قد تعود إلى دارك، لكن لا تشعر أنها دارك، تجول بنظرك في الزوايا المألوفة، فترى الغربة، تتوسد وسادتك، فتغيب عنك الطمأنينة، كأنك تُفتّش عن نفسك التي بقيت هناك؛ عند الحرم، في الروضة، بين دمعة وسجدة وهمسة دعاء.
تركت جسدك هناك، يطوف ويدعو ويناجي، وعدت، وشيء منك لا يزال معلّقًا بأستار الذكرى، كأن الأرواح تهمس: هل من رجعة؟ تتساءل: لماذا هذا الفراغ؟ الجواب في قلبك؛ لقد ذقت لذةً لا تُنسى، ورأيت نورًا لا يُطفأ، فلما ابتعدت عن المكان، بقي الحنين. ولأن القرب من الله صدق، إذا لامس القلب، لا يرضى بعده فتورًا.
لكن… تريّث واطمئن. فما أكرمك الله بالقرب ليحرمك بعده، وما أنزلك سكينةً هناك ليتركك تائهًا هنا، بل ليقول لك: “قد ذُقت لذة القرب، فاجعلها زادًا لما تبقّى من الطريق”، وربُّ المكان في كل مكان، ليس في مكة فقط، ولا عند الروضة فقط، بل في غرفتك، في سجادتك، في خلوتك مع الدعاء. رحمته لا تُقاس بالأميال، بل بالنية، وبالصدق في السعي.
ورسول الله ﷺ لم نودّعه، بل نحمله معنا في الأرواح والصلوات والسنن، من أحبّه بصدق، وسلّم عليه بإخلاص، فهو في القرب، ولو حال بينهما بعدُ الزمان أو المكان، فالروضة قد تسكنك، إن صدقت في المحبة والاتباع.
لا تظننّ أن الخير قد انقضى، بل هو مستمر؛ في كل سجدة ودمعة وذكر، وفي كل مجلس طيب، وصحبة صالحة، وفي كل نية تتجدد لتقول: “يا رب، لا تحرمني من القرب مرة أخرى”. الرهان ليس على ما فات، بل على ما هو آت، على الثبات، وعلى النية المجددة، على أن يكون بيتك روضة، ومجلسك طاعة، ويومك مليئًا بنفحات تلك الرحلة المباركة.
اجعل من الحنين وقودًا، ومن الذكر أنيسًا، ومن العمل طريقًا، وسِر، فالله لا يُخيّب راجيه، ولا يُحرم عبدًا ذاق القرب، وتعلّق به. فالرحلة لم تنتهِ بل بدأت، ومن صدق في الحب فله عودة، ومن طرق باب الكريم بقلبٍ مشتاق قيل له: “أهلاً بعودتك؛ فقد اشتاقت لك الرحمة”.
وإلى من لم يُكتب له الحج، أو لم يأذن له الله بعد، أو حال بينك وبين الطريق عذر أو ظرف؛ فلا تظنّ أن الله نسيك، بل نيتك بلغت، وصدقك سُطّر، ولك من الأجر ما شاء الكريم أن يهب، فربك أعدل من أن يُضيّع قلبًا صدق، وإن لم تطأ قدماه الديار.
ألا تسمع قوله ﷺ: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى” 1، فنيةٌ صادقة، تُكتب عند الله عملًا كاملًا، وإن لم يتحقق في الواقع.
وألا تقرأ في الحديث: “إذا مرض العبد أو سافر، كُتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا” 2، فإن منعك العذر، أو أعاقك الظرف، فأجرك محفوظ عند رب العدل.
أتعلم أن النبي ﷺ قال: “من صلى الغداة في جماعة، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة، تامة، تامة، تامة” 3، فقد يجعل الله لك حجًّا وأنت على سجادك، إذا صدقت العزيمة.
ويكفيك أن رسول الله ﷺ قال عن الذين حبستهم الأعذار: “لقد ترَكْتُمْ بالمدينةِ أقوامًا ما سرتُمْ مسيرًا ولا أنفقتُمْ من نفقةٍ ولا قطعتُمْ من وادٍ إلَّا وَهُم معَكُم. قالوا: يا رسولَ اللَّهِ وَكَيفَ يَكونونَ معَنا وَهُم بالمدينةِ؟ قالَ: حبسَهُمُ المرضُ” 4، فالله لا يُقصي من اشتاق، ولا يُقصّر في أجر من صَدَق.
وعلى هامش هذه الأرواح التي ذاقت القرب؛ تذكّر أن غزة ليست ببعيدة، وإن بَعُد المكان. هناك تُرفع الأكفّ في الخفاء، وتُسكب الدموع في السجود، وتُقام الليالي على وقع القصف. قلوب لا تزال ثابتة، تُحسن الظن بالله، وتوقن أن بعد العسر يُسرًا.
فلا تكن روحك في الروضة، وقلبك غافلًا عمّن يُطحنون تحت الحصار. وإن كانت رحلتك قد انتهت، فثَمّ قلوب هناك لم تبرح ساحة الصبر، فاجعل لهم من دعائك نصيبًا، ومن صدقتك برهانًا، ومن وفائك لهم عهدًا، فمن عاهد الله في مكة، لا ينسى المظلومين في غزة، ومن بلغه النور، وجب أن يكون شعلة لمن حُجبت عنهم الأنوار.
فلسطين تسكن من حمل همّها، وغزة تنبض في قلب من دعا لها وهو طائف، وفي دمع من تذكّرها وهو في السجود، وفي سكون الليل، حين يبوح المحبّ بسرّه لله، ويقول: “اللهم كن لإخواننا في غزة، عونًا ونصيرًا، وارفع عنهم البلاء، واحقن دماءهم، وانصرهم بما شئت، إنك على كل شيء قدير”.
[2] حديث العذر والمرض والسفر، الراوي: أبو موسى الأشعري | المحدث: البخاري | المصدر: صحيح البخاري | الصفحة أو الرقم: 2996.
[3] الراوي: أنس بن مالك | المحدث: الألباني | المصدر: صحيح الجامع | الصفحة أو الرقم: 6346 | التخريج: أخرجه الترمذي (586)، والبغوي في ((شرح السنة)) (710).
[4] الراوي: أنس بن مالك | المحدث: المنذري | المصدر: الترغيب والترهيب | الصفحة أو الرقم : 1/43 | التخريج: أخرجه البخاري (2839)، وأبو داود (2508) واللفظ له.