مقدمـة
قد نكون في بيت واحد وتحت سقف واحد، لكننا غرباء لا نعرف بعضنا، لا نجتمع إلا إذا انقطع الانترنيت لسبب ما، أغلب وقتنا أمام هواتفنا النقالة في عالمنا الافتراضي، كل منا في عالمه الخاص، ثم بعد ذلك نتساءل لماذا قلوبنا مشحونة؟ لماذا لا نفهم بعضنا أكثر؟ لماذا لا نتحمل بعضنا أكثر؟ لماذا نحن مقصرون في واجباتنا تجاه بعضنا؟…
الأسرة؛ تلك اللبنة الأساس
الأسرة هي وحدة أساسية تقوم عليها بنية المجتمع المسلم، ولبنة أساس تبنى عليها الأمة الإسلامية، أولاها الإسلام عناية خاصة واعتبرها سبب استقرار المجتمع وصلاحه، ومفهوم الأسرة هو اجتماع الرجل والمرأة في إطار شرعي وهو الزواج، قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الروم: آية 21).
وقد استطاع الإسلام وضع تصور صحيح للعبادة؛ التي تشمل نشاط الإنسان في مجلات عدة: في الأقوال، والمشاعر، وفي الأعمال الفردية…
وما تعانيه المجتمعات المسلمة اليوم من تفكك وانعدام الدفء الأسري وغيره من الآفات الاجتماعية، ما هو إلا نتيجة التسيب وإهدار الوقت والجهد فيما لا يفيد.
واقع لا مفر منه
إن محاولة إلغاء وسائل التواصل الاجتماعي أو منع التعامل معها أصبح ضربا من الخيال، لا أحد يستطيع إلغاءها من حياته بسهولة، لكن يمكننا ترشيد أوقاتنا التي سنكون محاسبين عليها أمام الخالق يوم القيامة كما جاء في نص الحديث: “عن أبي برزة الأسلمي، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عمره فيما أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من اين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه” 1.
الوقت إذن هو رأس مال الإنسان في الحياة، والإسلام هو دين النظام بامتياز، لا بأس أن نخصص وقتا محددا للتواصل عبر هذه الوسائل والمنصات، وألا يكون ذلك على حساب احتياجات الأسرة واحتياج الشريك في التواصل مع شريكه، فإذا كان الزوجان كريمان في تبذير وقتيهما وإنفاقه بسخاء فيما لا ينفع، فإن ذلك سيؤثر سلبا لا محالة على الأسرة وتماسكها واستمراريتها.
ماذا عن الزوجين؟
الزوجان هما حجرا الزاوية للأسرة وأساسها، إن هما تعاونا وتحابا وتفاهما، فسيساهمان في خلق بيئة سليمة آمنة ومستقرة لأطفالهما، مما يساهم في نموهم النفسي والاجتماعي السوي، إن كثرة وعمق الانشغال بوسائل التواصل الاجتماعي يدخل الزوجين كلاهما في عالم افتراضي بعيد عن الواقع، وكلما كان التوغل في هذا العالم أكثر، كان البعد عن الآخر أسرع، فيصعب الحوار الإيجابي السلس والودي، وهو ما تحتاجه العلاقة الزوجية الناجحة، فيبني كل منهما عالمه بعيدا عن شريكه، وهو ما يشكل إساءة للآخر، فالتجاهل هو أحد أشكال العنف المعنوي الذي يواجه الأزواج في علاقهم على المدى الطويل أو المتوسط.
إن انغماس الأزواج في هذا العالم الافتراضي يجعل العلاقة فاترة، بل وأصبحنا نشهد اليوم مصطلحات مثل “الطلاق العاطفي” أو “الجفاء العاطفي” لانعدام وجود أنشطة مشتركة أو إدارة حوارات مشتركة، فنرى التفاهم بين الزوجين يضمحل يوما بعد يوم، وبمرور الوقت تنحدر علاقتهما إلى الحضيض بسبب هذا العالم سارق السعادة، وربما ينشئ أحدهما فيه علاقات وصداقات مختلفة تماما تحل محل العلاقة الأصلية والأدوم في حياة الأسرة.
ويفيد أغلب أخصائيي العلاقات الزوجية أن شبكات التواصل الاجتماعي هي المتهم الأول والمساهم الأكبر في تفكك الأسر، إذا أسيء استخدامها، فقد ساهمت هذه الأخيرة في ازدياد نسب الطلاق بشكل ملحوظ، وتفشت الخيانة وازدادت المشاكل التربوية…
كيف نحقق التوازن في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي داخل أسرنا؟
إن وسائل التواصل الاجتماعي هي أداة قوية يمكن أن تكون مفيدة أو ضارة حسب طريقة استخدامها، وعلى الأسرة أن تدرك تأثيراتها الإيجابية والسلبية، وتسعى لتحقيق التوازن من خلال الوعي والتنظيم، كما يمكن للأسرة أن تستفيد من هذه الوسائل دون أن تفقد جوهر العلاقات الأسرية القوية والمتماسكة.
عليها إذن استشعار مخاطر الإكثار من استعمال الشبكات، بالإضافة إلى تحديد أوقات معينة نبتعد فيها عن استعمال تلك الأجهزة، مثل أوقات الأكل والراحة، والزيارات العائلية، والأعياد، والخرجات الترفيهية، والتشجيع على اللقاءات التفاعلية المباشرة، وتقنين استخدامها بشكل آمن، وتجنب إفشاء المعلومات الشخصية لتفادي المشاكل.
كما يمكن تنظيم أنشطة مشتركة داخل الأسرة والتشجيع عليها بعيدا عن شاشات الفضاء الأزرق، كالألعاب الجماعية، والأنشطة الرياضية، والمطالعة وغيرها من الهوايات الممتعة.
فيما يخص الأبناء، يجب مراقبتهم عن كثب ومعرفة نوع المحتوى الذي يتابعونه، ومعرفة إن كان مناسبا لأعمارهم، ثم بعد ذلك يأتي دور التوجيه الجيد، والتشجيع على الحوار المفتوح بين أفراد الأسرة، وتبادل الآراء والمخاوف، والتحدث بصراحة لاحتواء أي مشكل قبل تفاقمه.
خاتمة
كم هو جميل أن نخصص يوميا دقائق من وقتنا نجتمع فيها مع من حولنا، بعيدا عن كل ما يلهينا، وأن نوازن بين الحياة الرقمية والحياة الواقعية، فلا إفراط ولا تفريط، إذ يمكن للأسرة الاستفادة من هذه الوسائل والحفاظ على العلاقة القوية المتماسكة دون أن تفقد جوهر هذه العلاقة ولبها.