بعد صدور كثير من الأحكام في قضايا تافهة وملفقة، ينكرها القاصي والداني، ولا تنطلي على عاقل، في ظل وضع استثنائي شاذ يهدر حقوق الإنسان أو سمها إن شئت حروق الإنسان والآدمية. بعد حدوث هذا كله نقول: يا حسرة على القضاء، وإنا لله وإنا إليه راجعون. ورحم الله من نادى طويلا بتطهير القضاء واستقلاله.
فالقضاء يعني الحكم بين الناس بالحق، وهو نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما يقول ابن حزم. والمقصود من القضاء هو دفع الفساد، وإقامة العدل وإيصال الحقوق لأصحابها.
وتسييس القضاء معناه الانحراف به عن مسار العدالة، والانجراف به بعيدا عن النزاهة، والانجرار من خلاله إلى ظلم الأبرياء، واستخدامه آلة لذبح الخصوم باسم العدالة، والخضوع في أحكامه لأهواء الحكام، وتكبليه بالتبعية بعيدا عن الاستقلال، وإصباغ الشرعية على أوضاع باطلة، ورحم الله الإمام عبد السلام ياسين الذي قال: في قشرة الشعار المنادى بالعدالة والحرية وإنصاف المظلومين، كان فينا الظلم فوضى فهذبت حواشيه حتى بات ظلما منظما).
ولم الغرابة؟ وفيم العجب؟ إذ كيف ننتظر العدالة ممن تسلموا سدة القضاء وهم قد دخلوا إليه من أبواب خلفية، ودفعوا في سبيل تقلده الأموال والهدايا، لم تؤهلهم قدراتهم ولا كفاءتهم له، بل كانت الوساطة والثقافة والشفاعة بهم نقصا في الفسدة، وعجزا في اتباع الأذناب، وثغرة في زوايا الباطل.
كيف ننتظر العدالة ممن اعتلوا منصة القضاء نفعا لأنفسهم، ورغبة في ميزات تميزهم عن الناس، وطمعا في مزايا طبية وترفيهية ومعيشية ومالية وأمنية؟ إن أمثال هؤلاء من القضاة بالشفاعة مجروحون وبالمزايا مطعونون.
وقد قرر الفقهاء أن بذل المال على طلب القضاء محظور في حق الباذل والمبذول له، لما روي أنس عن النبي صلى عليه وسلم “لعن الله الراشي والمرتشي”. رواه أحمد والترميذي وابن حبان والحاكم وقال الترميذي: هذا حديث حسن صحيح. والراشي هو باذل الرشوة والمرتشي هو قابلها.
وماذا ننتظر من محاكمات، قضاتها مطعونون ومجرحون وتاريخهم مناوئ للعدالة، وهم خصوم لمن يحاكمونهم؟ نتيجة حتمية ومسلمة لمحاكمات مسيسة، فحواها الظلم، ومضمونها التشفي والانتقام، حين تقلد النفايات وتهمش الكفايات وحين يوسد الحكم إلى الفسدة ويمنع من أهل الكفاءات من العلماء، نتيجة حتمية مؤداها الجور في الأحكام.
وقد ورد عن النبي عليه أفضل الصلاة والسلام: “من قلد إنسانا عملا وفي رعيته من هو أولى منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين”“. قال الزيلعي: روي من حديث ابن عباس، ومن حديث حذيفة، وقد أخرجه الحاكم في مستدركه وقال حديث صحيح الإسناد.
وإذا كان القضاة قديما يحلفون الشهود فيما يأتون به من الشهادة أن ما شهدوا به هو حق، وذلك لفساد الزمان وخراب الضمائر، فنحن اليوم أمام مئات إن لم أقل آلاف الأحكام الجائرة المتعجلة الصادمة في قضايا باطلة وملفقة وتافهة، لا تتناسب مع قدر التهمة مع افتراض ثبوتها.
وكان مما قرره -أيضا- كثير من الفقهاء، منع القاضي أن يقضي بعلمه لوجود التهمة وسدا للذريعة. لما قد يترتب على ذلك من مفاسد ومظالم، وما قد يقود إليه الهوى والانتقام للنفس من شرور ومهالك.
قال الكرابيسي: لا يقضي القاضي بما علم لوجود التهمة إذ لا يؤمن على التقي أن تتطرق إليه التهمة، هذا في شأن التقي فكيف بمن سواه؟
وقال القرافي: القضاء بعلم القاضي وسيلة للقضاء بالباطل من قضاء السوء، فالمقصد حرام وساقط، فتسقط الوسيلة ويحرم القضاء بعلم القاضي.
قال الشافعي. لولا قضاة السوء لقلت إن للحاكم أن يحكم بعلمه، وإذا كان هذا في الزمن الأول فما الظن بالمتأخر؟
وإذا كان القاضي لا يقضي بعلمه دفعا للتهمة فكيف يحكم بعلم غيره ممن تيقن عندهم كذبهم، وثبت لديه افتراؤهم واستقر أمام ناظريه تلفيقهم لاتهامات من رجال الشرطة، وادعاء النيابة؟ لقد تواطأ القاضي مع الشرطة والنيابة على المجني عليهم حين انساق ليحكم في قضايا هزلية معلقة لا تخطئ العين بطلانها.
وكما قيل: ليس العدل في نص القانون وإنما العدل في نفس القاضي).
إن القاضي في منصب خطير والحكم في القضايا المعروضة عليه يورد جنة أو نارا. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “من جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين”. رواه أصحاب السنن والحاكم والبيهقي من حديث أبي هريرة وقال الحاكم صحيح الإسناد.
والمعنى أن من جعل قاضيا فقد عرض نفسه لخطر عظيم كالذبح بغير سكين، وقيل: أراد الذبح غير المتعارف الذي هو عبارة عن هلاك بدنه. وذلك أنه ابتلي بالعناء الدائم والداء المعضل الذي يعقبه الندامة إلى يوم القيامة، وجمهور العلماء حمله على ذم التولي للقضاء والترغيب عنه، لما فيه من الخطر. ولذلك كان العلماء الأتقياء يتهيبون القضاء، ويفرون منه، وينصحون من ابتلي به بالحذر والحيطة والاستعانة بالله تعالى لكي يسدده.
قال مكحول: لو خيرت بين القضاء وضرب عنقي لاخترت ضرب عنقي ولم أختر القضاء.
وقال أيوب السختياني: إني وجدت أعلم الناس هربا منه.
ودعا مالك بن منذر محمد بن واسع ليجعله على قضاء البصرة، فأبى فعاوده وقال: لتجلس وإلا جلدتك، فقال: إن تفعل فأنت سلطان، وإن ذليل الدنيا خير من ذليل الآخرة.
وقال الفضيل بن عياض -رضي الله عنه- ينبغي للقاضي أن يكون يوما في القضاء ويوما في البكاء على نفسه.
وقد كان قضاة السوء يعرفون بين العلماء من خلال الجور في الأحكام التي تظهر فيها ممالأتهم للسلطان، وقبولهم الرشوة وعدم التعفف عن الدنيا، ولذلك ذاع بين العلماء قولهم إن فلانا من قضاة السوء في عصرنا. كما يقول ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ).
ماذا نقول في قضاة هذا الزمن؟ لقد مضى زمان اتصف فيه القضاة بالنزاهة عما ترمي به قضاة السوء، وولى عصر كان الشرفاء فيه يهربون من القضاء.
وقد أجرى الفقهاء الأحكام الشرعية الخمسة على قبول القضاة فقالوا: قد يكون واجبا أو مستحبا أو مباحا لمن هو أهل له، وقد يكون مكروها أو حراما.
وقرروا أن تقليد الجاهل الملوث أو المتلبس بالأشياء الموجبة للفسق أو القاصد الانتقام أو الراغب أخذ الرشوة حرام. وكم من قاض اليوم لا يصلح أن يكون قاضيا، وكم من قاض اليوم وقع تقليده حراما، وجاء حكمه باطلا.
قال القاضي لبديع: إني أجلس على هذه المنصة منذ الستينيات وأعرف معنى العدالة جيدا).
قال الدكتور بديع: وأنا أجلس في هذا القفص منذ الستينيات وأعرف الظلم جيدا).