ولادة النور

Cover Image for ولادة النور
نشر بتاريخ

بسم الله الرحمن الرحيم وأصلي وأسلم وأبارك على الحبيب المصطفى في يوم مولده الشريف، الذي أنار الله به الظلمة وأزال الغمة وعتمة القلوب والوجود، وأنقذ الله به الأمة وأنزل الرحمة، وعلى آله آل الصفا والوفا، وعلى من أحب واقتفى. روحي له الفدا.

كان زمن الولادة إيذانا بتحول عميق في مفاصل مجتمع اعتاد التقاتل والتطاحن، وعلى الرغم من مروءات موجودة وعزة نفس ورجولة وكرم، كان يسهل على القوم إراقة الدماء السنوات ذوات العدد ولو من أجل ناقة، واستباحة المحارم والمظالم، واقتراف الفضائح والقبائح والمنكرات، يعيشون للهو والحرب، ويقتل العديد منهم بناته خشية العار والفقر، ويرثون النساء كما يرثون البعير..

أصاب الطلق امرأة كريمة أيِّما، فقدت زوجها، وجنينُها بعدُ في بطنها، احتوته ورعته، وأيقنت أن شأنه سيكون عظيما، وشأوه كريما، وقد رأت الغرائب وهي تحمله ثم تخرجه إلى الوجود بفضل إله كل موجود. رأت بعد أن حملت به صلى الله عليه وآله وسلم أنه خرج منها نور أضاء لها قصور بصرى من أرض الشام، وأقسمت أن ما رأت من حمل قط كان أخف ولا أيسر منه، ووقع حين ولدته وإنه لواضع يديه بالأرض رافع رأسه إلى السماء، والأنوار تحيط بها من كل جانب عند الوضع المبارك.

وتشهد فاطمة بنت عبد الله الثقفية ولادة آمنة بنت وهب فتقول كما روى ذلك عنها ابنها عثمان بن أبي العاص، قال: “أخبرتني أمي قالت: “شهدت آمنة لما ولدت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ضربها المخاض نظرت إلى النجوم تدلى، حتى إني أقول لتقعن عليّ، فلما ولدت، خرج منها نور أضاء له البيت الذي نحن فيه والدار، فما شيء أنظر إليه، إلا نور” 1.

عاش كريما صادقا أمينا، وخصه الله بالبعث والرسالة، فآمنت به فئام وكذبته أخرى، واضطهد وصحبه على غرار أصحاب الدعوات الصادقة، وأصابهم نكال قومه، إلى أن أذن الله له بالهجرة إلى يثرب، حيث آواه الأنصار وصدقوه ونصروه، فكان ذلك موعدا سجله التاريخ بمداد الفخر أن صار للإسلام دولة وصولة ستزداد يوما بعد يوم، وعز ومجد وقوة يحسب لها ألف حساب.

وتمر الأيام وتدخل مكة في دين الله أفواجا، وتحتضن التوحيد عقيدة وسيرة، وتخطب القبائل ود المسلمين، ثم يأتي يوم حُنَيْن 2 ويتألف النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالعطايا والهدايا، ويخشى الأنصار على منزلتهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أيدعنا ويلتحق بقومه؟ أيترك المدينة ليعود إلى مسقط رأسه؟ هل عطاياه للناس تنكر للأنصار؟.. فيضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم المثال على الصدق والوفاء بالعهد والود، وتصور لنا كتب السنة والسيرة مشهدا ترتجف له الأبدان وتقشعر له الجلود:

عن أبي سعيد الخدري قال: “لمَّا أصابَ رسولُ اللهِ الغنائمَ يَومَ حُنَينٍ، وقسمَ للمُتألَّفينَ مِن قُرَيشٍ وسائرِ العربِ ما قسمَ ، ولَم يكُن في الأنصارِ شيءٌ مِنها، قليلٌ ولا كثيرٌ، وجدَ هذا الحَيُّ مِن الأنصارِ في أنفسِهِم حتَّى قال قائلُهُم: لَقيَ واللهِ رسولُ اللهِ قَومَهُ. فمشَى سعدُ بنُ عُبادةَ إلى رسولِ اللهِ فقالَ: يا رسولَ اللهِ إنَّ هذا الحَيَّ مِن الأنصارِ وَجدوا علَيكَ في أنفسِهِم؟ قالَ: فيمَ؟ قالَ: فيما كانَ مِن قَسمِكَ هذهِ الغنائمِ في قَومِكَ وفي سائرِ العربِ، ولَم يكُن فيهِم مِن ذلكَ شيءٌ. قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ: فأينَ أنتَ مِن ذلكَ يا سعدُ؟ قالَ: ما أنا إلَّا امرؤٌ مِن قَومي 3. فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ: اجمَعْ لي قَومَكَ في هذهِ الحظيرةِ 4 فإذا اجتمَعوا فأعلِمني، فخرجَ سعدُ فصرخَ فيهِم فجمعَهم في تلكَ الحظيرةِ حتَّى إذا لَم يبقْ مِن الأنصارِ أحدٌ إلَّا اجتمعَ لهُ أتاهُ، فقالَ: يا رسولَ اللهِ اجتمعَ لكَ هذا الحَيُّ مِن الأنصارِ حَيثُ أمرتَني أن أجمعَهُم. فخرجَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ، فقامَ فيهِم خطيبًا فحمِدَ اللهَ وأثنَى علَيهِ بما هوَ أهلُهُ، ثمَّ قالَ: يا معشرَ الأنصارِ ألَم آتِكُم ضُلَّالًا فهداكُم اللهُ، وعالةً فأغناكُم اللهُ، وأعداءً فألَّفَ اللهُ بينَ قلوبِكُم؟ قالوا: بلَى. قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبونَ يا معشرَ الأنصارِ؟ قالوا: وما نقولُ يا رسولَ اللهِ وبماذا نُجيبُكَ؟ المَنُّ للهِ ورسولِهِ. قالَ: واللهِ لَو شِئتُم لقُلتُم فصدَقتُم وصُدِّقتُم: جئتَنا طريدًا فآوَيناكَ، وعائلًا فآسَيناكَ 5، وخائفًا فأمَّنَّاكَ، ومَخذولًا فنصَرناكَ. فقالوا: المَّنُ للهِ ورسولِهِ. فقال صلى الله عليه وسلم: أوَجَدتُم في نُفوسِكُم يا مَعشرَ الأنصارِ في لُعاعَةٍ مِن الدُّنيا 6 تألَّفتُ بِها قَومًا أسلَموا، ووَكَلتُكُم إلى ما قسمَ اللهُ لكُم مِن الإسلامِ. أفَلا تَرضَونَ يا مَعشرَ الأنصارِ أن يذهبَ النَّاسُ إلى رِحالِهِم بالشَّاءِ والبَعيرِ وتذهَبونَ برسولِ اللهِ إلى رِحالِكُم؟ 7 فَوَالَّذي نَفسي بيدِهِ، لَو أنَّ النَّاسَ سَلَكوا شِعبًا 8 وسَلَكت الأنصار شِعبًا، لسَلَكتُ شِعبَ الأنصارِ، ولَولا الهجرةُ لكُنتُ امْرَأً مِن الأنصارِ. اللَّهمَّ ارحَم الأنصارَ، وأبناءَ الأنصار، وأبناءَ أبناءِ الأنصار. فبكَى القَومُ حتَّى أخضَلوا لِحاهُم 9. وقالوا: رَضينا باللهِ رَبًّا، ورسولِهِ قسمًا، ثمَّ انصرفَ وتفرَقوا” 10.

وفي المشهد ما فيه من العبر البليغة والدروس البانية، ومنها:

– أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أشد الناس عطاء، وكان أجود من الريح المرسلة.

– قدرة الرسول صلى الله عليه وسلم على الحوار والتواصل بآدابه الشرعية، واحتواء المواقف برحمة ومحبة وتفهم.

– سمو أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاق من رباهم من الصحابة رضي الله عنهم، الذين كان صدق حبهم للجناب الشريف يمتحن في ساحات الجهاد، ومواطن التمحيص والابتلاء.

– تواضعه عليه أزكى الصلاة والسلام، ورحمته بالخلق دفعته إلى تأليف قلوب حديثي العهد بالإسلام حتى يثبتوا على الدين ويعلموا أنها نبوة لا ملك.

– الإنسان يبقى إنسانا تضيره بعض المواقف، لكن المؤمن من يسلم لله ورسوله ويحسن الفهم عنهما.

– متاع الدنيا إلى زوال، وما عند الله خير وأبقى، والفوز برسول الله صلى الله عليه وسم أعظم الفوز وأجل العطاء، “ولا ريبة في أن أولئك المتجردين لله سوف يلقون جزاءهم الأوفى، وأن شأن الدنيا أنزل قدرا من أن يأسى عليه رجل العقيدة” 11.

– المبادرة إلى معالجة المواقف درءا لسوء الظن والفرقة.

– جلال الهجرة وعظم منزلة الأنصار، فالأنصار شعار، والناس دثار بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ بهم أقام الله تعالى قواعد الدين وثبت الشريعة، وعلى أكتاف هذه الطينة من الرجال تقوم الدعوات.

– فضل الآباء يعود على الأبناء، فالخير موصول في الأنصار وذراريهم سلفا عن خلف.

– فضل من آوى الدعوة ونصر الحق في ساعة الكرب والشدة.

ما أجل الموقف وما أعظم نبي الرحمة والنور!


[1] رواه الطبراني في المعجم الكبير وغيره.
[2] واد كبير بين مكة والطائف دارت فيه غزوة حنين التي وقعت في الثالث عشر من شهر شوال في السّنة الثامنة للهجرة بين المسلمين وقبيلتي هوازن وثقيف عقب فتح مكة المكرمة، وقد ألف فيها النبي صلى الله عليه وسلم حديثي العهد بالإسلام من قريش وباقي العرب، فخصهم بجزء مهم من العطاء ليرغبهم في الإسلام.
[3] أي حزنت كما حزنوا.
[4] المكان المتسع.
[5] فقيرا فواسيناك.
[6] أمر حقير من الدنيا.
[7] تفوزون برسول الله الذي يقيم بينكم.
[8] الطريق في الجبل.
[9] بللوها من كثرة الدموع.
[10] حديث صحيح، رواه الإمام أحمد: 3/ 76- 77؛ ونحوه عند الإمام البخاري مختصرا: 8/ 38- 42، وأورده ابن هشام: 2/ 310- 311؛ وابن جرير: 2/ 360- 361.
[11] الغزالي، فقه السيرة، ص 196.