وتسألني عن قيام الليل وعن صلاة الليل…

Cover Image for وتسألني عن قيام الليل وعن صلاة الليل…
نشر بتاريخ

أتسألني عن ركيعات الأسحار، حينما يتنزّل اللطيف الغفّار إلى السماء الدنيا وينادي هل من تائب فأتوب عليه، هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له؟

 تيك -والله- سويعات لا تقدّر بثمن، ولا تقاس بعرض، ولا تشترى بمال…

فأي صورة أبهى، وأي مشهد أحلى من مشهد عبد منكسر في محرابه، قد أمطرت سماء عينيه وهو قائم يتلو كلام ربّه، ثمّ ركع يقول: سبحان ربي العظيم وبحمده، وبعدها خرّ ساجدا يناجي مولاه، ويشكو إليه ضرّه وبلواه، ويستغفره مما جنت يداه، راجيا عفوه ورضاه،

إنها لحظات تنجلي فيها الأنوار، وتنكشف فيها الأسرار؛ فعبد آبق يقف في محرابه في ذلة وانكسار، يبوح لسيده بما كان منه من تفريط وإقصار، راكعا ساجدا على بساط التوبة والاستغفار، يبكي على ما جنت يداه من ذنوب وأوزار. يقول: اللهم اغفر لي يا غفار، واستر عيوبي يا ستار، ولا تشو خلقي بالنار.

وعبد محبّ يتودّد إلى مولاه بالنفل طالبا كرمه، لا يقرّ له قرار، مؤدّيا حقّ «وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّه» راجيا منه القرب والجوار، طامعا في الكينونة مع المحسنين الأبرار.

وعبد محبوب متلهّف إلى لحظات الأنس قد أحرقه الانتظار، إذا جنّ عليه الليل فار بركان شوقه وثار، فتوضأ وتطهّر وإلى محراب الوصل طار، فصلى ركعتي توبة وإنابة واستغفار، ثمّ دعا ربّه واستخار، وبلا إله إلا الله ملأَ القلب وعمر الدار، ثمّ قام بين يدي ربّه في افتقار واضطرار، ليختم بعد ذلك ليلته باستغفار، ثمّ بدعاء رابطة يربط قلبه بقلوب من سبقونا من الأخيار والأطهار، فأضاء منه المحيا واستنار، ونمت شجرته الطيبة وآتت الأُكل والثمار.

وتسألني عن قيام الليل

تسألني عن دأب الصالحين، وسبيل القربة من ربّ العالمين.

تسألني عن عبادة أمر بها المحبوب حبيبه، وأوصى بها الخليل خليله فقال له:

يَٰٓأَيُّهَا اَ۬لْمُزَّمِّلُ قُمِ اِ۬ليْلَ إِلَّا قَلِيلاٗ (1) نِّصْفَهُۥٓ أَوُ اُ۟نقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (2) اَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ اِ۬لْقُرْءَانَ تَرْتِيلاًۖ (3) اِنَّا سَنُلْقِے عَلَيْكَ قَوْلاٗ ثَقِيلاًۖ (4) اِنَّ نَاشِئَةَ اَ۬ليْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْـٔاٗ وَأَقْوَمُ قِيلاًۖ (5) اِنَّ لَكَ فِے اِ۬لنَّه۪ارِ سَبْحاٗ طَوِيلاٗۖ (6) وَاذْكُرِ اِ۪سْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلِ اِلَيْهِ تَبْتِيلاٗۖ (7) رَّبُّ اُ۬لْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاٗۖ (8)(سورة المزمل – الآية: 1-8).

عبادة ترقى بصاحبها إلى شعاف المنّة الإلهية، وتدخله إلى عرصات الحضرة القدسية، وتؤهّله لحيازة المقامات الخصوصية:

اَقِمِ اِ۬لصَّلَوٰةَ لِدُلُوكِ اِ۬لشَّمْسِ إِلَيٰ غَسَقِ اِ۬ليْلِ وَقُرْءَانَ اَ۬لْفَجْرِۖ إِنَّ قُرْءَانَ اَ۬لْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداٗۖ (78) وَمِنَ اَ۬ليْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِۦ نَافِلَةٗ لَّكَ عَس۪يٰٓ أَنْ يَّبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماٗ مَّحْمُوداٗۖ(79) (سورة الإسراء– الآية: 78-79).

 وتدبّر -يا أُخيّ- آي القرآن تجد كلّ ثناء وإطراء مقرونا بقيام الليل:

ففي سورة الفرقان مثلا تجد: وَعِبَادُ اُ۬لرَّحْمَٰنِ اِ۬لذِينَ يَمْشُونَ عَلَي اَ۬لَارْضِ هَوْناٗ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ اُ۬لْجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰماٗۖ (63) وَالذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداٗ وَقِيَٰماٗۖ (64) وَالذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اَ۪صْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماًۖ (65) اِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاٗ وَمُقَاماٗۖ (66) (سورة االفرقان– الآية: 63-66).

وفي سورة الذاريات تجد: إِنَّ اَ۬لْمُتَّقِينَ فِے جَنَّٰتٖ وَعُيُونٍ (15) اٰخِذِينَ مَآ ءَات۪يٰهُمْ رَبُّهُمُۥٓۖ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَۖ (16) كَانُواْ قَلِيلاٗ مِّنَ اَ۬ليْلِ مَا يَهْجَعُونَۖ (17) وَبِالَاسْح۪ارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَۖ (18) (سورة الذاريات– الآية: 15-18).

وفي سورة السجدة تجد: إِنَّمَا يُومِنُ بِـَٔايَٰتِنَا اَ۬لذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداٗ وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَۖ۩ (15) تَتَجَاف۪يٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ اِ۬لْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاٗ وَطَمَعاٗ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَۖ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٞ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٖ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَۖ (17) (سورة السجدة– الآية: 15-17).

وفي سور كثيرة هناك ثناء على أهل الليل القوامين الذاكرين المستغفرين المتضرّعين المتعرّضين لرحمة الله.

وتسألني عن قيام الليل

يا أخي، اسمع من حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم هذه النصيحة الجبريلية الغالية: «أتاني جبريلٌ، فقال: يا محمدٌ! عشْ ما شئتَ فإنكَ ميتٌ، وأحببْ منْ شئتَ فإنكَ مفارقُهُ، واعملْ ما شئتَ فإنكَ مجزيٌّ بهِ، واعلمْ أنْ شرفَ المؤمنِ قيامُهُ بالليلِ، وعزَّهُ استغناؤهُ عنِ الناسِ» 1

فأخذ بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم وحثّ أصحابه على الأخذ بها فقال لعبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما: «يا عبدَ اللهِ! لا تكُنْ مِثلَ فُلانٍ كان يقومُ من الليلِ،  فترَكَ قِيامَ الليْلِ» 2

وقال للسيدة حفصة -رضي الله عنها- وقد قصّت عليه رؤيا رآها أخوها عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: «نِعْمَ الرَّجُلُ عبدُ اللَّهِ، لو كانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ» 3

بل إنّ أول كلمات ألقاها مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على مسامع أهل المدينة الذين انجفلوا قِبَلهُ لسماع مشروعه وما جاءهم به، كانت: «أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام» 4

وتسألني عن فضل قيام الليل

لقد علم العارفون أنَّ قيامَ الليل مدرسةُ المخلصين، ومضمارُ السابقين، ونزهة العاشقين، وأنّ الله تعالى إنّما يوزّع عطاياه، ويقسم خزائن فضله في جوف الليل، فيصيب بها من تعرض لها بالقيام، ويحرم منها الغافلين النَّيام.

وهل بلغ عبدٌ درجات الأنس، ولا نوَّر الله قلبه بالحكمة، إلاّ بحظ من قيام الليل؟

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «وأربعة تجلب الرزق: قيام الليل، وكثرة الاستغفار بالأسحار، وتعاهد الصدقة، والذكر أول النهار، وآخره».

وإنّها لأرزاق مادية وفيوضات معنوية.

أتهـــــزأ بالدعــاء وتزدريه … ولا تدري ما صنع الدعاء

سهام الليل لا تخطئ ولكن … لها أمـــد وللأمـــد انقضاء

واسمع من سيد الأنام بركات القيام: «عليكمْ بقيامِ الليلِ فإنَّه دأبُ الصالحينَ قبلكمْ، وقربةٌ إلى اللهِ تعالى، ومنهاةٌ عنِ الإثمِ، وتكفيرٌ للسيئاتِ، ومطردةٌ للداءِ عنِ الجسدِ» 5

أمّا في رمضان

فإذا كان قيام الليل -في غير رمضان- له أهله وفضله، وأجره ونوره. ففي رمضان يتضاعف هذا الفضل والأجر، ويزيد المقبلون ويكثر الأهل. وكيف لا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَن قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ.» 6

في رمضان يزيد الأجر، ويعظم الفضل، ويتكاثر الأهل، فترى أفواجا من التائبين قد توافدوا إلى حياض الكرم الإلهي ينهلون من معين: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِے عَنِّے فَإِنِّے قَرِيبٌۖ ا۟جِيبُ دَعْوَةَ اَ۬لدَّاعِۦٓ إِذَا دَعَانِۦۖ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِے وَلْيُومِنُواْ بِيَ لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَۖ (185) (سورة البقرة– الآية: 185). ويكرعون من ينبوع قُلْ يَٰعِبَادِيَ اَ۬لذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَيٰٓ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اِ۬للَّهِۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ يَغْفِرُ اُ۬لذُّنُوبَ جَمِيعاًۖ اِنَّهُۥ هُوَ اَ۬لْغَفُورُ اُ۬لرَّحِيمُۖ (50)(سورة البقرة– الآية: 185)  فمن ذا يستطيع الذود عنهم؟ ومن ذا يملك أن يردّهم عن رحمة ربّهم، أو يطردهم من بيت سيدهم؟

حتى إذا ما دخلت العشر الأواخر، وأطلّت ليلة القدر بأنوارها وخيراتها، استيقظ في السعداء جمال الرجاء، وذاقوا حلاوة الدعاء، وتأججت فيهم رغبة الارتواء من فيض عطاء الملك الوهاب -سبحانه- وخافوا أن تفوتهم نعمة: وَمَآ أَدْر۪يٰكَ مَا لَيْلَةُ اُ۬لْقَدْرِۖ (2) لَيْلَةُ اُ۬لْقَدْرِ خَيْرٞ مِّنَ اَلْفِ شَهْرٖۖ (3) تَنَزَّلُ اُ۬لْمَلَٰٓئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٖۖ (4) سَلَٰمٌ هِيَ حَتَّيٰ مَطْلَعِ اِ۬لْفَجْرِ(5) (سورة الفجر– الآية: 2-5) فشمّروا عن سواعد الجدّ واشتغلوا بالذكر والتلاوة والقيام والدعاء، مستجيبين لنداء خاتم الأنبياء: «مَن قَامَ ليلة القدر إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ.» 7 متأسّين به – صلى الله عليه وسلم – إحياء لليل وإيقاظا لأهل.

والسابقون من أهل الليل وأصحاب الفضل فرحون بهذه الأفواج التائبة المنيبة العائدة إلى مولاها بعد طول غياب، الواقفة معهم على باب الكريم الوهّاب، المزاحمة لهم على لثم الأعتاب، قد فعل فيهم القيام فعلته، وأظهر عليهم ثمرته، فصفت قلوبهم، وزكت نفوسهم، فهم فرحون لما يفرح ربّهم، سعداء بما يسعد نبيّهم. «لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِن أَحَدِكُمْ كانَ علَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فلاةٍ، فَانْفَلَتَتْ منه وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فأيِسَ منها، فأتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ في ظِلِّهَا، قدْ أَيِسَ مِن رَاحِلَتِهِ، فَبيْنَا هو كَذلكَ إِذَا هو بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قالَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ» 8.

وتسألني عن قيام الليل

يا أخي، إنّه زاد وأي زاد…

رحم الله الإمام الجُنيد فقد رُئِيَ في المنام فقيل له: ما فعل ﷲ بك؟ قال: طاحت تلك الإشارات، وغابت تلك العبارات، وفنيت تلك العلوم، ونفدت تلك الرسوم، وما نفعنا إلا رُكيعات، كنا نركعها في الأسحار. 9

إنّها ركيعات الأسحار، الدافعة للأضرار، الرافعة للأقدار…

إنّها خطوات ثابتة نحو ذرى الكمال، وسويعات ميمونة يقضيها العبد في رياض البهاء والجمال، قائما، راكعا، ساجدا، متذلّلا، في محراب الهيبة والجلال… راجيا عفو ربّه، وكرم مولاه، أن يمحو القبيح ويُجزل النوال…

إنّها سويعات صفاء ووصال، يخلو فيها العبد بربّه بعيدا عن أعين المتلصّصين وآذان المتجسّسين فيقف بين يديه نجيّا، ويناديه نداء خفيا، ويسأله من فضله واسعا.

إنّه في خلوة مع محبوبه، وكفى.

فهل لك – يا نفس- علم بهذا؟

هل شممتِ ريحه، هل تنسّمتِ عبيره، هل نشقتِ شذاه؟

يا نفس ألك حاجة إلى الله؟

اللهم عبدك الآبق بين يديك، لا شيء منه يخفى عليك، رجاؤه رحمتك إذا صار إليك.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وحزبه.


[1] رواه الإمام السيوطي عن جابر بن عبد الله وسهل بن سعد رضي الله عنهما في الجامع الصغير _89.
[2] أخرجه البخاري (1152)، ومسلم (1159) باختلاف يسير.
[3] أخرجه البخاري (1121)، ومسلم (2479) باختلاف يسير.
[4] أخرجه الترمذي (2485)، وابن ماجه (1334)، وأحمد (23784).
[5] أخرجه السيوطي في الجامع الصغير عن أبي الدرداء – رضي الله عنه- 5555.
[6] أخرجه البخاري (37)، ومسلم (759).
[7] أخرجه البخاري (1901)، ومسلم760.
[8] أخرجه مسلم عن سيدنا أنس بن مالك (2747)، والبخاري 6309.
[9] بو نعيم الأصبهاني_ حلية الأولياء وطبقات الأصفياء_ ج10 ص 256.