هل تبدد الحلم بوفاة صلاح الدين؟

Cover Image for هل تبدد الحلم بوفاة صلاح الدين؟
نشر بتاريخ

كانت الخطوة المركزية في مشروع التحرير هي توحيد مصر والشام. وقد بدأت الخطوة في العهد النوري واستمرت مع صلاح الدين، وكانت هذه الاستراتيجية مستلهمة من الفتح الأول العمري ومن خطة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم تكن ثمرة تحرير بيت المقدس إلا نتيجة لجهد تراكمي طويل المدى بدأه عماد الدين زنكي وعمل على إنجاحه نور الدين زنكي وكان التتويج بالنصر حليف صلاح الدين الأيوبي. “كان فتح صلاح الدين لبيت المقدس نقطة فارقة في تاريخ المنطقة كما كان الفتح الأول. بل واستلهم صلاح الدين في كثير من أفعاله النموذج الأول للفتح. فقد كان فتحه كما كان فتح عمر، ثمرة لجهود من سبقه من القادة والعلماء. فلم يكن صلاح الدين من سار على درب تحرير بيت المقدس، فقد كان لأستاذه السلطان نور الدين محمود زنكي ووالده عماد الدين الفضل في رسم خطة استراتيجية للفتح. سيرا على ما بدأه العلماء كالإمام الهروي والسلمي وغيرهم. فاحتلال بيت المقدس كان له وقع وتأثير كبير على المسلمين” 1

وضع الدولة الأيوبية بعد وفاة السلطان صلاح الدين الأيوبي

بعد وفاة صلاح الدين الأيوبي عرفت الدولة الأيوبية شرخا وانكسارا في جسدها، إذ أن وصية صلاح الدين الأيوبي قضت أن يتم تقسيم مناطق الدولة الموحدة بين أبنائه وإخوته، وهذا قد تناقض مع المشروع الوحدوي الصلاحي للأمة، فقد حصلت نشوب وعداوات بين الإخوة والأبناء بسبب خوفهم على حكمهم، في مقابل المد الصليبي وتواجده في المنطقة الإسلامية ووعي الفرنجة بالموقع الاستراتيجي لمصر الذي يقوي جسد الأمة ويمنع التوغل الصليبي. ونتيجة لهذا تم سقوط مجموعة من المدن التي فتحها صلاح الدين الأيوبي.

الخلاف بين الأخوين

احتفظ الأفضل نور الدين الابن الأكبر بمناطق من الشام مثل دمشق وبيت المقدس والبلدان الساحلية.. وأخذ ابنه الثاني العزيز عثمان مصر حيث كان يتواجد بها، أما الظاهر غازي الابن الثالث فأخذ حلب وشمال الشام، في حين تم منح أخيه العادل إقطاعات ثانوية مثل الأردن والكرك والجزيرة العربية وديار بكر. وقد رفض العادل أخو صلاح الدين الأيوبي هذا التقسيم فطلب مبايعته لكن لم يقبل الكثير، بل وتخوف الذين نشأوا في المجتمع الصلاحي وتشربوا مشروع وحدة الأمة من النزاع والانشقاق. وقد كتب القاضي الفاضل للظاهر ملك حلب تعزية: “إن وقع اتفاق بينكم فما عدمتم شخصه الكريم، وإن كان غير ذلك فالمصائب المستقبلية، أهونها موته وهو الهول العظيم” 2

انزوى القاضي الفاضل على كتاباته بعد وفاة صلاح الدين الأيوبي رفيقه في الجهاد ووحدة التصور، وابتعد عن العالم السياسي، حيث أدرك أن الحلم تبدد بوفاة صلاح الدين، الحلم الذي كرس حياته لأجله. وانقسمت الأمة بسبب أطماع الأيوبيين. حاول الكتابة لهم للعدول عن أفعالهم، لكن بريق الحكم أعماهم.

كان للعادل أخو صلاح الدين الأيوبي يد في تأجج الصراع بين الإخوة الأفضل نور الدين والعزيز عثمان، إذ يذهب المؤرخون إلى أن الأفضل لم يكن يصلح للحكم بسبب سلوكه السيئ وقد أبعد جميع رجالات أبيه من أمراء ووزراء، فما كان لهم إلا أن يتوجهوا للعزيز عثمان، الذي اعتبره الأفضل تهديدا لموقعه، فالتجأ لعمه الذي كان ينتظر الفرصة للتدخل بين الإخوة وتشجيع هذا الصراع بينهم.

في يوم الإثنين 10 شوال 596/ 25 يوليو 1200 وحد العادل مصر والشام وأصبح جميع الأمراء الأيوبيين خاضعين لحكمه، لكنه بعد توحيده للأمة قام أيضا بتقسيمها مجددا وحصرها على أبنائه؛ الكامل محمد على مصر والمعظم عيسى على دمشق ثم الأشرف موسى على البلاد الشرقية.

الحملات الصليبية

الحملة الصليبية الرابعة

في سنة 1204 استهدفت الحملة الرابعة مصر نظرا لكونها مركز الثقل الإسلامي وقلبه، وقد قال عنها البابا ايمانويل إنه يجب قطع رأس العالم الإسلامي والرأس هو مصر (الجزيرة، الحروب الصليبية). إلا أنها انحرفت للقسطنطينية حيث يتواجد البيزنطيون وقاموا بسفك الدماء بدون رحمة عكس صلاح الدين الذي عفا عن المسيحيين وكان متسامحا معهم، بل وأنفق من ماله الخاص فدية لهم. وبالتالي تم إبراز دوافع الصليبيين من هذه الحملات للمجتمع الغربي والتي ليس لها أي علاقة بالدافع الديني. فقد “أكدت الحملة الصليبية الرابعة، كذب ادعاء الغرب الأوروبي، بأنه توجه إلى المشرق العربي، لإنقاذ قبر المسيح عليه السلام من المسيحيين، فقد دخل الفرنج (اللاتين) القسنطينية حيث البيزنطيين (اليونان) وأمعنوا في القتل والنهب والسرقة وحرق الدور والمنازل، ولم تسلم كنيسة آيا صوفيا نفسها من النهب والحرق…” 3.

الحملة الصليبية الخامسة

تأكد الفرنجة أنه لن يتم تحرير بيت المقدس عن طريق الشام بل عن طريق مصر، لذا دعا البابا اينوسنت الثالث لحملة جديدة للتعويض عن الفشل الذريع في الحملة الرابعة. عندما تم محاصرة دمياط وحاول الفرنجة الاستيلاء عليها قام الملك الكامل محمد بن العادل بتقديم عرض سخي للصليبيين وهو تقديم بيت المقدس وكل المنطقة التي تم تحريرها قبل معركة حطين لهم بدون أي مقابل.

تواترت الأحداث بين إرجاع بيت المقدس في قبضة المسلمين وأخذها مجددا من طرف الفرنجة بعد صلاح الدين الأيوبي بالرغم من ضعف الصليبيين بعد صلاح الدين الأيوبي ومقارنة تسامحه الإنساني مع طغيان الصليبيين وسفكهم الدماء وهروبهم – بعد انتصار المسلمين – بأموالهم وعدم الاكتراث لفقراء المسيحيين. كان السبب الرئيسي في ضعف الدولة الأيوبية هو النزاع والحروب الداخلية بين الإخوة خوفا على سلطانهم، بالإضافة إلى ظهور قوة جديدة معادية للدين هي المغول التي تحالفت مع الصليبيين وتكالبوا على المسلمين.

المماليك

ظهرت فئة جديدة اسمها داوية الإسلام عهد الملك الصالح نجم الدين الأيوبي الذي تكفل بهم وتم تربيتهم تربية دينية عسكرية.

وفي سنة 658ه/ 1260م قام المماليك في ظل حكم الصالح نجم الدين في معركة المنصورة بالقيام بكمين للصليبيين والانتصار عليهم وتم أسر الملك لويس التاسع الفرنسي، هذه المعركة أحيت قوة المسلمين من جديد.

لكن الخطر المغولي توغل واجتاح العالم، وسقطت بغداد مركز حكم الإسلام سنة 656ه/ 1258م. كانت الحرب المغولية امتدادا للحروب الصليبية، فقد تحالف المغول والصليبيون للإطاحة بالإسلام، وسقطت دمشق.. لكن سنة 658ه/ 1260م قام سيف الدين قطز بالقيام بصرخة للدين “واإسلاماه” وانتصر المماليك للدين في معركة جالوت وتغلبوا على الجيش الذي لا يقهر آنذاك. وهو ما أعطى شرعية ودعامة سياسية للدولة المملوكية بعد نهاية الدولة الأيوبية.

السلطان الظاهر بيبرس

حقق الظاهر بيبرس العديد من الانتصارات ضد الغزو الصليبي، بدءا بمشاركته في معركة المنصورة. وقد اتبع نهج صلاح الدين الأيوبي إذ أول خطوة قام بها هي ترتيب الصف الداخلي والقضاء على الانشقاقات والنزاعات الداخلية، وأعاد التخطيط للحلم. “تبين أن القائد الظاهر بيبرس بعد أن نجح في تأمين سلامة الجبهة الداخلية واستأصل الداء، وأزال الروع، قرر بعد أن وصل به السيل الزبى، بإقدامه على مهاجمة القوات الغازية وطردهم خارج بلاد الإسلام وتحرير الأرض من براثن الأعداء” 4. وقام بتحرير العديد من الأراضي بسبب حنكته وقوته العسكرية.

السلطان المنصور قلاوون

خلف المنصور قلاوون السلطنة بعد وفاة السلطان بيبرس، وكان هدفه هو استكمال رحلة الجهاد، واتبع نفس الخطة الاستراتيجية التي قام بها بيبرس؛ وهي تقوية أركان الدولة ثم التوجه للحد من المد الصليبي وطرد الفرنجة من عقر دار المسلمين. وقد حقق العديد من الانتصارات مثل الاستيلاء على طرابلس، تلتها العديد من المدن مثل بيروت وجبلة ولم يبقى للصليبيين سوى عكا مملكة مدينة بيت المقدس وصيدا وبعض المدن الصغيرة. ومن خلال خطواته الاستراتيجية يتبين أن همه كان عقيدته الإسلامية وما يمليه عليه دينه، لذا نجح في احتواء الخلافات والنزاعات التي كان من شأنها تأخير النصر الذي قام به في تحرير طرابلس والتخطيط لعكا.

السلطان الأشرف خليل بن قلاوون قطف الثمرة

كانت فكرة الجهاد فكرة محورية لا تتغير بتوالي السلاطين، فقد نجح بيبرس في ضرب 50 بالمئة من كيان الفرنجة، وقلاوون 40 بالمئة، وقطف الثمرة الأشرف خليل بن قلاوون بتحريره بيت المقدس وحقق حلم أسلافه. 

بالرغم من الخلافات التي حصلت بين الأمراء المماليك، غير أن موقفهم ومبدأهم لم يتغير بشأن الجهاد ومحاربة العدو، وكان هدفهم واحد هو طرد الغزاة من أرضهم. جمع العساكر من مصر والشام وانضم المطوعة للجهاد، ثم توجه نحو عكا وحاصرها حتى أصبحت في قبضته، وقد تعلم من الخطأ العسكري زمن صلاح الدين الأيوبي حول مدينة صور وموقعها الاستراتيجي، فقام بإرسال جنود لمحاصرتها ومنع الصليبيين الالتجاء إليها.

بعد تحرير عكا تساقطت المدن الواحدة تلو الأخرى وطرد الصليبيين من بلاد المسلمين، ثم توجه للمغول فهزمهم أشد هزيمة. وبهذا تحررت بلاد المسلمين بتظافر جهود دامت لعقود كبيرة وبالانطلاق من المبتدأ والمرتكز العقائدي الجهادي في سبيل الله وتحرير إرادتهم بالافتقار لله عز وجل لا خوفا على سلطانهم، وبتوحيد جسد الأمة لأنه هو السبيل والأداة التي تجعل من التحرير حقيقة وليس فقط حلما..

المراجع

– د. علي محمد الصلابي، صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس (بيروت، لبنان: دار المعرفة الطبعة الثانية 2008 م/1429ه).

– الدكتور خالد العويسي، تسليم بيت المقدس للسلطان صلاح الدين الايوبي سنة 1187م/583ه هل كان صلحا ام عنوة وتداعيات ذلك (مجلة دراسات بيت المقدس).

– قادة المماليك الثلاث (الظاهر بيبرس والمنصور قلاوون والأشرف خليل)، عبد السلام جمعة محمد أمين، كلية التربية/ جامعة التكريت.

– الفاطميون والزنكيون والأيوبيون والمماليك وصراعهم على السلطة في المشرق العربي، د سوزي حمود.

– القدس بين أطماع الصليبين وتفريط الملك الكامل الأيوبي، د إبراهيم ياسين الخطيب (عمان، الأردن: دار المناهج للنصر والتوزيع الكبعة الأولى 2001 م).


[1] تسليم بيت المقدس للسلطان صلاح الدين الأيوبي سنة 1187م/583ه هل كان صلحا أم عنوة وتداعيات ذلك، الدكتور خالد العويسي ص 6/7.
[2] القدس بين أطماع الصليبيين وتفريط الملك الكامل الأيوبي، د. إبراهيم ياسين الخطيب، ص 31-32.
[3] الفاطميون والزنكيون والأيوبيون والمماليك وصراعهم على السلطة في المشرق العربي، د. سوزي حمود، 62.
[4] قادة المماليك الثلاثة (الظاهر بيبرس والمنصور قلاوون والأشرف خليل)، عبد السلام جمعة محمد أمين، ص 209.