مقدمة
يقول صلى الله عليه وسلم: “من أحب أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أجله، فليصل رحمه” 1، وصلة الرحم مثراة في المال وسبب من أسباب سعة الأرزاق، وبركة في الأعمار معنى ومبنى. وأكّد الحبيب صلى الله عليه وسلم على معنى الصلة التي تحصل بها هذه البركة في حديث آخر فقال عليه الصلاة والسلام: “ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها” 2، حيث على المؤمن أن يكون عظيم الرغبة فيما عند الله، لا يشغله عن هذا الطلب كلمة قيلت هنا أو هناك، أو تصرف طاش عن الحق والصواب، فما زاد الله عبدا بعفو إلا عزّا كما أخبر بذلك الحبيب المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه.
رحم الأبوة وعظيم قدرها
وأعظم الرحم على الإطلاق رحم الأبوين: الأم والأب ثم الجد والجدة، فهم أصل الرحم، ثم يليهم كل الفروع من خالات وأخوال وعمات وأعمام وأولادهم. وما قدمت لصلة الرحم في المقدمة إلا لنضع العلاقة الخاصة بها وعلى رأسها العلاقة بالوالدين والأجداد في مكانها الصحيح من حياتنا وتصرفاتنا وأقوالنا وأفعالنا.
جعل الله من أكبر الكبائر عقوق الوالدين، حيث جعله مقرونا بالشرك به سبحان، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء: 36]. وقد تمارس كثير من مظاهر العقوق في الكلام والفعل في غفلة منا، ظنّا أن العقوق ما كان هجرانا كليا، أو كلاما نابيا، أو إغضابا لهما، أو تكبرا عليهما، أو التّأمّر عليهما، أو كان بيّن الفحش في التصرف والقول، وهذه أمور لا تخفى بيّنة عاقبتها، ومآلها غضب الرحمن تُجنى ثماره في الدنيا خسرانا وفي الآخرة بوارا.
لا أريد أن أطيل الحديث هنا عمّا هو بيّن واضح للعيان، فلا يحتاج إلى كثير كلام لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا كما قال الحق سبحانه، فإذا كان لصلة الرحم من الفضل والكرامة ما يعود على صاحبها بسعة الرزق والبركة في الأعمار ورضى الرحمن، فلا غرو أن يكون كل ذلك مضاعفا أضعافا كثيرة إذا كانت الصلة مع من هم أصل الصلة، ومع من فضّلهم الله تعالى وجعل لهم قدرا، وهم الوالدين والأجداد ما علوا، تكريما لمن جعلهم الله سبب الوجود ووعاء الكينونة والبروز، فهلّا وعينا وسمعنا وأطعنا.
همسة في أذن الأبناء
لا ننكر أن في مجتمعاتنا الإسلامية خير كثير؛ بِرّ وعطاء وبذل واحترام من الأبناء للآباء، إرث من جيل إلى جيل، وخير تفيض رحماته على الأسر والعائلات تماسكا ومحبّة، فيكبر الصغار تحت عين حكمة الكبار، ويأخذ المبتدئ من تجارب من خاض غمار الحياة، وتمر التجربة من جيل إلى جيل مرورا سلسا؛ أسّه المحبّة ورابطته التوقير للكبير والرحمة بالصغير، لكنني أريد أن أهمس في أذن الأبناء والشباب همسة تزيد من رونق العلاقة وتجعلها في أبهى صورها وأعظمها أجرا عند المولى عزّ وجلّ، خصوصا بعدما فرضه نمط الحياة المتغير المتجدد مع وسائل التواصل الاجتماعي الذي تغيرت معه كثير من عاداتنا وتقاليدنا وأفهامنا لما ينبغي أن يكون عليه الحال.
الانفتاح والحوار والحق في التعبير وبناء الشخصية القوية الجريئة وتنمية الذات… وغيرها من المفاهيم التي أصبحت محور المحتوى الرقمي، والتي كانت باسمها دعوات للأنانية والتخلي عن العلاقات السامة مهما كانت قرابتها، والجرأة في قول الحقيقة دون مراعاة لقواعد الآداب من الصغير للكبير ولا من الكبير للصغير، و في خضم هذه العجعجة الرقمية الطاغية اختلط الحق بالباطل وبدأت تطفو سلوكيات عند البعض غير محمودة العواقب لا على مستوى الأفراد ولا على مستوى المجتمع في إطار العلاقات العامة، وقد أشير هنا إلى العلاقة بالوالدين على وجه الخصوص، حيث أصبح كثير من الشباب لا يشعرون بأيّ امتنان لوالديهم وما يبذلون من جهد لإرضائهم وتوفير ما يحتاجونه فوق حاجتهم، على أساس أنّ ذلك من الواجبات ومن الحقوق المكتسبة، فلا يسمع الآباء من الأبناء كلمة شكر ولا كلمة امتنان تمحو من تعبهم في سبيل ما يبذلونه، ممّا يرهق الآباء على المستوى النفسي وحتى الجسدي في بعض الأحيان ليوفروا المزيد من طلبات الأبناء. وإن كان هذا عن الجانب المادي في العلاقة بين الأبناء و الآباء، فهناك ما هو أسوأ منه في الجانب المعنوي، فنجد الأبناء وقد يحاجّون الوالدين كلمة بكلمة وربّما بصوت أعلى من أصواتهم، وقد يغضبون ويقطعون حديثهم لأيام لا يعلم أثرها على قلب الوالدين إلا الله و خصوصا الأم، وقد تطلب الأم أو الأب طلبا أو قد ينصحون نصيحة، فلا يجدون الاهتمام المطلوب، بل قد يكون نصيبهم التجاوز بكل ما في الكلمة من معنى دون مراعاة شعورهم والأخذ بعين الاعتبار مكانتهم أو التفكير في إرضائهم بشكل أو بآخر، خصوصا عندما يصبح الأبناء شبابا وقد حققوا استقلاليتهم الشخصية والمادية، وهنا تأتي همستي في أذنهم: “وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ” أمر من الله سبحانه وتعالى الذي لا يقبل الذل لعباده إلا له سبحانه، لكنّه جعل الذل للوالدين من رحمته بهما، ذلا لن يزيدك إلا رفعة في الدنيا و الآخرة، ذلا تبصم به علاقة المحبة والاحترام والإكبار لمن تحملوا وصبروا وبذلوا حتى أصبحت رجلا وامرأة، ذلا تقابل به الكلمة التي لم تعجبك بابتسامة ملؤها القبول و”على رأسي وعيني”.
أيها الأحبة، أتدرون لماذا؟ لأن علاقة الوالدين بالأبناء علاقة خاصة، يرى فيها الآباء أنفسهم أكثر تجربة وأكبر سنا، وعندما يحرص الأبناء على إظهار عجزهم وعدم فهمهم خصوصا معهم، أو عندما تقابل نصائحهم أو عدم إشراكهم ولو في بعض الأمور الحياتية اليومية، فإنك تبلغ رسالة شديدة الوقع عليهم مفادها: لم نعد بحاجة إليكم، رسالة تجعلهم يعيشون الغربة ولو وسط الناس، غربة تبسط بساط الألم والحزن على القلب، وتمحو معالم السعادة التي ينبغي أن يعيشها الآباء مع أبنائهم وهم يحققون نجاحاتهم، هذه النجاحات التي لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن تعلو على الآباء مهما كانت، بل تظل بين أيديهم؛ يرون فيها جميل صنعهم وثمار تعبهم يقدمها الأبناء على طبق من الذل رحمة بهم وطاعة لربهم عز وجل الذي أمرهم بهذا الذل بين أيديهم، كل هذا لتبقى وشائج العلاقات مصونة قوية، وكلما احترم الأبناء الآباء قويت الصلة بهم فكان لمحابّهم من الإخوان والأخوات مكانة قوية في قلوب الأبناء، لتتقوى بها صلة الرحم والأواصر العائلية، وتبعا لها الاجتماعية دون شك.