشيطان على أخيك .

المزاح

وأصله مذموم منهي عنه إلا قدرا يسيرا يستثنى منه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إني لأمزح ولا أقول إلا حقا” وقال أيضا: لا تمار أخاك ولا تمازحه .

فإذا كان في المماراة ما ذكرناه سابقا من أذى فإن المزاح مطايبة وفيه انبساط وطيب قلب، فلم ينهى عنه ؟

المزاح مباح ولكن المواظبة عليه مذمومة لأنها تورث كثرة الضحك وكثرة الضحك تميت القلب وتجلب الضغينة في بعض الأحوال، وتسقط المهابة والوقار.

قال عمر رضي الله عنه: أتدرون لم سمي المزاح مزاحا ؟ قالوا: لا. قال: لأنه أزاح صاحبه عن الحق.

وقيل: لكل شئ بذور وبذور العداوة المزاح .

وقال سعيد بن العاص لابنه: يا بني لا تمازح الشريف فيحقد عليك ولا الدنئ فيجترئ عليك.

وقال عمر رضي الله عنه: من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شئ عرف به، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه. ولأن الضحك يدل على الغفلة عن الآخرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا.

السخرية والإستهزاء

وهذا محرم لأنه مؤذي. وقد جاء في القرآن: يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن. ومعنى السخرية الاستهانة والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه. و قد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول وقد يكون بالإشارة والإيماء. وقال ابن عباس في قوله تعالى: يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. إن الصغيرة التبسم بالاستهزاء بالمومن، والكبيرة القهقهة بذلك. وقال معاذ ابن جبل عن الرسول صلى الله عليه وسلم: من عير أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يعمله. كل هذا يرجع إلى استحقار الغير والضحك عليه استهانة به واستصغارا له. وعليه نبه قوله تعالى: عسى أن يكونوا خيرا منهم. وهذا يحرم في حق من يتأذى به، أما من جعل نفسه مسخرة وربما فرح من أن يسخر به كانت السخرية في حقه من جملة المزاح.

الكذب في القول

قال إسماعيل بن واسط: سمعت أبا بكر الصديق يخطب بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:

قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامي هذا عام أول –ثم بكي- وقال: إياكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار.

وقال رسول الله عليه أزكى الصلاة و السلام: كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك به مصدق وأنت له به كاذب.

وقال عليه السلام: الكذب ينقص الرزق. وقال صلى الله عليه وسلم: ما حلف حالف بالله فأدخل فيها مثل جناح بعوضة (من الكذب) إلا كانت نكتة في قلبه إلى يوم القيامة.

آفات أخرى

هناك أيضا آفات أخرى قد يطول بنا الحديث لو وقفنا عندها منها التقعر في الحديث وتكلف السجع والفصاحة، ثم آفة ذي اللسانين الذي يتردد بين المتعادين فيكلم كل واحد بكلام يوافقه، ثم آفة المدح…

ولكن مجمل القول أن الله تعالى قال في كتابه الحكيم: مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها تابت وفرعها في السماء توتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين و يفعل الله ما يشاء .

وفي الحديث أن سيدنا معاذ ابن جبل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا:

– يا رسول الله، أنِؤاخذ بما نقول ؟ فقال : “ثكلتك أمك يا ابن جبل، وهل يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم ؟ ”

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: من كان يِِؤمن بالله واليوم الآخر فيلقل خيرا أو ليصمت.

وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة.

كما أنه قال صلى الله عليه وسلم: إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يلقي لها بالا يهوي بها في نار جهنم، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يلقي لها بالا يرفعه الله تعالى بها إلى الجنة .

وقيل لعيسى عليه السلام، دلنا على عمل ندخل به الجنة. قال: فلا تنطقوا أبدا. قالوا: لابد لنا من ذلك. قال: فلا تنطقوا إلا بخير.

على الهامش ولمزيد من التواصل

قال الشاعر:لسان الفتى نصف ونصف فؤاده

فلم يبق غير صورة اللحم والدمويقول المثل العامي في الحث على كلام الخير: الفم لي يقول جمرة يقول ثمرة.

ومثل آخر بالأمازيغية : يان اور يقن يمينس يقنتيد يمينس.

فلننظر إلى أحوالنا، ولنراقب ألسنتنا، مع أزواجنا، مع أولادنا، ووالدينا وإخواننا وأخواتنا.

للأزواج (ذكورا وإناثا)

السهر على أن تسود المودة والرحمة في التعامل بينهما، لكي لا يحدث معهما ما جاء في مثل الزوجة التي تودد إليها زوجها فقال: هل رأيت الشمس؟ يريد أن يقول بعد ذلك، فأنت بعيني أجمل منها، فإذا بها تجيبه في جفاف وقسوة :

– ما هذا السؤال ؟ أتراني عمياء ؟؟؟.

للوالدين

حذار من دعاء الشر للذرية، فقد تصادف دعوتكما ساعة الاستجابة فتندمان حيث لا ينفع الندم (قصة الأب الذي سأل ابنه: أما زلت تدخن فأجابه الإين أن لا. فدعا عليه الأب بالشلل إن كان كاذبا، توجه الإبن بعد ذلك إلى المسبح مع رفقائه، وارتقى سلما عاليا ثم غاص في المسبح فإذا بعنقه يرتطم بحاشية المسبح فأصابه شلل عام، لا يستطيع معه حتى الكلام، فبات طريح الفراش بقية حياته).

للأبناء

طوبى لأبناء جعلوا همهم بر الوالدين ووضعوا نصب أعينهم كلام الله سبحانه وتعالى: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا، فإما يبلغن الكبر عندك أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا معروفا واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا.

ومن أدب الحديث أيضا

توحيد الكلام حتى لا يكون المتكلمون أكثر من المستمعين.

فمن أدب الحديث عدم الإنصراف عن المتحدث والإنزواء مثنى أو ثلاث في عدم اكثراث بمن يلقي درسا أو محاضرة.

هل يتحتم علينا السكوت في كل الأحوال

أين نحن إذن من : “الساكت عن الحق شيطان أخرس”؟ …هل معنى ما ورد سابقا أنه يتحتم علينا أن نلوذ بالصمت في كل الأحوال؟

طبعا لا، بل ندون أفكارنا، لندلي برأينا حين ينتهي المتحدث من كلامه، أيا كان، دون تسفيه لحديثه، ولا تنقيص لمقامه، وباستعمال ما أمكن من الحجة والتأصيل في قالب ودي ينم عن احترام الآخر وتقديره كعبد من عباد الله، مستحضرين في أنفسنا أننا أمة نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونومن بالله.

آمنت بالله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. آمين.

_____________________________________

عن كتاب إحياء علوم الدين بتصرف.