هديه ﷺ في رمضان

Cover Image for هديه ﷺ في رمضان
نشر بتاريخ

بقلم: عبدالعزيز حبذي

تقديم

إن الدَّارِس لسيرة الحبيب المصطفى ﷺ عند زيارة لبيت النبوة ليقف على أمر عظيم؛ ذلك أن حاله صلى الله عليه وسلم في رمضان ليس كحاله في غيره من الشهور، فقد كان يومه وليلته في هذا الشهر مليئاً بالطاعات والقربات، وذلك لعلمه بما لهذه الأيام والليالي من فضيلة ومكرمات خصها الله بها، وميزها عن سائر أيام العام، والنبي ﷺ وإن كان قد غُفِر له ما تقدم من ذنبه، إلا أنه أشد الأمة اجتهادا في عبادة ربه وقيامه بحقه وتقربا إليه بالفرض والنفل.

ولأن الصيام في أوقات الغفلة أشق على النفوس، ومن أسباب أفضلية الأعمال مشقتها على النفوس؛ لأن العمل إذا كثر المشاركون فيه سهُل، وإذا كثرت الغفلات شق ذلك على المتيقظين، قال صلى الله عليه وسلم: “العبادة في الهرْج كالهجرة إلي” 1.

 أولا: شرف الزمان

 أكرم الله تعالى عبده المسلم بمواسم للخيرات والمكرمات، وأعطاه من شرف الزمان ما يستطيع به أن يسرع في السير إلى مرضاته وطلب جناته، وأن يعوض ما فاته من تقصير في حياته، إذا وُفِّق لاستغلال هذه المواسم في الطاعات والعبادات والخيرات، ومن أهم هذه المواسم وأفضلها شهر رمضان. فعَن أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مُرْنِي بِعَمَلٍ، قَالَ: “عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا عِدْلَ لَهُ (لا يساويه شيء) 2.

فرمضان شهر خير وبركة، خصه الله تعالى دون غيره من الشهور بفضائل كثيرة، منها: أن الله عز وجل أنزل فيه القرآن هدىً للناس، قال الله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان (سورة البقرة، 185). وجعله سبحانه نورا ورحمة وشفاء للمؤمنين، وفرصة للبر والإحسان، وطلب المغفرة والعتق من النيران، وشهر الفتوحات والانتصارات للإسلام والمسلمين.

ثانيا: هديه صلى الله عليه وسلم في رمضان

النبي ﷺ في بيت زوجاته رضي الله عنهن:

كثيرا ما كان النبي ﷺ في بيته مع زوجاته في خدمتهن، بل كان يلاطفهن ويداعبهن حتى في رمضان، بل إنه ربما كان يقبل زوجاته وهو صائم، وهذا شيء خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم.. فإذا أذن للمغرب طلب من زوجاته أن يأتوا له بالفطور، فكان يفطر قبل أن يصلي المغرب، وكان يفطر على رطبات، فإن لم يجد فتمرات، فإن لم يجد حسا حسوات من ماء، فعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: ”كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يفطر على رطبات قبل أن يصلي فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات فإن لم تكن حسا حسوات من ماء” 3.

إفطاره وسحوره:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعَّجِّل الفطر، ويفطر على رطبات يأكلهن وِتْرا، فإن لم يجد فعلى تمرات، فإن لم يجد فحسوات من الماء، وكان يقول صلى الله عليه وسلم: “لا يزالُ النَّاسُ بخَيرٍ ما عجَّلوا الفِطرَ، عجِّلوا الفطرَ فإنَّ اليَهودَ يؤخِّرون”(رواه ابن ماجة).

وأما السحور فكان يؤخره حتى ما يكون بين سَحوره وبين صلاة الفجر إلا وقت يسير، وكان من هديه تأخير السحور والمواظبة عليه، وحث أمته على ذلك وعدم تركه، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تسحروا فإن في السحور بركة”، وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: “تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة، قلت: كم كان قدر ما بينهما؟ قال: خمسين آية” 4.

القرآن والصدقات:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، يكثر فيه من الصدقة والإحسان وتلاوة القرآن، وذلك لقول ابن عباس رضي الله عنهما: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة” 5، فدل هذا الحديث على زيادة جود النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان عن غيره من الأزمان، فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو أجود الناس، ولكن أعلى مراتب جوده كانت تظهر في رمضان” 6، ويحرص صلى الله عليه وسلم على الإكثار من قراءة القرآن وتدبره وفهم معانيه، فـ”القرآن! القرآن! القرآن! ما أروع أن يشد المؤمن والمؤمنة معاقد العزم ليحفظ القرآن ويجمعه ويحافظ عليه. ما أحسن أن يبسط المرء ساعد الجد والإرادة إلى كسل نفسه وغفلة حسه يخاطبها ويؤنبها ويدفع بها” 7.

صلاة قيام الليل:

لقيام الليل حظ من يوم رسول الله وليلته في رمضان، فقد قال صلى الله عليه وسلم: “مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ” 8، وكان صلى الله عليه وسلم يصلي إحدى عشرة ركعة، يطيل القراءة فيها جدا، كما ثبت من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة رضي الله عنها: “كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ فقالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة” (رواه مسلم في صحيحه).

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من قام فيه مع الإمام حتى ينصرف من صلاته كُتِب له قيام ليلة كاملة، لقوله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ” 9.

الاعتكـاف وليلة القدر:

كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان” (رواه مسلم)، وكان من أسباب اعتكافه صلى الله عليه وسلم طلب ليلة القدر، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان” (رواه البخاري)، فهي ليلة جعل الله العمل فيها خيراً من العمل ألف شهر، والمحروم من حُرِمَ خيرها، قال تعالى: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (سورة القدر: 3).

وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على الاجتهاد فيها بالطاعات، فعن أنس رضي الله عنه قال: دخل رمضان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرِمَها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم”  رواه ابن ماجه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه” رواه البخاري.

الأخلاق:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا، وقد قال الله تعالى عنه: ]وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ[ (سورة القلم: 4)، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من سوء الأخلاق بوجه عام، وخاصة في رمضان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الصيام جُنَّة، فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث، ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم”، وقال صلى الله عليه وسلم: “منْ لَمْ يَدَعْ -يترك- قَوْلَ الزُّور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه” 10.

أحداث وقعت في حياته صلى الله عليه وسلم في رمضان

– نزول الوحي: نزل القرآن الكريم على الرسول صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان، وجاء التصريح بذلك في قول الله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ (سورة البقرة: 185).

– وفاة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها: وذلك أيضاً في السنة العاشرة من المبعث وقبل الهجرة بنحو ثلاث سنين وهو المشهور.

– إرسال سرية حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه: وهي سرية سيف البحر التي وقعت في شهر رمضان من السنة الأولى للهجرة.

غزوة بدر الكبرى: حيث وقعت في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة في اليوم السابع عشر، وقتل فيها من صناديد الكفر أبو جهل عمرو بن هشام، وأمية بن خلف، والعاص بن هشام بن المغيرة، وغيّبوا في قليب بدر. وفي نفس الشهر من نفس السنة وفي اليوم الخامس والعشرين وبعد عودته صلى الله عليه وسلم من بدر مباشرة، كانت سرية قتل عصماء بنت مروان التي كانت ممن يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، وتعيب الإسلام وتحرض على النبي صلى الله عليه وسلم.

– وفي السنة الثالثة للهجرة في شهر رمضان تزوج النبي صلى الله علية وسلم بزينب بنت خزيمة بنت الحارث رضي الله عنها التي لقبت بأم المساكين.

– وفي رمضان من السنة السادسة للهجرة كانت سرية زيد بن حارثة إلى بني فزارة.

– ومن الأحداث الهامة التي غيرت وجه التاريخ والتي وقعت في رمضان من السنة الثامنة للهجرة فتح مكة، وكان خروج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة في العاشر من رمضان ودخل مكة لتسع عشرة ليلة خلت منه…

مسك الختام اتباع واقتداء

لا يسع المؤمن بعد زيارته لبيت النبوة إلا أن يعقد العزم للاتباع والاقتداء بالهدي النبوي الشريف ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رمضان. وحري بنا جميعا أيها المؤمنون أن نعرف لشهر رمضان حقه، وأن نقدره حق قدره، وأن نغتنم أيامه ولياليه حق اغتنام، عسى أن نفوز برضوان الله، ويكتب الله لنا السعادة في الدنيا والآخرة.. وما أحوجنا إلى الاقتداء بنبينا صلوات الله وسلامه عليه، والتأسي به في عبادته وحياته، فالعبد وإن لم ولن يبلغ مبلغه، فليقارب وليسدد، وليعلم أن النجاة في اتباعه، والفلاح في السير على طريقه، قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (سورة الأحزاب: 21).

ويرحم الله الإمام عبد السلام ياسين حيث توجه إلينا بلسان الناصح المشفق:

“عَلَى قَدَمِ الصِّدْقِ قِفْ وَاثْبُتِ ** وَفِي ثُلْثِ اللَّيْلِ قُمْ وَاقْنُتِ

لِسَانَكَ فَاحْفَظْ وَقُل طَيِّبًا ** مِنَ القَوْلِ أَوْ فَاحْتَشِمْ وَاسْكُتِ

وَكُنْ فِي السُّكُونِ وَفِي الحَرَكَاتِ ** مِثَالَ الفَتَى المُتَّقِي المُخْبِتِ” 11

والحمد لله رب العالمين.


[1] أخرجه الإمام الترمذي في صحيحه -واللفظ له- عن معقل بن يسار، (ح2201).
[2] أخرجه النسائي، كتاب الصيام، باب ذكر الاختلاف على محمد بن أبي يعقوب في حديث أبي أمامة في فضل الصائم، رقم: 2223، واللفظ له، قال الحافظ في الفتح: «سنده صحيح». وابن خزيمة، باب فضل الصيام وأنه لا عدل له من الأعمال 4/104، رقم: 1893. وابن حبان، كتاب الصوم، باب فضل الصوم، ذكر البيان بأن الصوم لا يعدله شيء من الطاعات، رقم: 3425، وهو حديث صحيح. وهذا الحديث ذكره الإمام عبد السلام ياسين -رحمه الله- في كتابه شعب الإيمان، ج2 – رقم 1983.
[3] أخرجه أبو داود (2356)، والترمذي (696).
[4] رواه الإمام مسلم في صحيحه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، ح 1097.
[5] رواه البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، ح6، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله.
[6] رواه الإمام مسلم في صحيحه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، ح1097.
[7] ياسين عبد السلام، (2001) الرسالة العلمية (ط. 1). وجدة: مطبوعات الهلال. ص. 11.
[8] رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، كتاب الإيمان – باب تطوع قيام الليل في رمضان .
[9] رواه الترمذي (ح 806) وصححه أبو داوود (ح 1375).
[10] رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، ح 1903 باب من لم يدع قول الزور والعمل به
[11] ياسين، عبد السلام (1992)، شذرات (ط. 1). فرنسا. ص. 48.