من الأخلاق الحسنة التي اعتاد عليها الإنسان -بغض النظر عن دينه أو جنسه- الحرص على التجمل للضيف واستقباله في أبهى الحلل وأجمل المظاهر، إلى درجة أن الفرح بالاستضافة قد تنقلب إلى تخوف إن وجد المضيف في نفسه أو أهله أو بيته استعدادا غير كاف، أو وضعا غير مستقر.
تصح هذه الحالة مع كافة الضيوف، كانوا بشريين أو معنويين كما هو الحال مع ضيفنا شهر رمضان الأبرك.
عن أنس رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو ببلوغ رمضان، فكان إذا دخل شهر رجب، قال: “اللَّهُمَّ بارِكْ لنا في رَجَبٍ وشَعْبانَ، وبَلِّغْنا رَمَضانَ” رواه الطبراني وغيره.
وقد ندبنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم -بحاله قبل مقاله- إلى الاستعداد له قبل حلوله؛ كما روت أمنا عائشة رضي الله عنها: “وَلَمْ أَرَهُ صَائِمًا مِن شَهْرٍ قَطُّ، أَكْثَرَ مِن صِيَامِهِ مِن شَعْبَانَ كانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ، كانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إلَّا قَلِيلًا” رواه مسلم.
وقال عبد العزيز بن مروان: كان المسلمون يقولون عند حضور شهر رمضان: “اللهم قد أظلنا شهر رمضان، فسلمه لنا وسلمنا له، وارزقنا صيامه وقيامه، وارزقنا فيه الجد والاجتهاد والقوة والنشاط، وأعذنا فيه من الفتن.”
فضل رمضان
لن تستطيع هذه المقالة حصر فضائل رمضان، بل لن تستطيعه الكتب والمجلدات، وحسبنا أن نذكر بحديث عظيم يبرز نعمة بلوغ شهر رمضان، وهو حديث الرجلين اللذين استشهد أحدهما، ومات الثاني بعده على فراشه، فرئي في المنام سابقًا له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أليسَ قدْ مكثَ هذا بعدَهُ سنةً ؟ قالوا: بَلى. وأدركَ رمضانَ فصامَهُ ؟ قالوا: بلى. وصلَّى كذا وكذا سجدةً في السنةِ؟ قالوا: بَلى. قال رسولُ اللهِ: فلمَا بينَهُما أبعدُ ما بينَ السماءِ والأرضِ” رواه أحمد وغيره.
ثم بعد ذلك أشير إلى أن رمضان فرصة عظيمة لتحقيق هدفين أساسيين:
· الاستكثار من الطاعات والإقبال على المولى عز وجل.
· الوقوف مع النفس للمراجعة والمحاسبة وهي كذلك من الطاعات.
ومن أولى جوانب حياة المرء التي ينبغي الاهتمام بها وتخصيص شهر رمضان لمراجعتها قصد إصلاحها وتجديدها وتأهيلها، جانب العلاقات الأسرية؛ علاقة المؤمن بزوجه وشريك حياته ولباسه بتعبير القرآن الكريم، وعلاقته بأبنائه وباقي أقاربه.
فلا أفضل من زمن رمضان لتجديد سلوكاتنا والرقي بها في مراتب الإيمان والإحسان والعبودية، فهو شهر الخير والبركة بامتياز، فقد روى الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ”.
قدسية رمضان وقدسية الزواج
ما أحوجنا إلى استثمار رمضان وتركه يصبغ جميع أعمالنا بالقدسية والجلال، خاصة هذه العلاقات الأسرية التي طال عليها أمد الشهور فغلفها بقسوة الرتابة وجمود الإلف والعادة، ها قد جاء شهر العبادة ليضفي على تفاصيل حياة أسرنا روح العبادة ونور المكارمة والإحسان ونية التقرب إلى الله تعالى، ويجدد فيها معاني المودة والرحمة والسكينة، ويعيد إليها قدسية الميثاق الغليظ، يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: “تبارك الله! كيف ارتفع قدر الزواج فأشبه ميثاقُه ميثاق النبيئين! وكيف لحقت المعاشرة الزوجية بأصناف العبادات من ذكر وتسبيح وجهاد! الحمد لله رب العالمين.” 1
نقبل على مراجعة علاقاتنا بالزوج والولد والقريب، تحدونا في ذلك نية:
· محبة الله تعالى: القائل سبحانه على لسان نبيه الكريم في الحديث القدسي: “حقت محبتي للمتحابين في”
· الاستزادة من الأجر، إذ هو شهر يتضاعف فيه الجزاء؛ ففي حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه المشهور: “ومَنْ تَقربَ فيه بِخصلَةٍ، كان كَمَنْ أدَّى فرِيضةً فِيما سِواهُ، ومَنْ أدَّى فرِيضةً فيه كان كمنْ أدَّى سبعينَ فرِيضةً فِيما سِواهُ”، رواه ابن خزيمة، والإحسان إلى الأهل وتقديس ميثاق الزواج إنما هو من أعظم الفرائض.
· تجويد العلاقات وتحسينها، استثمارا لفرصة رمضان الذي تتهيأ فيه النفوس للتغيير والتربية والتخلي عن العادات الجارفة والطباع الراسخة، وطلبا للحياة السعيدة الطيبة والبيوت المطمئنة.
معالم في البرنامج الأسري
لضمان أكبر قدر من الاستفادة من نفحات هذا الشهر الكريم، لا بد لنا من وضع برنامج أسري يطبعه التيسير والتدرج، ويكون الداعي إلى الالتحاق به الصدق والصبر، ويحدونا في وضعه وتنفيذه حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، الذي روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “أَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ أدْومُها و إن قَلَّ “.
وهذه بعض معالمه:
· ساعة قبيل أذان الفجر للوقوف بين يدي الملك الوهاب في ركيعات خفيفات تختم بجلسة للاستغفار ودعاء رابط للأرواح، تقوم الأسرة بعدها لإعداد وتناول وجبة السحور في جو يملأه التعاون والفرحة والمهابة.
· اجتماع على وجبة الفطور إعدادا ووضعا للمائدة ورفعا، كلما كان ذلك ممكنا تخفيفا على نساء البيت -أُمّاً وزوجة وأختا وبنتا- مع التأكيد على ضرورة التيسير والاقتصاد في كَمِّ الوجبات وكيفها، إذ الاقتصاد من مقاصد الصيام، ومن غلبته نفسه فليتذكر أهل غزة العزة الذين أدركهم رمضان وهم في شظف العيش وقلة ذات اليد.
· اجتماع على أدعية المساء والتحصين والتسبيح، والدعاء بالعتق من النار وانعتاق الأمة من نير الاستبداد والفساد والصهيونية الماكرة.
· تنظيم ختمات جماعية يشرك فيها أفراد العائلة الكبيرة؛ أعماما وأخوالا وأصهارا، يستعان فيها بتطبيق الواتساب لجمع الشمل وتقريب البعيد وصلة الرحم وتذويب الخلافات في ماء المحبة والعبادة والتقرب إلى الله تعالى، تختم في آخر الشهر بدعاء جامع وهدية نورانية للآباء والأمهات والأحباب الذين سبقوا إلى الدار الآخرة.
هذه بعض فقرات برنامج الأسرة الرمضاني، وأترك الاجتهاد في باقي الفقرات لهمة وعزيمة وفطنة القارئ الكريم، نسأل الله تعالى أن يجعل رمضان هذه السنة خيرا من سابقه، وأن يمن على أسرنا بنعمة المودة والرحمة والسكينة والاستقرار، وعلى أمتنا بنعمة النصر والتمكين والأمن والأمان.