وأقم الصلاة | 3 | واسجد واقترب

Cover Image for وأقم الصلاة | 3 | واسجد واقترب
نشر بتاريخ

اشتدت وطأة حصار المشركين من قريش على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، أبدانهم هزلت ووهنت، ومواجهتهم للظلم عظمت، وحماية أبي طالب للنبي الكريم بموته غابت، وحاضنته الوفية إلى الآخرة قد انتقلت، وأمانة الدعوة والتبليغ تنادي يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ (المدثر 1-2).

ففي شوال سنة عشر من النبوة 1 خرج عليه الصلاة والسلام إلى الطائف 2، سارها ماشيًا على قدميه جيئة وذهابًا، ومعه مولاه زيد بن حارثة، وكان كلما مر على قبيلة تأملهم برحمته المعهودة، ورأفته الممدودة، ورأى ما هم فيه من ضلال وتيه، وغفلة عن المآل والمصير، يدعوهم إلى هدي الإسلام، ونور الإيمان، لكن لم يجد منهم إلا الجفاء والصدود.

انتهى المسير بالمبعوث رحمةً للعالمين إلى الطائف، وكله أملٌ أن يجد منهم سندا، ورجاءٌ أن يكون منهم للحق مددا، فعمِد إلى ثلاثة إخوة من رؤساء ثقيف 3، وجلس إليهم ودعاهم إلى الله جل وعلا، لكن كانت أجوبتهم كالصاعقة المفاجئة على قلب محب منقذ رؤوف رحيم.

تعهد أولهم أن يَمْرُط (يمزق) ثوب الكعبة إن كان الله أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم.

 وقال الآخر‏:‏ أما وَجَدَ الله أحدًا غيرك.

وخاطبه الثالث‏:‏ والله لا أكلمك أبدًا، إن كنت رسولًا لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي أن أكلمك‏.‏

أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أهل الطائف عشرة أيام، لا يدع أحدًا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه… تلك، لعمري، همَّة الداعية أنَّى كان، رجاؤُه، لا حدود له، أن ينقذ الله به قوما ضالِّين من النار، لكن لسان مقالهم الجارح يردد: اخرج من أرضنا! وأغروا به سفهاءَهم وعبيدهم، يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، فوقفوا له سِمَاطَيْن ‏(أي صفين‏) وجعلوا يرمونه بالحجارة، وبكلمات من السَّفه، ورجموا عراقيبه (أواخر قدميه الشريفتين)، حتى اختضب نعلاه بالدماء‏.‏ وكان زيد بن حارثة يقيه بنفسه إلى أن أصابته شِجَاج (جراح) في رأسه.

يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما!

القدم الشريف تُدمي، والصاحب الوَفيُّ يحمي، ويد الظلم ألجأت سيد العالمين إلى حائط (بستان) لعتبة وشيبة ابني ربيعة فرجعوا عنه، وجلس الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى ظل حُبْلَة يلملم الجراح، يضرع إلى المولى بالدعاء المشهور: “‏اللهم إليك أشكو ضَعْف قُوَّتِى، وقلة حيلتى، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تَكِلُنى‏ !؟‏ إلى بعيد يَتَجَهَّمُنِى !؟‏ أم إلى عدو ملكته أمري‏ !؟‏ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سَخَطُك، لك العُتْبَى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك‏”‏‏.‏

إنه قلب سيِّد الدعاة وأسوتِهم، هدايةُ الناس تحتاج إلى قلب كبير، وصدر رحيم، يدفع بالتي هي أحسن، ويرجو حسن المآل للجميع إلا من أبى. لا يعرف اليأس إلى قلبه سبيلا، ولا يجد الملل إلى حركته مسلكا، يقينُه لا يتزعزع، وصدقه لا ينخرم.  

ويفتح الله قلب النصراني؛ عداس لنور الحق بعد أن سمع الله يذكر قبل الأكل من في الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: “إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد”، فقال له صلى الله عليه وسلم‏:‏ “‏من أي البلاد أنت‏؟‏ وما دينك‏؟‏” قال‏:‏ أنا نصراني من أهل نِينَوَى‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ “من قرية الرجل الصالح يونس بن مَتَّى”‏‏.‏ قال له‏:‏ وما يدريك ما يونس بن متى‏؟‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏”‏ذاك أخي، كان نبيًا وأنا نبي‏”، فأكبَّ عداسٌ على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويديه ورجليه يقبلها‏.‏..

ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق مكة بعد خروجه من الحائط كئيبًا محزونًا كسير القلب، صابرا محتسبا، يرجو للناس الفلاح، ويعاملونه بالقسوة والجفاء، فلما بلغ “قرن المنازل” بعث الله إليه جبريل عليه السلام ومعه ملَك الجبال، يستأمره أن يطبق الأخشبي 4 على أهل مكة‏، سألته عائشة رضي الله عنها ذات يوم: “هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد‏؟‏” قال عليه السلام‏: “‏لقيت من قومكِ ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة… فانطلقت، وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقَرْنِ الثعالب، (وهو المسمى بقَرْنِ المنازل)، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال‏:‏ إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم‏.‏ فناداني ملك الجبال، فسلم عليّ ثم قال‏: ‏“يا محمد، ذلك، فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ـ أي لفعلت، والأخشبان‏:‏ هما جبلا مكة‏:‏ أبو قُبَيْس والذي يقابله، وهو قُعَيْقِعَان ـ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئا‏” 5

لكن المصطفى الرحيم توجه بالدعاء إلى رب السموات والأرض أن يُخرج من أصلابهم من يوحد الله تعالى ويعبده ولا يعبدُ سِواه، ذلك هو رجاءُ كل داعية قاصد ممتد في الزمان إلى يوم القيامة.

فكانت الرحلة العظيمة ليلة الإسراء والمعراج، وكأني بالعناية الرحموتية تقول: يا أيها النبي الكريم، إذا حاصرك قوُمك وأنت تريد لهم الهداية، وقَلاَك أهلُك وأنت تريد لهم النجاة، فتعالى إلى السماوات العلى، لترى من آيات ربك الكبرى، ولتسمو في مقامات القرب العظيمة، فإنَّ هناك عطايا تنتظرك، ولمن تبعك ممن يشتغلون بدعوة الناس للخير مزايا ومطايا.

إنهم الدعاة الفعلة، إذا كَلُّوا لم يملوا، وإذا حزبتهم الهموم فزعوا إلىى الصلاة، حيث المناجاة واستمداد العون من الباري، إنها الهدية الربانية من المولى الكريم وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوٰةِۖ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ اِلَّا عَلَي اَ۬لْخَٰشِعِينَ [البقرة 44].

إنها في الأداء خمسٌ وفي الثواب خمسون.


[1] في أواخر مايو أو أوائل يونيو سنة 619 م.
[2] منطقة  تبعد عن مكة نحو ستين ميلًا (120 كلم).
[3] وهم عبد ياليل ومسعود وحبيب أبناء عمرو بن عمير الثقفي.
[4] نجبلين قرب مكة.
[5] ‏‏رواه البخاري.