مسيرة الأربعين في تاريخ العدل والإحسان
نظرات وثمرات -3-
“وأتممناها بعشر”.. في الذكرى العاشرة لرحيل الإمام المجدد عبد السلام ياسين
تحل الذكرى العاشرة لرحيل الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى، وتحل معها ذكريات تاريخ طويل من جهد العقل، وجهد البدن، وجهد الإرادة، لتبليغ كلمة الحق إلى عباد الحق، وإيصال صوت الدعوة الإسلامية إلى الإنسان كل الإنسان صافية ندية، صادحة قوية. في مسيرة ناصعة بَصمَت تاريخ المغرب الحديث والمعاصر، وقدمت نموذج رجل جمع العلم بالعمل، والفكر بالواقع، والتنظير بالتنزيل، ليبني منظومة فكرية متكاملة، وليؤسس تنظيما متماسكا يمتحان من مرجعية الإسلام بفهم متجدد، وعزم متوقد، وفعل رفيق متئد.
ولئن كانت حياة الإمام المجدد عبد السلام ياسين تطرح أمامنا جوانب عديدة وثرية للمقاربة والتناول والتحليل، فإن الذي يهمنا في هذا الجزء الثالث من سلسلة النظرات والثمرات التي تتأمل في مسيرة الأربعين في تاريخ العدل والإحسان، هو أن نقف عند معنى الجماعة عند الإمام عبد السلام ياسين.
من الفرد إلى الجماعة
“الجماعة” مفهوم مركزي وجوهري في دعوة الإسلام، بل هو مفهوم مؤصل وأساسي في ديننا الكريم، والخطاب بصيغة الجماعة مطرد يغطي القرآن والحديث النبوي، والعبادات التي إن تعلقت بذمة الفرد فهي عبادات جماعية: الصلاة جامعة في مسجد جامع، والصوم يُؤدّى في زمان واحد جامع، والحج يكون في جماعة في موسم محدد الزمان والمكان، والزكاة تؤدى ليعود نفعها على جماعة المستحقين، وصيغ الدعوة في خطاب الوحي غنية بالدعوة إلى الاجتماع ولزوم الجماعة، والتعاون والتآزر والتبادل والتعاضد وكل ما يدور في معجم الجمع والتجمع والفعل الجماعي. والدعوة الإسلامية روحها ولبها الحفاظ على لحمة الجماعة ووحدة الأمة، ومحاربة الفرقة والتشتت. وقد كان من الصنيع الأول للرسول صلى الله عليه وسلم أن بنى جماعة أرقمية كانت هي النواة الأولى لتأسيس الدعوة وبناء الدولة التي ستسود العالم قرونا مديدة بالرحمة والعلم والهداية الشاملة.
كان الإمام عبد السلام ياسين مفردا بصيغة الجمع، بل مجموعا في صيغة فرد بما حباه الله عز وجل من كفايات معرفية، وقدرات تدبيرية، ومؤهلات تواصلية، بل وبما أنعم الله به عليه من فضل الهداية والرعاية والحفظ والترقي الدائم في مسيرة الحياة بمختلف جوانبها. والدارس لهذه الحياة سيجد هذه التوليفة الجامعة في حياته بيّنة وظاهرة في كم المعارف التي اطلع عليها، وعدد اللغات التي أتقنها، وكم الإنجازات التي حققها، وآلاف الصفحات التي دبّجها. ولئن ابتدأ مسيرته فردا فإن هذا التهمم ببعد الجمع والجماعة سيكون منطلق الانقلاب الإيماني الذي سيحدث في شخصيته، وسيسكن روحه طيلة عقود طويلة من جهد بناء الذات وحمل هم بناء الأمة.
فهم معنى “الجماعة” مهم جدا في قراءة التحولات الفردية الذاتية التي وقعت للإمام؛ إذ كانت هناك حالة من الانشطار النفسي والروحي في ذات الإمام سماها بالأزمة الروحية، وكان معها وعي جامح بضرورة جمع شتيت هذه الذات، وهو الشيء الذي تحقق لما التقى بشيخه المربي وانضم للزاوية البودشيشية ليتصالح ما كان منشطرا في ذاته، وليتحقق له بفضل الصحبة هذا التوازن الذي يظل عزّ الطلب الذي ترنو إليه أصحاب الهمم العالية. وقد كان حريصا كل الحرص على جمع الناس على شيخه، وعلى توسيع دعوة الزاوية وعلى وحدتها، وحتى لما أراد الخروج من الزاوية وعزم على كتابة الرسالة الشهيرة للملك الحسن الثاني كان حريصا على ألا يلحق الأذى بجمع الزاوية فكتب رسالة المفاصلة والمباينة عنهم.
“الجماعة” في سياقات التأسيس
لقد سيطرت جذوة معنى “الجماعة” على فكر ووعي وإرادة الإمام عبد السلام ياسين، وقبل أن تدور بخلده فكرة تأسيس تجمع تنظيمي آخر ينضاف إلى جمع “الجماعات” الداعية للإسلام، كان همه الأكبر ألا يزيدَ انشقاق الصف الدعوي انشقاقا، ويضيف فيه ثلمات إلى ثلماته وخرومه المتكاثرة. ولربما كانت رسالة “الإسلام أو الطوفان” التجسيد الفكري الاقتراحي الذي طمح فيه مطمحا عاليا بما كان يرجوه من اجتماع الدعوة والدولة بيد القائد التائب توبة عمرية. ولئن انكشف بعد ذلك حجم التسلط والفساد العامين للحكم، وعظم التباين الكبير بين من كان ينتظر منهم العون والمدد، وأَفْهمت الأيام وعَلَّمت أن ذلك الطموح لم يكن إلا حلما أو أملا بعيد المنال، فإن هذا التوجه يجلي لنا الآن ونحن على مسافة زمنية كبيرة بيننا وبين الأحداث أن فكرة سلوك نهج دعوة رأس الدولة إلى التوبة وجمع أمر الأمة، من خلال عرض النموذج التاريخي لتوبة عمر بن عبد العزيز فكرة عبقرية ومحاولة جريئة بما فتحته من إمكانات التفكير في اختراق طبيعة النظام القائم، وتحويل دفة الحكم إلى اتجاه المجتمع بما يملكه الحكم من قوة وإمكانات الدولة، عوض تحويل المجتمع إلى دفة الحكم لما كان فيه المجتمع إذاك من تخلف وأمية وضعف وسيطرة الخوف والترهيب.
فشلت محاولة جمع الدعوة والدولة في يد الحاكم التائب قدرا مقدورا، لكن ما فترت جذوة وعي “الجماعة” لدى الإمام عبد السلام ياسين، فوجه جهده الجهيد بمعية ثلة قليلة ممن آمن بدعوته لتوحيد العاملين في حقل الدعوة من الصف الإسلامي، بل ولمخاطبة النخبة المثقفة ورجالات السياسة والفاعلين في الحقل الحزبي والمدني من أجل توحيد الكلمة وجمع الصف في كيان موحد. كان الآخرون منظمين في عمل سابق، وكان الإمام وصحبه أفرادا من غير رهط، وكانت لكل حساباته الخاصة ففشلت دعوة التوحيد والجمع بكلمة “اذهبوا وكُونُوا ثم تعالوا لنتحدث”. فذهب الإمام بمن معه ف”كانوا وكَوَّنُوا”.
لقد سلك الإمام عبد السلام ياسين مسلك الكتابة الإعلامية ليسمع صوت الدعوة الجماعية إلى الله، فأصدر مجلة سماها ب”الجماعة” تشوفا إلى جماعة المسلمين الأولى، وطمعا وطموحا وتطلعا إلى ما سيؤول إليه أمر المسلمين إذاك والآن وبعد الآن من إعادة معنى “الجماعة” إلى الصف المشتت المهزوم. وكانت المجلة طوال أعدادها المتتالية صرخات ملتاعة متهممة بقضايا جمع العاملين، أرادها الإمام أداة عمل وتعارف وتوعية ويقظة، وأرادها “الصوت المسموع
للإسلاميين”، فإننا -كما قال- لا ننسبها إلى أنفسنا إلا عنوانا للخدمة الواجبة علينا نحو قضية ليست قضية فرد أو أفراد أو جماعة معينين محصورين تحت العناوين التي تفرقنا، بل هي قضية كل من ينبض قلبه بالإيمان” ( مجلة الجماعة، العدد 1، 1979، ص 12 و 44). وكانت دعوة المجلة واضحة إلى تبني عمل إسلامي جماعي على أساس من الوضوح ونبذ السرية، وبناء على منهاج تربوي دعوي فكري نظري وعملي مجدد ومتجدد.
ولما لم تجد دعوة الإمام إلى جمع الصف صدى مجيبا، تم الاقتناع بضرورة بناء كيان يعرض تصورا جديدا وفهما متجددا للعمل الإسلامي في المغرب وفي العالم، فكانت الأسماء التي مثلت هذا الكيان من أسرة الجماعة إلى جمعية الجماعة الخيرية نابضة بدلالات الحرص على الجمع والتجميع، ليكون التنظيم المؤسس عند الإمام لبنة أخرى في صرح الهرم الإسلامي، وجهدا ينضاف إلى جهود، واجتهادا إلى جانب اجتهادات.
الجماعة في المنهاج النبوي
إذا كان اختيار اسم “العدل والإحسان” شعارا للكيان التنظيمي الجديد المؤسس توفيقا ربانيا بأن تكون هذه الآية الجامعة من سورة النحل اسما مميزا لجماعة ناشئة وسط تيارات متعددة ومختلفة المشارب، فإن الدلالات العميقة التي حَمَّلها اجتهاد الإمام عبد السلام ياسين لمفهومي العدل والإحسان كانت ثرية في عرض المشروع المجتمعي الذي يتقدم به الإمام في التنظير للربط بين الهم الفردي نهوضا للترقي في مدارج الدين، وبين الهم الجماعي لبناء لمجتمع العمران الأخوي، مع تجاوز التنظير إلى التنزيل ببناء جماعة تقدم نموذجا ماثلا تكون الملاذ الأخلاقي والسياسي للجموع العامة. وهنا نرى مرة أخرى هذا الفهم الجامع الذي يريد أن يخرج بالدين من تكايا القعود في الزوايا، إلى مضمار غشيان دنيا الناس لتبليغ دعوة الله إلى خلق الله. ومن زوايا الفردانية الضيقة إلى وسع التعاون الجماعي على بناء الأرضية العدلية التنموية التي تمكن من سماع صوت الفطرة المتجذرة.
لقد آمن الإمام بحاجة المسلمين الماسة والشديدة إلى توحيد الكلمة والفكر والخط والمنهاج، لذا ركز على ضرورة العمل الجماعي المنظم، واقتنع بضرورة التكتل البشري لنصرة دعوة الله عز وجل. بل لقد جعل من مزية جمع الجماعة والحفاظ على وحدتها مزية لا تعدلها مزية وخصلة مؤكدة لبناء مستقبل الإسلام، وأدرجها في السمات الحاسمة إلى جانب خصال الفتح ومعرفة وتقوى الله واتباع السنة التي يتحدد بها الشيخ المربي المؤهل للتربية والقيادة. وذهب إلى أنه لا جهاد إلا بجماعة منظمة، وجعل من مهام جند الله المتصدين للدعوة تأليف جماعة المسلمين القطرية وتربية رجالها وتنظيمهم، وتوحيد الأقطار الإسلامية.
ومما اعتنى الإمام عبد السلام ياسين ببيانه وبتركيزه في الفهم والوعي والإرادة والحركة، الحاجة إلى بلورة منهاج للعمل الجماعي يقوم على المستوى الفكري العقلي بتوحيد التصور، وعلى المستوى العملي التنزيلي بتوحيد الجهود وتوحيد السلوك، وذلك حتى لا يتشتت العمل الجماعي تحت دعاوي الاختلاف والتعدد الفكري، وبنى لذلك نواظم جامعة تؤسس للطاعة التنفيذية والالتزام النضالي وفق أصول التشاور والحوار وتدبير الاختلاف على أرضية المحبة في الله. كما اعتني هنا بأهمية بلورة اجتهاد جماعي يعيد النظر في معنى العلم ووظيفة العالم، ويعيد ترتيب العلوم بما يجعلها في خدمة النهوض الحضاري للأمة وللإنسانية جمعاء.
ولعل من المفاهيم المركزية التي شكلت بنية التصور المنهاجي عند الإمام عبد السلام ياسين، مفهوم الصحبة والجماعة، وهو مفهوم يعتبر أن “الصحبة في الله المؤدية إلى جماعة في الله هي مبدأ الحركة ووسطها ومعادها”، وقد جعل من الصحبة والجماعة الخصلة الأس التي عليها تنبني خصال شعب الإيمان بحيث تكون الصحبة المربية بابا لاندماج الفرد في الجماعة، واقتحامه العقبة إلى الجهاد الأكبر “جهاد النفس وسط الجماعة ومعها لهدف بنائها والصبر معها” للإعداد للمعنى الجماعي للجهاد المتعدد الأوجه. وهو بهذا المفهوم قد سعى إلى جمع ما تفرق في تاريخ الأمة الإسلامية بإعادة بناء الشخصية الإسلامية الوارثة الجامعة المنجمعة التي تمزقت بفعل تسلط حكم السيف، وآثار نحلة الغالب، وسعى إلى إعادة التوازن بين العقل والنقل والإرادة في تربية متوازنة متكاملة شمولية.
من الثمرات التي يمكننا استجلاؤها من هذا الذي قلناه أعلاه:
– إن من بين أهم ما طبع وبصم مسار الإمام عبد السلام ياسين هذا التهمم البالغ بمعاني “الجمع” و”الجماعة”، إن على المستوى الفردي جمعا للذات وتوليفا لها بين عقلها وقلبها وحركتها، وهذا كان له آثار بليغة في ترشيد فعل الالتزام الذي كان يقرن بالتشدد والتزمت في سلوك الأفراد. أو على المستوى الجماعي رصا للصف، وتوحيدا للتصور، وتوجيها لجهود المجموع نحو الفاعلية والفعالية. وهذا كان له آثاره الواضحة أيضا في بناء الرجال، وتجنب التمزق والتشتت والانحراف إلى العنف والغوغائية.
– لقد اقتضى الوعي بأهمية الجماعة والفعل الجماعي ووحدة الصف وجمع الجهود تاريخا طويلا من الصبر والتؤدة، وهو ما ينم عن الفهم العميق لجدلية الفكر والممارسة، وتجاذبات العلم والعمل، وتقاطبات التنظير والتنزيل، وهذا ما مكن من ترسيخ تصور علمي وعملي لمعنى التغيير الطويل النفس القائم على التربية الممتدة في الزمن لتحقيق الأهداف المطلوبة في تناغم يبني الإنسان ويشيد العمران، وتناسق يجمع الهم الفردي والهم الجماعي، ويربط الدينا بالآخرة من دون دروشة قاعدة، ولا فكر ثرثار، ولا حركية فارغة.
– لقد بث الإمام هذا التوجه نحو جمع الأمة قلبا وقالبا في الحركة الدعوية لجماعة العدل والإحسان، فنراها حريصة على الدعوة إلى الحوار، متشبثة بالتواصل مع الكل، داعية إلى ميثاق جماعي يضمن أرضية للالتقاء على المؤتلف الجامع بين مختلف التيارات، وإلى جبهة مجتمعية تؤدي إلى فعل مجتمعي لمحاربة الظلم والاستبداد والفساد، وإلى حلف إنساني جامع يحفظ المجال الحيوي للإنسانية كما يحفظ لها حقوقها في عوالم الجشع والفزع وقتل القيم.
وجامع الأمر عندي أن مفهوم “الجماعة” يستحق أن يكون بوابة من بين بوابات أخرى لمقاربة فكر الإمام عبد السلام ياسين تشكلا على مستوى المفهوم، وبناء على مستوى التأسيس، ومسارا على مستوى التنزيل، كما يمكن أن يكون منطلقا لقراءة تجربة جماعة العدل والإحسان في مدى تمثلها لمعاني الجمع والانجماع تنظيما وتربية وحضورا في الساحة السياسية.