استيقظتُ يوما فوجدتُني ميتة.. وما لي علم بذاك ولا خبر..
حاولت أن أوقظ جسدي لكنّه كان جثة هامدة أمْرُ موتها قد صدر..
حاولت ثم حاولت.. لكن ما التفت بدني إليّ ولا نظر..
وكزتُه، صفعتُه، دفعتُه.. فما أحسّ ولا شعر.
وقفتُ جانبا وأخذت أتابع ما يجري.. وكأني ناقلة خبر..
بعد حين جاء زوجي وناداني كعادته: فلانة.. يا وردة بستاني.. يا شمس أيامي.. هذا وقت السحر..
قومي علّنا – والمولى ينادي هل من سائل؟ هل من تائب؟ هل من مستغفر؟ .. أن نكون ممن حضر ..
وأناخ المطايا بباب الملك الوهّاب فأناب واستغفر.. وذكر وشكر.. وبكى واستعبر..
أجبتُه.. لكنّه لم يكن يسمعُني.. فقد كان يحدّث جسدا طلّق الروح وهجر.. والتفّت منه الساقان وشَخصَ البصر..
بعد لحظة أدرك أنني رحلت في آخر سفر.
أرعد.. أزبد.. أمطرت عيناه والدمع منهما انهمر..
جاء صغارنا يجرون.. أمّاه.. أمّاه.. هل من ضرر؟
وجدوني شبحا قد غزاه الموت وفاز بالظَّفر..
رأيتهم وهم يبكون..
شاهدتهم وهم يصعقون..
واسيتهم لكنهم لم يكونوا يسمعون..
انكبوا على وجه ذاك الجسد الفاني يقبّلونه، وبدمع العين الغزير يغسلونه..
ما زال صدى تلك الصيحة الأليمة مدوّيا في أذني: “أمّاه.. أمّاه..”.
بعد حين، استيقظوا من هول الصدمة.. فأسرع كلّ واحد منهم إلى هاتف..
نادى زوجي -بهاتفه- على أبي وأهلي.. وبهاتفٍ كان ذات يومٍ لي، نادى أبنائي على جدّتهم وأعمامهم، وعلى أخت في الله جعلتها مني قريبة، صديقة وحبيبة.
انطلقتُ إلى النافذة أنظر ماذا سيحدث..
بعد ربع ساعة ذاع الخبر.. وعلى مجموعات التواصل الاجتماعي كنار في الهشيم انتشر..
وجاءت أختي التي ادخرتها لمثل هذا اليوم هي وزوجها كلمح البصر..
تحسست عنقي.. استمعت إلى نبض قلبي.. مرّرت أصبعها على أنفي..
ثمّ قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون.
أزّ جوفها.. اختنق صوتها.. وانفجرت العيون.
بعد برهة، ربطتْ جأشها، وتمالكت نفسها، وقالت لزوجي: عظّم الله لك الأجر.. ورزقنا وإياك الصبر..
انهار المسكين.. أمسكه زوجها.. تعانقا يبكيان..
أما صغاري فقد كانوا مذهولين لا يصدّقون ما حدث.
وذهبت -التي كنت أحسبها حبيبة لا تُسْلمني- تأتي بمن تُغسّلني..
بعد حين أُغلق عليّ الباب.. ودخلت ثلاث أخوات فجردنني من الثياب..
وفوق سرير الغسل وضعنني.. عصرن بطني ثم أضجعنني.. وبأعضاء الوضوء ابتدأنني..
إيه.. قلّبنني ذات اليمين، ثم ذات الشمال.. سمعت تهليلهن وصلاتهن على النبي والآل..
سكبن عليّ في الأخير خليط ماء بسدر وكافور.. ثمّ ضمخنني -جزاهن الله خيرا- بمسك وعطور..
بعد ذلك حملنني.. وعلى الأرض -فوق دثار- وضعنني.. ثم في خمسة أثواب بيض كفّنّني..
لفّة بعدها لفّة.. أخرجن حنوطا من قفّة..
رمين بعضها في الكفن.. واحتفظن بالباقي لحين الدفن..
أبقين على وجهي مكشوفا حتى يودعني من الأحباب من شاء.
وبعد ساعة ونصف.. جاءت أميّ ترتجف..
ارتمت المسكينة فوقي دون أن تشعر..
شممتُ ريحها.. وريح الأمّ عنبر..
قبّلتني، وإلى صدرها الحاني ضمتني..
ابنتي.. حبيبتي.. قطّعت الفؤاد ومزقت الكبدَ..
كنت أوصيتك عن موتي وحفل تأبيني.. وها أنتِ ذي تسبقيني وعلقمَ موتِك تسقيني..
ابنتي.. حبيبتي.. كيف تحلو في غيابك فرحتي؟
كيف أدخل بيتكِ؟ كيف أستقبل زوجكِ وأبناءكِ؟
هوت أخواتي صريعات..
فكلام أمي هيّج الأحزان وأحيا الذكريات..
دخل بعد ذلك الأهل تترى..
فاختنقت العبرات مرة بعد أخرى..
وها قد آن أوان الرحيل..
وفي المقابر اليوم سيكون المقيل..
آه! من قلّــة الزاد، وبُعد السفر، ووحشة الطريق..
آه على عمر ضاع فيما لا يليق..
وها هم يا -أُختاه- على الأعناق حملوني..
وإلى المقابر ساقوني..
كبروا عليّ أربعا ثم شيّعوني..
فرشوا لي ترابا، وبالترب أيضا دثروني..
دعوا لي دعوة مستعجلة ثم ودّعوني..
ثم انصرفوا عني وتركوني..
وبقيت وحيدة.. لا والد معي ولا ولد..
لا مال .. ولا جمال.. ولا منصب.. و لا ذات يد..
ومنادي الحال ينادي: فلانة بنت فلان..
ذهبوا وتركوكِ..
وفي التراب دفنوكِ..
حتى لو ظلوا معك.. ما نفعوكِ..
أين المال والبنون؟
أين ما كنتم به تتفاخرون وعليه تقتتلون؟
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ۖ
وعدتُ إلى البيت الذي كان فيما مضى لي.. لأرى ما سيجري..
في ذاك اليوم.. كان همّهم هو حفل تأبيني الذي حضرته الكثير من الأخوات والقريبات..
ما زال الجرح ينزف.. والعيون تبكي والقلب يرفّ..
انصرف من انصرف.. وبات في البيت من بات..
آه.. آه.. ما هذا؟ ماذا تفعلن؟
هذا سريري.. وهذا دثاري.. وهذه وسادتي..
اضطجعت أمي مكاني تؤنس وحشة صغاري، وازدحمت الغرفة الثانية بأخواتي وقريباتي وأهل زوجي.
أما توأم روحي فقد تمدّد في قاعة الضيوف مع الرجال.. وحاله يغني عن المقال..
ورغم الحزن والتعب والإجهاد.. فقد بات الجميع في أرق وسهاد..
في صباح الغد أحضر الأقارب الطعام.. وعلى موائد الإفطار.. سمعتهنّ يقُلْن: “المسكينة طارت”..
كانت وكانت وكانت.. وكأنها اليوم ما كانت..
وفي اليوم الثالث فتحن خزانة ملابسي.. رمين ثيابي كلّها أرضا.. وقلن لبعضهنّ لتأخذ كل واحدة ما تشاء..
أخذت أصيح عاليا: لا.. لا.. هذه باهظة الثمن.. لا .. هذه لم ألبسها بعد.. لا.. هذه هدية من صديقة غالية..
لا.. أرجوكن اتركن لي فساتيني وجلابيبي..
إيه.. من يسمعك يا فلانة؟
ما بقي لك شيء تملكينه.
احتفظت كلّ منهنّ بما سيبقى مني ذكرى.. وتصدّقن بما تبقى.
ثم اتفق ورثتي على يوم يجتمعون فيه ليقتسموا تركتي..
وصرت ذكرى تتلاشى يوما بعد يوم..
وبعد حين.. اندرس أثري ورسمي، ونُسي لقبي واسمي..
وقلّ الذاكرون والمترحمّون على أمة كانت ذات يوم من بنات الدنيا..
فهل لي من عمل صالح؟
هل لي من صدقة جارية؟
هل لي من علم بركته باقية؟
هل تركت خلفي ولدا صالحا يسأل الله لي العفو والعافية؟
رحم الله أبا العتاهية.. فقد وصف حالنا مع الدنيا بدقة متناهية:
نأتي إلى الدنيا ونحن سواسية ** طفلُ الملوكِ كطفل الحاشية
ونغادر الدنيا ونحن كما ترى ** متشابهون على قبور حافية
أعمالنا تُعلي وتَخفض شأننا ** وحسابُنا بالحق يوم الغاشية
حور، وأنهار، قصور عالية ** وجهنمٌ تُصلى، ونارٌ حامية
فاختر لنفسك ما تُحب وتبتغي ** ما دام يومُك والليالي باقية
وغداً مصيرك لا تراجع بعده
إما جنان الخلد وإما الهاوية
إلهي.. يا سيدي ومولاي.. أمتك الآبقة بين يديك، لا شيء منها يخفى عليك، رجاؤها رحمتك إذ صارت إليك.
اللهم إن زاغ سهم صدقي عن غنيمة رضاك، فلا تجعل اللهم قوس إرادتي إياك ينكسر..
يا عُدّتي عند انقضاء مُدّتي، ويا سندي عند انقطاع مددي، أحمدك بالمحامد كلها، وأثني عليك بالمثاني جميعها، وأسألك خير المسائل وأكملها، وأعوذ بك من شر الأمور أجمعها..
يا قهّار اقهر قسوة قلوبي حتى تخشع لك وتستكين، ويا جبار اجبر كسر لساني حتى يطيب بذكرك ويلين، ويا حي ابعث روحي حتى تتخلص من حمأة الطين، ويا قادر أوقفني على باب طاعتك في الحين.
وصلّ اللهم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى الآل طرّا والصحب أجمعين.. وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. آمين.