حرية فردية، حرية دينية، حرية سياسية، حرية تعبير… ليس عن كل هذه الحريات أتحدث.
من تكون أُمُّ الحرّيّات في نظرك؟ ما هي الحرية المطلقة التي بوسعها التحكم في باقي الحريات جميعِها؟
وماذا عنك أنت؟ أيُّ مفهوم للحرية يستوطنُ دواخلَك النفسية ويسيطرُ على حياتك اليومية؟ في أيِّ كون من أكوان الحرية تسبح؟
هل الحرية بالنسبة لك كثرةٌ في الأموال؟ أو في أن تكون رجلَ أعمال؟ أو في أن تفعلَ كلَّ ما يحلو لك من دون محاسبة ولا سؤال؟ …
هل من يحقُّ فيهم هذا الوصفُ يجدون فعلا طعم السعادة أو راحة البال؟
في الحقيقة، لا الأبحاث العلمية ولا التجربة الإنسانية استطاعت تأكيد هذا المقال.
فيا رب ما الجوابُ الشافي والدواءُ المنقذُ من الضلال؟
الجواب ليس صعب المنال، ولكن يحتاج منك أن تُغيّرَ زاوية النظر، وتستبدلَ بمنطقِ العقل البشري الناقص منطقَ الوحي المتصف بالكمال، وتسافر بنفسك وفهمك من عالم الأشياء والنِّسْبيّات والخيال، إلى عالم عِلمِ علاّم الغيوب الكبير المتعال، الحقّ الوكيل، ذي الإكرام والجلال.
في منطق هذا العالم الرباني، الحرية المطلقة هي:
أن تتحرر من عبودية مَنْ لا شيءَ بيدِه إلى عبادة مَنْ كلُّ شيءٍ بيده.
أن تتحرر من سجن الرغبات والشهوات النفسية الشيطانية إلى فضاء العنايات والرعايات الربانية الرحمانية.
أن تتحرر من نجاسة المحرمات وظُلمانيتها إلى بركة الطاعات ونورانيتها.
أن تتحرر من التعلق بالأسباب إلى التعلق برب الأسباب وخالق الأسباب ومُسَبِّب الأسباب.
أن تتحرر من الخوف والقلق والجزع والهلع المنبعثين من سوء الظن بالله والانقطاع عن حبل الله، إلى الطمأنينة والسكينة والسلام والانشراح المنبعثين من حسن الظن بالله والتوكل على الله واليقين في الله والاعتصام بحبل الله.
أن تتحرر من وهم “أنا كذا، وأنا أعلم كذا، وأنا سأفعل كذا…” إلى حقيقة “أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ”، وحقيقة “وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ”، وحقيقة “وَٱلَّذِی هُوَ یُطۡعِمُنِی وَیَسۡقِینِ * وَإِذَا مَرِضۡتُ فَهُوَ یَشۡفِینِ * وَٱلَّذِی یُمِیتُنِی ثُمَّ یُحۡیِینِ”.
أن تتحرر من أنانيةِ “أنا أريد” و”هذا مِلْكي أنا”… إلى عبودية “الله يُريد” وإنسانيةِ “وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ”.
أن تتحرر من ضيق عالم المادة والملموسات إلى سعة عالم الروح والمحسوسات.
أن تتحرر من العمى عن إدراك حقيقة أفعال الله إلى البصيرة المستمدَّة من نور الله.
أن تتحرر من النقص البشري الترابي إلى الكمال الإنساني السماوي…
إذا كنت تنعم بهذه الحرية النفسية المطلقة، فلا شك أنك تنعم بسعادة لا يُطيق تخيّلَها الملوكُ ولا وصفَها الأُدَباءُ ولا الإحاطةَ بها رُوّادُ العلوم الإنسانية… مقامُ السعادةِ هذا لا تنفع معه وصفات علم النفس العلماني، بل هو عطاءٌ إلهيٌّ يُسكَبُ في القلب سَكْباً بالرجوع إلى سَيّدِ العلوم: عِلمُ السّيْرِ إلى الله، علمُ السلوك الإحساني.