جميل أن نقرأ القرآن الكريم، وعظيم أن نُرتّله، ولكن الأجمل والأعظم من ذلك أن نعيش معاني القرآن الروحية والربانية والنورانية، ولا يكون ذلك إلا بالتّدبر. يقول الله تعالى: أَفَلَا یَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَۚ وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَیۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُوا۟ فِیهِ ٱخۡتِلَـٰفًا كَثِیرا (النساء: 28). جاء عن الضحاك رحمه الله تعالى في قوله تعالى: أَفَلَا یَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَۚ، قال: “يتدبرون”؛ النظر فيه.
وفي هذا الصدد نتدبّر قول الله تعالى: إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةٌ فَأَصۡلِحُوا۟ بَیۡنَ أَخَوَیۡكُمۡۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ (الحجرات: 10). نتدبر الآية الكريمة لنستنبط ما توحي به من معان وعبر. أما التفسير فله أهله، ومن جمع بين التفسير والتدبر فقد أوتي خيرا كثيرا. فكلما تنوّر قلب المؤمن كلما فتح الله تعالى له من عجائب القرآن الكريم وأسراره ما لا يحصى.
هذه الآية الكريمة وردت في سورة الحجرات في سياق عرض الله تعالى لآداب المؤمنين التي ينبغي أن يتحلوا بها في تعاملهم مع بعضهم البعض خاصة حتى يكونوا جماعة مؤمنة قوية. وجاءت بعد أن أكد الله تعالى لهم ولنا أن الطبيعة البشرية للمؤمنين لا تعصمهم من التقاتل فيما بينهم، ناهيك عن الاختلاف وعدم التفاهم. لكن هذا التقاتل وهذا الاختلاف ليس هو الأصل، إنما الأصل في المؤمنين الأخوة؛ إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةٌ. ويمكن التعبير عن هذه الأخوة بأنها محبة وتآلف وجسد واحد وبنيان متراص وجسم عضوي متماسك. وهي أخوة لا تعترف بحدود جغرافية ولا لغة.
إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةٌ، إنما أداة حصر، بمعنى أنها تحصر الأخوة الحقيقية في المؤمنين. ففي غيرهم حتى إن وُجدت فإنها لا ترقى إلى أن تكون حقيقية، يقول الله تعالى عن اليهود: تَحۡسَبُهُمۡ جَمِیعًا وَقُلُوبُهُمۡ شَتَّىٰۚ (الحشر: 14). كما أنها كذلك بمفهوم المخالفة تحصر الحقيقة الإيمانية في الأخوة، فلا يمكن أن نجد مؤمنين بلا أخوة. فحفاظا على هذه الأخوة الإيمانية أمرنا الله تعالى بآلية مهمة وعظيمة في حال تعرضتْ لتصدّع أو أصابها ضُعف لأسباب داخلية أو خارجية – وما أكثرها – وهي آلية إصلاح ذات البين، قال تعالى: فَأَصۡلِحُوا۟ بَیۡنَ أَخَوَیۡكُمۡۚ.
وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ هذا تحذير من الله تعالى للمؤمنين. بمعنى أن هذه الأخوة الإيمانية التي تعبّر عن الوحدة في الصفّ وفي التفكير وفي العقيدة وفي السلوك، هي شرط من شروط تماسك الجماعة وقوتها، فلا ينبغي التفريط فيها. وأعظم خطر يعصف بالأخوة الغفلة عن الله عز وجل التي تقسو بها القلوب مما يجعلها مدعاة للاختلاف والتنافر.
فعلى المؤمنين إن تعرضت هذه الأخوة لخلل ما أن يبادر أهل الصُّلح والإصلاح منهم بسرعة إلى معالجة الخلل بدرئه، والجمع بين القلوب بالنصيحة والتأليف. ومن أساليب درء الخلل تربية القلوب على محبة الله تعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم ومحبة المؤمنين من خلال التركيز لهم على دستور المحبة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي فيما يرويه عن ربه عز وجل: “حقت محبتي للمتحابين في، وحقت محبتي للمتزاورين في، وحقت محبتي للمتباذلين في، المتحابون في على منابر من نور، يغبطهم بمكانهم النبيون والصديقون والشهداء” 1.
أما أصحاب الخلاف والاختلاف والاقتتال من المؤمنين فعليهم أن يقبلوا بهذه المبادرة الطيبة لأن هذا من تقوى الله تعالى. فالصلح خير، ولا خير فينا إن لم نقبله. يقول الله تعالى: لَّا خَیۡرَ فِی كَثِیرٍ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَـٰحِۭ بَیۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَمَن یَفۡعَلۡ ذَ لِكَ ٱبۡتِغَاۤءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِیهِ أَجۡرًا عَظِیمًا (النساء: 114).
لماذا كل هذا التأكيد من الله تعالى على الأخوة الإيمانية؟ وما المقصد منها؟ هو نيل الرحمة من الله عز وجل، لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ. وهذه الرحمة تكون في الدنيا للمؤمنين بالبركة والنصر والتأييد والتمكين، وفي الآخرة تكون لهم بدخول الجنة ونيل رضى الله عز وجلّ.
وللدعاء في تمتين رابطة الأخوة دور كبير وأثر بالغ، فاللهم أصلح ذات بيننا وألف بين قلوبنا واهدنا سبل السّلام. آمين. والحمد لله رب العالمين.