ولنا كلمة: مسيرتا طنجة والبيضاء وتجديد عهد النصرة والولاء

Cover Image for ولنا كلمة: مسيرتا طنجة والبيضاء وتجديد عهد النصرة والولاء
نشر بتاريخ

في زمن كثر فيه التحريف، واشتد غبار التضليل، أعملت فئات واسعة من الشعب المغربي ضميرها الحي، وأيقظت ذاكرة مجدها المتصل بالأقصى والقدس، في مسيرتين توأمين من الدار البيضاء وطنجة، يعلو فيهما نداء بملء عزة الأرض وشرف التاريخ وامتداد الجغرافيا: “لا مرحباً بسفن تحمل نار الفتك إلى غزة، لا أهلا ولا سهلا بعتاد يشعل الموت في وجه من تبقى من الأطفال والنساء والشيوخ فوق أرض فلسطين”.

مسيرتان على منوال مسيرات ومسيرات، بحضورهما الجماهيري الكثيف، وبتناغمها في الزمان رغم امتداد المكان، عبرتا عن وحدة الوجدان الشعبي، وشددتا على أن الوعي المغربي لا يُشترى، ولا تنطلي عليه شعارات “السلام الزائف”. حضور ترجم حديثا أصيلا عن الانخراط القوي في تغيير المنكر بالمستطاع، وما المستطاع إلا حنجرة تصدح، ولسان يهتف، ويد تنبسط خشوعا تارة، وأخرى تستجمع قبضتها نحو السماء، وجسد نحيل يتحدى الجزرة والدرع، ولا يهون أمام الحصار والقمع، في تجل للتوجيه النبوي “من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان.”

فرضت الجماهير رأيها، وأبلغت رسائلها بلسانها وصوتها وتدافعها في الشوارع والأزقة التي أدخلوا إليها قصرا، وسجلت موقفا ستردده الأجيال؛ أن المغاربة لم يخونوا ولاءهم لأولى القبلتين، وأن شرف الأقصى حين يداس، تسود الأرض في عيونهم وتستحيل غضبا ورفضا لسياسة من اقترفوا “جناية التطبيع”.

حوصر المغاربة في هاتين المسيرتين، وسالت دماء بعضهم في البيضاء، وقبلها في وقفات عديدة، ولم يخنسوا ولم يهنوا، ذلك أن القمع والتضييق، لا يزيد هذا الشعب إلا صلابة، وهو الذي خبر سنن التمحيص، وتيقن أن القضية كلها امتحان، وعلم أن الناس لن يُتركوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ كما تُلي ويتلى في كتاب ربنا إلى قيام الساعة.

ها هو شعبنا المغربي يمتحن امتحانين كبيرين عظيمين؛ بين ضمير الأمة الذي لم يجد من السلطة ناصرا، ومنهج السلطة المشتغل بعيدا عن مصلحة الأمة. ثم ينتصر، فيختار أن يكون على الدوام في صف الأمة، وفي قلبها، خادما لقضيتها ولمسارها التاريخي، لا يثنيه تشويش المشوشين وسخرية الساخرين المسخَّرين الموجَّهين المدججين بكل بلاهة وحقد…

يزداد المشهد رهبة وسموا، حينما تتصدر النساء المشهد ولا يبقى حكرا على الرجال. وقد نلن نصيبا من الحصار، وصدحن بالصوت ورفعن صور الشهداء ولوحن برايات الكرامة وتوشحن الكوفيات. ثارت ثائرة غضبهن وخرجن إلى الشوارع كما خرجت أمهات غزة اللواتي تجرعن مرارة الظلم، يحملن على أكتافهن جراح الأمة، ويعين أن صلب المعركة هو تربية أبنائهن على أن العزة لا تكمن مسايرة الظالم، كما أنها لا تُستورد ولا تمنح، ولا تُصنع في موانئ الذل، ولا تنقل عبر سفن الإبادة.

تزينت طنجة كما البيضاء في المسيرتين بالأطفال أيضاً، أولئك الذين بالكاد ينسجون العبارات، لكنهم يهتفون بفطرتهم التي لم تتلوث، يحملون في نظراتهم فسحة الأمل وبشارة المستقبل، ويؤكدون أن هذه الأرض لا تنجب عبيداً، بل تُخرّج رجالاً يصطفون مع الحق في ذاته مهما كانت الظروف المحيطة به، وتبنى على ذلك قناعتهم منذ هم يُحملون إلى أن يصيروا مدركين حاملين.

حدث طنجة والبيضاء شاهد من شواهد كثيرة، واضحة ناطقة، ناصعة جلية، في سلسلة الحراك المغربي الممتد في الأزقة والشوارع، وفي الساحات وأمام المساجد، منذ انطلاق صافرة طوفان الأقصى. في المغرب حيث لا يخبو جمر القضية ولا تغيب هموم شعب الجبارين، مهما طال زمن الحصار والمتابعات القضائية، ومهما بلغ تسونامي التطبيع الغادر حتى هوى إلى استقبال “سفن الموت”. وإن أصوات المسِيرات وهي تردّد شعارا موحدا مزلزلا من الشرق إلى الغرب، من الشمال إلى الجنوب: “فلسطين أمانة والتطبيع خيانة”، لهي برهان على أن القضية، قضية دين وعقيدة وولاء.

لقد رفع المغاربة شعارا مدويا “لا لسفن الإبادة”، وهو رفض لكل ما يجمعه به قاسم مشترك؛ من بنات التطبيع وإخوانه وأحفاده وأجداده، إذ هو عهد قديم جديد بين المغرب وفلسطين. عهد العقيدة الذي لا يباع ولا يشترى، وهو صنو الحق وأخ الحرية والعدالة، وابن الكرامة الذي لا يستكين ولا يخون ولا يهون.