بعد مرور أزيد من أربعة عشر قرنًا على انتقال النبي ﷺ إلى الرفيق الأعلى نطرح سؤالا نثير به تفكيرنا ونجدد به مداركنا: هل فقدنا -وقد بعُدَ الزمان بنا- الصلة الحيّة بنبينا ﷺ، أم أنها ما زالت حية جارية فينا؟ وهل بتنا نكابد أهوال الدنيا وعقباتها دون سندنا النبوي، أم أن هذا السند ما يزال فينا كما كان في أصحاب النبي ﷺ، قائمًا بنوره ومدده وبركته صلى الله عليه وسلم؟
سؤال يكشف لنا حقيقة الأمة التي ننتمي إليها، ويجدد وعيَنا بطبيعة العلاقة الجامعة بين الأمة ورسولها ﷺ، لنهتدي إلى طريق النصر والخلاص.
لقد قامت جماعة المسلمين الأولى حول شخص الرسول ﷺ، فكان واسطة الفيض الإلهي الذي استمد منه أفرادها قوتهم ونصرهم. فهو العبد الكريم على الله تعالى، المسدَّد المؤيَّد، وصاحب السرّ الأعظم الذي جعله الله سببًا لرفعة هذه الأمة وعزّها، فببركة رسالته نالت أمته ما نالت من فضل ونصر. وقد أدرك الصحابة الكرام هذه الحقيقة، فعاينوها أثرًا في أنفسهم وفي واقعهم، وفقهوا معنى الاتباع الكامل. فهموا أن ملازمة شخصه الشريف، واتباع هديه، هو مفتاح فلاحهم، فلزموا غرزه محبة وتعظيمًا.
غير أن النبي ﷺ بشر، له في هذه الدنيا عمر محدود. لكنه، مع ذلك، نبيُّ أمةٍ ممتدة العمر، باقية إلى قيام الساعة. وهنا يثور السؤال: كيف تبقى الرابطة بينه وبين أمته حيّة، بالمعنى الذي أشرنا إليه سابقًا، وقد انتقل عن دنياها؟
يقول الله تعالى مخاطبًا أصحابه ﷺ: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران: 101]. لقد اهتدى الصحابة إلى الإيمان وثبتوا عليه بأمرين أساسيين: آيات تتلى عليهم، ورسول حاضر فيهم. على هذين الركيزتين قامت الجماعة الأولى. فإذا كانت آيات الله ما تزال تتلى علينا ولله الحمد والمنة، فماذا عن الركيزة الثانية؟ ما حظنا منها نحن اليوم؟
قد يقول قائل: إن سنة النبي ﷺ محفوظة في الكتب، فبقاؤها كفيل بأن تبقى العلاقة به ﷺ حية.
غير أن هذا القول، وإن أصاب طرفا من الحق، يقفز عن جوهر القضية. فالصحابة لم يتلقوا السنة أوّل ما تلقّوها من كتب مدوّنة، بل من صلة حيّة مباشرة جمعتهم بالنبي ﷺ، صلة محبة وتعظيم قبل أن تكون طاعةً لأمر أو اجتنابًا لنهي.
تلك المحبة كانت محبة معلَنة مشهودة، يُصرّح بها النبي ﷺ للصحابي فيسمعها قلبه قبل أذنه، ثم تترجم إلى تزكية تربط القلب بالله تعالى. أخذ النبي ﷺ يومًا بيد سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه وقال له: “يا معاذ، والله إني لأحبك، أوصيك يا معاذ، لا تدعنَّ في دبر كل صلاة، تقول: اللهم أعنّي على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك” (رواه أبو داود في سننه بإسناد صحيح).
فأين نحن اليوم من تلك العلاقة التي كانت سرّ فلاح الصحابة رضوان الله عليهم؟ نبيّ محبوب عند أصحابه، وأصحاب محبوبون عند نبيهم.
قال عز وجل: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 128]. أليس جديرًا بنا أن نتأمل عظيم ما أودع الله في قلب أحب خلقه إليه من رأفة ورحمة وحرص على المؤمنين؟ وكيف جعل الله هذه الرحمة بابًا لرحمته بهم؟ ألسنا بحاجة إلى تدبر هذه الحقيقة لنفهم منها باب الهداية ومورد العطاء؟
مصيبتنا اليوم أن بعضنا غفل عن كنز الأمة الأعظم، عن مدد تلك الرابطة الحية بنبيها ﷺ. تشبّثنا بالأقوال والأفعال بفهم سطحي، وأهملنا صاحب الأقوال والأفعال ﷺ. فأيّ فائدة للأقوال إن لم تُقرّبنا من شخصه الكريم محبةً وتعظيمًا؟ ألم يعلمنا رسول الله ﷺ أن كمال الإيمان لا يتحقق إلا حين يصير شخصه الشريف أحبَّ إلينا من أنفسنا؟ جاء في الصحيحين، عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال للنبي ﷺ: “لأنت يا رسول الله أحبّ إليَّ من كل شيء إلا من نفسي”، فقال: “لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحبّ إليك من نفسك”. فقال عمر: “فإنه الآن، والله، لأنت أحبّ إليَّ من نفسي”، فقال: “الآن يا عمر”.
فهل كان سيدنا عمر، وهو يقول للنبي ﷺ: “لأنت أحبّ إليّ من نفسي”، يعبر عن تعلق بمدونات أو نصوص مكتوبة؟ أم كان يخاطب روح إنسان قائم أمامه، نبيّ مصطفًى، جسّد الوحي في أقواله وأفعاله وأخلاقه؟ لقد كانت محبته له محبة لشخصه الشريف بكل كيانه صلى الله عليه وسلم.
ليس حضور النبي ﷺ في أمته مجرد أثر تاريخي لرسول أدّى الرسالة ومضى، بل هو صلة حيّة قائمة. فقد روي عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “حياتي خيرٌ لكم، وأما موتي فتعرض علي أعمالكم عشية الاثنين والخميس، فما كان من عمل صالح حمدت الله عليه وما كان من عمل سيئ استغفرت لكم”، وهذا الحديث الذي رواه البزار بإسناد جيد يؤكد أن صلته ﷺ بأمته لا تنقطع بوفاته.
ألم يلتق النبي ﷺ بإخوانه الأنبياء في ليلة الإسراء والمعراج؟ ألم يكن سيدُنا موسى عليه السلام سببًا في تخفيف الصلاة عن هذه الأمة من خمسين إلى خمس، فكان لفعله – بعد وفاته – أثر بالغ على أمة الإسلام كلها؟ فإذا كان هذا حال نبيّ سابق مع أمة غير أمته، فكيف يكون حال نبيّها الخاتم ﷺ معها؟
إن كينونة النبي ﷺ في أمته لم تكن جسدية فحسب، بل إن الكينونة الأعمق والأبقى نورانيةٌ تسري في القلوب الحيّة، تُدركها حقيقة ملموسة. ولذا لم تزل روايات المسلمين عن صلتهم بنبيهم ﷺ وأثر بركته في حياتهم – تسديدًا وتفريجًا للكروب – تتكرر جيلاً بعد جيل. فكل من طرق بابه بصدق نال من العجائب ما لا يُحصى.
لقد جعل الله تعالى سيدنا محمد ﷺ خاتم النبيين، فرسالته باقية ممتدة إلى قيام الساعة، فمن بعثته إلى يوم الدين لا نبوة إلا نبوته، ولا إمامة إلا إمامته، ولا هدي إلا هديه، ولا فلاح إلا من بابه. تلك مشيئته سبحانه، فهو تعالى ينظر إلينا اليوم باعتبارنا أمة سيدنا محمد ﷺ كما نظر إلى جماعة الصحابة الأولى.
وهذا التقدير الرباني يضع بين أيدينا أمرًا بالغ الأهمية، فالله تعالى برحمته لا يكلّف نفسًا ولا أمة إلا وُسعها. ومن أعظم ما خصّ الله به هذه الأمة أن بعث فيها رسول الله ﷺ، نورًا وهدايةً ومددًا، وهذه النعمة العظمى باقية فيها إلى قيام الساعة. فإن نحن غفلنا عنها، وتعاملنا مع ما ينزل بنا من أقدار وكأننا بعيدون عن هذا المدد النبوي، كنا على خطر عظيم. فابتلاءات الأمة – جماعاتٍ وأفرادًا – لا تُطاق إلا ببركة حضوره ﷺ فينا. فإذا أعرضنا عن هذا المدد، ولم نلجأ إليه محبةً وتعظيمًا، أوشكنا أن نُحرم من النصر والتثبيت.
ما أحوجنا – في زمن الابتلاءات والتحديات – إلى أن نجدد صلتنا بنبينا ﷺ. ونحن في هذه الأيام المباركات، ذكرى مولد المصطفى ﷺ، نقف بقلوب مفعمة بالاعتراف بالتقصير في محبته وتعظيمه، نطرق باب ربنا متوسلين ببركة نبيه ﷺ، سائلين المولى عز وجل أن يفرّج الكرب عن أهلنا في غزة، وأن يمنح أهلها النصر والتثبيت، وأن يشدّ على قلوب المسلمين جميعًا ليقوموا قومة واحدة في وجه الظلم والعدوان.