هل يؤثر “هولوكوست غزة” على سردية “إسرائيل” في الغرب؟

Cover Image for هل يؤثر “هولوكوست غزة” على سردية “إسرائيل” في الغرب؟
نشر بتاريخ

ترصد كثير من التقارير إرهاصات تحول في الرأي العام الغربي، وبداية تعاطف إنساني غير مسبوق مع الفلسطينيين وتشكيك في السردية الإسرائيلية، بل ويعتبر كثير من المهتمين هذا من بين المكاسب الاستراتيجية، التي حققتها القضية الفلسطينية بعد طوفان الأقصى، وما تلاه من عدوان صهيوني على الشعب الفلسطيني، اتصف بارتكابه لجرائم تصنف في القانون الدولي على أنها جرائم إبادة جماعية وجرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وهي جرائم تناقلتها وسائل الإعلام الغربية والمنظمات الإنسانية والإغاثية والإعلامية، بل ووثقتها مقررات محكمة العدل الدولية وتقارير لمنظمات أممية 1.

فما حقيقة هذا التحول؟ وما هي المؤشرات الإحصائية التي تدل عليه؟ وهل يمكن الرهان على الرأي العام في الغرب لإحداث تغييرات في المواقف الرسمية للدول والأنظمة؟ وهل الدعم السياسي والفكري لـ«إسرائيل» هو دعم رسمي أي من الحكومات الغربية والساسة فقط؟ أم أنه دعم شعبي له قاعدته الجماهيرية في صفوف الأمريكيين والرأي العام الغربي؟

إن الإجابة عن هذه الأسئلة/الرهانات في ظني لها أهميتها القصوى في استراتيجيات العمل لخدمة القضية الفلسطينية مستقبلا، فعلى ضوئها تتحدد مجالات الاشتغال وأساليبه، إذ أنه عوض الاشتغال باختراق الموقف الرسمي الأمريكي والغربي دبلوماسيا وسياسيا، ينبغي أن يتحول الاشتغال إلى العمل على توجيه المزاج والرأي العام الأمريكي والغربي كأولوية من الأولويات القصوى، خاصة في ظل هذا الانفجار الإعلامي الهائل غير المتحكم فيه وتجاوز معاقل الإعلام الكلاسيكي 2، وفي ضوء متغيرات ومستجدات عرفها العالم، للتعاطف مع عدالة القضية الفلسطينية ومظلومية الشعب الفلسطيني، وإعادة تشكيل الوعي الجمعي الغربي والأمريكي من جديد عبر إبداع استراتيجيات اختراق إعلامية وتواصلية ونفسية وإنسانية وحقوقية قادرة على إحداث هذا التغيير لصالح الحق الفلسطيني.

سنتوقف عند بعض استطلاعات الرأي التي تجريها مؤسسات -لها مصداقيتها العلمية على أية حال- لنكون صورة على المزاج الأمريكي العام عبر عقود، والتأثيرات التي يخضع لها في ظل التحولات الكبرى التي يشهدها العالم حاليا تواصليا وسياسيا واقتصاديا.

منذ شهر تقريبا نشرت صحيفة وول ستريت جورنال 3 واسعة الانتشار تقريرا خلاصته أن غالبية الأمريكيين يعتقدون أن «إسرائيل» تمادت في حربها ضد غزة، وهذا الحكم أكده الاستطلاع السنوي الذي أجرته المؤسسة، والذي أكد أن 58% من الأمريكيين فقط لا يزال لديهم رأي إيجابي تجاه «إسرائيل» بنسبة تراجع تفوق 10 % مقابل 68% صوتوا لدعمها العام الماضي و75% في عام 2021، وقد سجل انخفاض حاد خاصة بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18-34 عاما، حيث أظهر 38% منهم وجهة نظر إيجابية تجاه «إسرائيل»، مقارنة بـ 64% العام الماضي، وهذه نسب تراجع خطيرة تؤشر على تحولات في مزاج الرأي العام الأمريكي، وهو ما جعل بعض المراكز الإعلامية والسياسية والأكاديمية تحذر من ذلك كصحيفة “يديعوت أحرنوت” وشبكة سكاي نيوز 4

فلأول مرة تكشف استطلاعات الرأي التي تتم بشكل دوري منذ 1975 تقوم بها مؤسسة غالوب العريقة، وريثة “المعهد الأمريكي للرأي العام”، أن شعبية «إسرائيل» تتراجع، وهي التي كانت تسجل أن شعبيتها تزيد على شعبية الرؤساء الأميركيين، وأظهر آخر استطلاع أجرته المؤسسة في الفترة من 3 إلى 18 فبراير 2021 أن شعبية «إسرائيل» تبلغ 75%، وهي ثاني أعلى نسبة بعد نسبة 79% المسجلة في عام 1991 بعد حرب الخليج، وحسب استطلاع آخر أجرته شبكة “سي إن إن” (CNN)  بين 21 و25 من أبريل 2021 تفوق نسبة تأييد ««إسرائيل»» بين الأميركيين نسبة تأييد الرئيس “جو بايدن” حيث بلغت نسبة التأييد له ولسياساته 53% مقابل معارضة 43%، وفي آخر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة غالوب يقيم 85% من الجمهوريين ««إسرائيل»» بشكل إيجابي، مقارنة بـ77% بين المستقلين و64% بين الديمقراطيين. كما يتعاطف 80% من الجمهوريين مع الإسرائيليين أكثر من الفلسطينيين.

توضح هذه الإحصاءات مدى اختراق الفكر والسردية الصهيونية للمجتمع الأمريكي، وقد تكون هي نفسها أدوات للاختراق، غير أنها تعطينا مؤشرات حقيقية أو قريبة من الحقيقة، مما يدعونا إلى طرح السؤال عن الأسباب الأربعة الجامعة التي جعلناها آليات للتحليل 5، ألا يمكن تحييد ثلاثة عوامل منها على الأقل، نظرا للتغيرات التي شهدها العالم خلال العقدين الأخيرين، فتكلفة دعم «إسرائيل» صارت مكلفة جدا اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وإنسانيا وديموقراطيا لأمريكا، كما أن أمريكا والغرب استطاعوا إيجاد أنظمة رأسمالية مطبعة وحليفة في المنطقة، والحرب الباردة -صراع النفوذ- انتقلت من الشرق الأوسط والخليج إلى مناطق نفوذ أخرى في إفريقيا وآسيا، كما أن العالم بات يعرف انتقالا من التحالفات العقائدية والإيديولوجية إلى التحالفات الاقتصادية المالية، يضاف لهذا تغير هائل في منظومة القيم التي تنحو إلى التسامح والتعايش وتثمين حق الحياة خاصة في صفوف الشباب، فالتيارات الشبابية الطلابية خاصة اليسارية في الغرب صارت أكثر انفتاحا وقبولا بوجهة النظر الفلسطينية وروايتها للأحداث 6.

إننا أمام واقع جديد في أمريكا والغرب يتسم بانتشار المد الإسلامي والتحاق أجيال جديدة من العاملين للإسلام، وتزايد أعداد المجنسين من المسلمين والعرب من أبناء الجيل الثالث والرابع، وتنامي أعداد الأكاديميين والمراكز البحثية والهيئات المستقلة أو ذات الارتباطات العربية والإسلامية والحقوقية، وانتهاء فترة الرخاء المالي والاقتصادي بتوالي الأزمات الاقتصادية، وتذمر دافع الضرائب والتيارات الوطنية والبراغماتية من تكلفة الدعم لـ«إسرائيل» 7

هذا الواقع ينبغي أن يستثمر بشكل حكيم جدا، ويبدأ من تجنب الصدام في الخطاب وعوض مهاجمة «إسرائيل» والتركيز على طبيعة القضية السياسية فقط، يجب التسويق لمعاناة الشعب الفلسطيني والمآسي الإنسانية بشكل محترف ومهني وموحد ومنظم، ليكون العالم أمام سرديتين للمظلومية التاريخية، الهولكوست اليهودي مقابل الهولكوست الغزاوي.

من المشجع أن نعلم أن ودائع العرب والمسلمين تقدر بالملايير في أبناك الغرب، وأن ميزانية “أيباك” أقوى أذرع اللوبي الصهيوني لا تتعدى 50 مليون دولار سنويا، لنوقن أنه يمكن رفع التحدي إعلاميا وسياسيا، فبقليل من العمل المحترف، يمكن أن نقنع الغرب والأمريكان -خاصة الكاثوليك- أن دعمهم للصهاينة يكلفهم كثيرا من ميزانيتهم ومصالحهم وإنسانيتهم ومنظومة قيمهم، فالفضح الإعلامي للجرائم الصهيونية والهمجية والملاحقة القضائية ومحاصرة مجرمي الحرب في المنظمات والمحاكم الدولية 8، واختراق المؤسسات الأكاديمية ودعم الأكاديميين الغربيين الأحرار، سيساهم في تشكل وعي جديد على مدى جيل أو جيلين، وستساهم حماقات الصهاينة في تسريع الوتيرة، فالصهاينة وصلوا مرحلة من العلو الكبير والطغيان والغرور لا يقيمون وزنا للحلفاء أو الأعداء، ويستخفون بالإعلام والمنظمات الحقوقية والهيئات الدولية والرأي العام وحتى بحلفائهم، وهذه بداية النهاية، وقد كشف حادث اغتيال وتشييع الصحافية شيرين أبو عاقلة مؤخرا جزءا من هذه الحماقة 9.

لهذا ليس مستغربا أن نجد أصواتا ترتفع في الغرب وأمريكا ترفض العنف الصهيوني وتدينه وتدعو إلى حل عادل مثل السيناتور “بيرني ساندرز” والسيناتورة “إليزابيث وارين”، المعارضين للعنف “الإسرائيلي” والمطالبين بوقف الهجمات الإسرائيلية، وفيما بعد انضم إليهما أكثر من 25 نائبا من أعضاء مجلس النواب 10، وهي سابقة في السياسة الأمريكية، وبداية تحول ينبغي أن يرصد ويستثمر، فالساسة الأمريكيون في خدمة الناخب الأمريكي، والناخب الأمريكي تحدد أولوياته واهتمامه ومزاجه وسائل الإعلام، ووسائل الإعلام والتواصل والتأثير وصناعة الرأي وتوجيهه مملوكة لمؤسسات ذات ارتباطات أو ولاءات صهيونية 11، وهذه هي عناصر المعادلة التي ينبغي حلها، فالرهان على الإعلام ووسائل التأثير غير المتحكم فيها، هي الكلمة المفتاح، رغم مواقف بعض مواقع التواصل المتحاملة أو المنحازة كالفايس بوك وغيرها[12].


[1] كان آخرها استهداف سبعة من أعضاء منظمة المطبخ المركزي الدولي التي خلفت استياء عالميا جعل إسرائيل تعترف بشناعة الجريمة.
[2] فشلت وسائل إعلام عالمية مستقلة، مثل بي بي سي، في تحقيق توازن في التغطية فقد تم تثبيت خبر “مقتل 1400 إسرائيلي لمدة 23 يومًا متواصلًا في الشريط الإخباري لقناة بي بي سي، أي إن الخبر ذاته تكرر على الشاشة لأكثر من 552 ساعة متواصلة. وظل الخبر الرئيس في وقت تجاوزت أعداد ضحايا القصف الإسرائيلي 7000 مدني في غزة.
[3] أجرت مؤسسة يوغوف YouGov استطلاعًا للرأي أظهر أن نسبة 39٪ من الجيل الشاب (18-24 عامًا) تتعاطف مع الفلسطينيين مقابل 11٪ من الفئة فقط ذاتها تتعاطف مع الإسرائيليين.
[4] كشفت وسائل إعلام أميركية عن مذكرة لوزارة الخارجية تحذر إدارة بايدن من تراجع شعبية إسرائيل في العالم، وترى بان إسرائيل ترتكب “خطأ استراتيجيًا كبيرًا”.
[5] نرجع أسباب الدعم الغربي للحركة الصهيونية لأربعة أسباب: سياسية إيديولوجية اقتصادية نفسية.
[6] يلاحظ انخراط أكبر من اليهود في الحركة التضامنية نتيجة تنامي التيارات التقدمية داخل الجالية اليهودية، إضافة لموقف التيار الديني الأرثوذكسي المناهض للصهيونية في أمريكا.
[7] آخر دعم أمريكي تم إقراره تجاوز 37 مليار دولار من المساعدات.
[8] قرار محكمة العدل الدولية كان صدمة عالمية وصفعة لإسرائيل.
[9] هذا مقال كتب جله بعد اغتيال الصحافية شيرين أبو عاقلة، وكنا حينها نراهن على التحول أما الآن مع مجازر غزة الرهيبة فالرهان بات واقعا حقيقيا.
[10] يسجل تراجع التأييد الانتخابي العربي لبايدن من 59٪ إلى 17٪، وهو ما يمكن أن يكلفه خسارة ولاية رئيسية مثل ميتشغن Michigan ذات الفارق الضئيل بين الجمهوريين والديمقراطيين.، وفي بريطانيا؛ يعرف حزب العمال انقسامًا حادًّا أدى لاستقالة 8 وزراء من حكومة الظل بسبب تعنت قيادته برفض التصويت لصالح المطالبة بوقف إطلاق النار في غزة.
[11] وصل التحكم حتى إلى وسائط التواصل الاجتماعي على منصات عالمية مشهورة كالفايس بوك ولم يقتصر على وسائل التواصل الكلاسيكية.