الألم بالنسبة لهذه السيدة بدأ الآن، الآن الآن بدأ ألمها واعتصار قلبها؛ بعد أن انطفأت شاشات الكاميرات، رحل الغرباء من الزوار، من كانت غايته في نفسه عظيمة، أو دون ذلك، ولى المسؤولون أدراجهم مع أعوانهم.. عادت أطنان التربة وأكوامها مكانها كأن شيئا لم يكن. كل شيء عاد كما كان إلا كبِدها الذي لم يعد، بل انتشل جزء منه وعاد للتراب قبل عودة التراب إلى الحفرة الكبيرة.. طويت صفحة طفلها، فالكل عاد لحياته التي تنتظره إلا قلبها؛ لم يجد طريق العودة..
كيف لهذا الموضوع/الأزمة أن ينتهي هكذا؟ أن يطوى بعد زوبعة مساعدات مالية وهبات ملكية، وبعد إشادات بتكافل المغاربة وتعاونهم وتضامنهم مع عائلة الفقيد وجيرانه؟ وكأن أصل المأساة كان قياس مدى تأثر المغاربة والعالم بوقوع الطفل في البئر وتضامنهم معهم! وكأن أصل المأساة كان جمع أموال باهظة والإعلان عن هبات ملكية ومساعدات من هنا وهناك تلميعا لصورة الدولة وجبرا لضرر الأسرة! كأن أموال الدنيا وثرواتها قادرة على تضميد آلام الفاجعة!
أصل المأساة، أيها السادة؛ تهميش ممنهج طال منطقة إقليم شفشاون والشمال عامة سنوات طويلة، منذ عهد الراحل الحسن الثاني، لأسباب يعرفها الجميع، تهميش يجعل الإقليم يفتقر لأدنى سبل العيش الكريم. لا أتكلم من فراغ وأنا التي أزور المنطقة منذ وعيي على هذه الدنيا لمدة تزيد عن خمس وعشرين سنة.. لن أتكلم عن غياب فرص الشغل ولا عن قلة موارد العيش، فهذه، وإن كانت حقا أصيلا للشعب في عنق من يحكمه، لكن الكلام عنها يأتي لاحقا عما هو أبسط، والتمتع به يعد مسألة حياة أو موت، وهو الحق في طريق معبدة صالحة للعبور بشكل آمن.. الطريق المؤدية لمسقط رأس والدي تتجاوز خمس كيلومترات أقل ما يقال عنها كارثية، حاول سكان المنطقة إصلاحها بما توفر لديهم من وسائل لكن قساوة الطبيعة عندما تتقابل مع بدائية الوسائل تجعل الإصلاحات السطحية لا تجدي نفعا… طريق تقف عصية على المريض والحامل في طريقهم لمستوصف مركز الجماعة، والتلميذ والطالب في طريقه للتمدرس، والمسؤول عن البيت في طريقه للسوق الأسبوعي لجلب مؤونة أسرته..
لن أنسى يوما جدتي، قبل وفاتها بيوم واحد، وقد توسدت قارعة الطريق أثناء مرضها لأنها لم تستطع تحمل صعوبتها، وكان من بين أسباب وفاتها أن الطريق زادت حالتها سوءا..
لم أنس جدي الذي نقلناه من مدينة شفشاون إلى مدينة الرباط لانعدام مستشفى متعدد الاختصاصات هناك، حيث أصبحت الأربع ساعات اللازمة للسفر بين المدينتين أكثر من تسع ساعات أمضيناها مع آلام جدي ومرضه بين سير وتوقف خوفا من فقدانه على الطريق، وأنه بعد ذلك رفض الرجوع لاستكمال العلاج لعدم تحمله المسافة الطويلة مع المرض..
لم أنس أعمامي الذين هاجروا القرية وانحدروا للمدينة بحثا عن مستقبل لأبنائهم الذين لم يجدوا تعليما، فالمدرسة عبارة عن خربة آيلة للسقوط..
لم أنس أن السكان يقطعون مسافة طويلة لجلب قارورة ماء (5 لتر) صالحة للشرب، قد تنتهي في 5 دقائق بعد رويهم لعطش الطريق..
جاء ريان ليزيح الغبار ويعيد التذكير بواقع مهمش مسكوت عنه في حفرة يقال عنها المغرب العميق، المغرب غير النافع؛ حيث لا طرقات ولا مياه ولا استشفاء ولا سبل عيش كريم.. واقع مر يتجرعه البسطاء ويحمدون الله، مع ما يعانون من هزالة الإمكانيات والفقر المدقع.. لا أمن ولا أمان. ورحل ريان تاركا خلفه جرحا غائرا ينزف بدون اندمال..
مشاهد المآسي والواقع الصعب في هذه الجبال المنسية، شأنها شأن جل المناطق النائية في المغرب، ليس بحاجة لصور ولا خطابات ولا شعارات.. بل ينتظر من المنتخبين والمسؤولين في الإقليم والجهة خاصة وكل من بيده القدرة على التغيير من مؤسسات الدولة عامة أن يتحملوا مسؤولياتهم أمام الله وأمام هؤلاء البسطاء، الذين ظهرت بساطتهم وبشارة وجوههم ونياتهم وكرمهم ورحابة صدورهم رغم ضعفهم وعوزهم…
ألا من يُنقِذ هؤلاء المنسيين!؟