والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس

Cover Image for والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس
نشر بتاريخ

الغيظ هو أصل الغَضَب، وكثيرًا ما يتلازمان، فهو موقف إنساني سلبي وردة فعل تلقائية تجتاح النفس البشرية لأسباب معينة تختلف باختلاف الأشخاص والوضعيات والعوامل، ويعتبر الإحساس بالظلم أو التعسف أو عدم التقدير أو التحقير من الأسباب التي قد تؤدي إلى بروزه في نفس الإنسان، فهو أمر ذاتي أكثر منه موضوعي. وهو ظاهرة تبرز بشكل جلي لاسيما خلال شهر رمضان، ومن هذا المنطلق ركز الإسلام على معالجة ظاهرة الغيظ من داخل النفس البشرية قبل أن يتصدى له من جانب العوامل الخارجية.

وقد وردت آيات قرآنيه وأحاديث نبوية كثيرة تدعو المسلمين إلى التحلي بصفة كظم الغيظ والعفو عن الناس، نكتفي بالاستشهاد بالآية الكريمة التالية؛ قال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ  -1-.

فما أحوجنا لهذا الخلق العظيم، ونحن على أعتاب أعظم مواسم الخير والبركة على الأمة الإسلامية، شهر رمضان المعظم، فليس المقصد فيه من الصيام الامتناع عن الطعام والشراب، وإنما ضبط النفس والسمو بها إلى معالي الأخلاق، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابّك أحد أو جهل عليك، فقل إني صائم إني صائم” -2-

فمن هم الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس؟

هم المؤمنون المتقون الذين يكظمون الغيظ عندما يصيبهم الظلم والتعسف، يصبرون ويحتسبون ويتحملون في سبيل الله، وكظم الغيظ هو حالة سامية من التحكم في النفس نتيجة ترويضها بالتربية، على عدم المعاملة بالمثل ومقابلة الإساءة بالإساءة والتَّرغيب في الصَّفح عن الأذى والعفو عند المقدرة.

والكظم غير العفو عن الناس، فالفرد قد يكظم غيظه دون أن يعفو عن ظالمه. إذن، العفو هو مرتبة أخلاقية سامية تتجاوز عدم الفعل (كف الشر) لتشمل العفو عمن ظلم (الصفح داخل النفس)،وهذا أكمل الأحوال.

إن الله سبحانه وتعالى يحب هؤلاء الذين تترقى نفوسهم في مراتب التربية من كظم الغيظ الى العفو عن الناس ويصفهم بالمحسنين. وهو مقام جليل يتصف به المتقون.

من المستفيد منه؟ قال بعض الحكماء: احْتِمَالُ السَّفِيهِ خَيْرٌ مِنْ التَّحَلِّي بِصُورَتِهِ وَالْإِغْضَاءُ عَنْ الْجَاهِلِ خَيْرٌ مِنْ مُشَاكَلَتِه). يبرز ذكاء هذه الحكمة من خلال الأفضلية التي تمنحها لكاظم الغيظ والعافي عن الناس. أول من ينتفع بهذا الخلق، المسلم الذي يتصف به فعندما ينتج الإنسان مخرجات قبيحة يسيء لذاته قبل أن يسئ للأخرين.

ورأس الخلق الكامل كما قال الأستاذ عبد السلام ياسين، امتلاك النفس وقمعها تحث طائلة التقوى، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغضب الا إذا انتهكت حرمات الله)-3-

لماذا كظم الغيظ و العفو عن الناس؟

أليس من المنطقي أن يعاقب الفرد عن ظلمه مصداقا لقوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ-4-وضع الله سبحانه وتعالى سلما للقيم وأوصي المسلم، بل أمره، أن ينظر إليه ويعود إليه في اختياراته للسلوكيات. غير أنه سبحانه أرشد لما هو أفضل من القصاص والانتقام، كظم الغيظ وتحمل الإساءة.

إن فلسفة انتاج القيم في الإسلام تتمثل في إرساء شروطها وإنعاش بيئتها، الشيء الذي يتضارب مع الانتقام الذي يحتمل أن يعزز ويخلد الكراهية بين البشر، يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: أمانة الدعوة وتبليغ كلمة الله عن رسول الله مهمة جليلة يلزمها من الحلم مثل ما يلزمها من العلم)-3-

المؤمن المتقي يتحمل ويكظم الغيظ راجيا ما عند الله من المثوبة، بمعنى يرى المتقي الكاظم للغيظ في موقفه هذا سلوكا تعبديا فيه تأسي بهدي الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، والسنة النبوية حافلة بالمواقف المختلفة للنبي الكريم التي أكد فيها على سمو خلق الحلم والعفو والتسامح.

فعن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَوْفٍ قال: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “ثَلَاثٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنْ كُنْتُ لَحَالِفًا عَلَيْهِنَّ: لَا يَنْقُصُ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ فَتَصَدَّقُوا، وَلَا يَعْفُو عَبْدٌ عَنْ مَظْلَمَةٍ يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا، وَلَا يَفْتَحُ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ”-5-.

كيف يمكن كظم الغيظ؟

لكظم الغيظ فوائد مهمة وعديدة، ولهذا فقد وجّه الله سبحانه وتعالى عباده إلى التحلّي بهذه الصفة الجليلة، وقد تضمنت السنة النبوية الشريفة قواعد تعين على التحلي بصفة كظم الغيظ نذكر منها:

– الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم فعن سليمان بن صُرَد -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-قال: “كنت جالساً مع النبي -صلى الله عليه وسلم-ورجلان يستبّان، وأحدهما قد احمر وجهه، وانتفخت أوداجه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:”إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد””. -6-

– الوضوء وذلك مصداقًا لقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم” إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ” -7-

– التزام الصمت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا غضب أحدكم فليسكت “-8-

– تغييرالوضعية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع “-9-

– حفظ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم “عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني قال لا تغضب. فردّد ذلك مراراً، قال لا تغضب “-10-، وفي حديث اخر “لا تغضب ولك الجنة “-11-

وأجر عظيم آخر في قوله عليه الصلاة والسلام: “من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء “-12-

– معرفة الرتبة العالية والميزة المتقدمة لمن ملك نفسه فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليس الشَّديد بالصُّرَعَة، إنَّما الشَّديد الذي يملك نفسه عند الغضب “-13-

فكلما انفعلت النفس واشتد الأمر كان كظم الغيظ أعلى في الرتبة، قال عليه الصلاة والسلام: ا“لصرعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه، ويقشعر شعره فيصرع غضبه “-14-

– الدعاء كان من دعائه عليه الصلاة والسلام: “اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي، اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الإخلاص في الرضا والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى وأسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرّ ة ولا فتنة مضلّة الله زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين”. -15–

من رضى بقضاء ربه أرضاه الله بجمال قدره، ومن صفات الله تعالى أنه عفو يحب العفو ويحب من عبيده أن يتعبدوه به، ويعملوا بمقتضاه. وهذا المطلب في غاية الأهمية، فإن العفو يترتب عليه حسن الجزاء في دخول النّعيم المقيم. وموسم رمضان فرصة ذهبية لتوطين النفس وتدريبها على كظم الغيب والعفو عن الناس، لننال عفو الله وإنزال العطاء المرجو منه تعالى ألا وهو العتق من النيران.

 

 

 

1- آل عمران: الآيتان 133-134.

2- أخرجه الحاكم وصححه الألباني.

3- عبد السلام ياسين “تنوير المؤمنات” ج2 ص 49.

4- صححه الألباني في “صحيح الترغيب”.

5- الشورى: اية 39.

6- أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده (3/1195) رقم: (3108).

7- رواه الامام احمد.

8- رواه الإمام أحمد المسند وفي صحيح الجامع.

9- الراوي: أبو ذر الغفاري المحدث: الألباني -المصدر: صحيح أبي داود -الصفحة أو الرقم: 4782 خلاصة حكم المحدث: صحيح.

10- رواه البخاري فتح الباري.

11- صحيح الجامع.

12- رواه أبو داود وغيره، وحسنّه في صحيح الجامع.

13- رواه أبو داود وغيره، وحسنّه في صحيح الجامع.

14- رواه الإمام أحمد وحسنه في صحيح الجامع.

15- الإمام أحمد والنسائي وابن حبان والحاكم وابن أبي شيبة عن قيس بن عباد.