هديه ﷺ في إحياء ليلة القدر

Cover Image for هديه ﷺ في إحياء ليلة القدر
نشر بتاريخ

مقدمة

فضَّل الله عز وجل رمضان على سائر الشهور وفضل العشر الأواخر على غيرها، وجعل ليلة القدر خير من ألف شهر، هذه الخيرية ترجمها النبي صلى الله عليه وسلم عمليا وسلوكيا، فقد كان رمضان عنده شهر القرآن والإيمان، شهر الصيام والقيام، والجود والكرم.

ذلك أن حاله صلى الله عليه وسلم في رمضان ليس كحاله في غيره من الشهور، فقد كان يومه وليلته في هذا الشهر مليئاً بالطاعات والقربات، وذلك لعلمه بما لهذه الأيام والليالي من فضيلة ومكرمات خصها الله بها، وميزها عن سائر أيام العام، والنبي ﷺ وإن كان قد غُفِر له ما تقدم من ذنبه، إلا أنه أشدُّ الأمة اجتهادا في عبادة ربه وقيامه بحقه وتقربا إليه بالفرض والنفل.

فضل العشر الأواخر

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (رواه البخاري ومسلم).

إن فضل العشر الأواخر من رمضان تستمده من وجود ليلة القدر فيها، وليلة القدر تستمد فضلها من نزول الوحي فيها، وبما أن الوحي كلام الله عز وجل فقد تشرف به رمضان وتشرف به رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشرفت به أمته عليه الصلاة والسلام.

ليلة القدر أفضل ليالي السنة لقوله تعالى في سورة القدر: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) أي العمل فيها من الصلاة والتلاوة والذكر خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، والمحروم من حُرِمَ خيرها.

في هذه العشر الأواخر التقت السماء بالأرض في أول يوم نزل فيه الوحي، وما زالت تتصل كل سنة بالأرض حيث إن ملائكة السماء تتنزل في ليلة القدر وعلى رأسها سيدنا جبريل عليه الصلاة والسلام فتصافح المؤمنين، وهذه المصافحة تجعل المؤمنين يستمدون من الملائكة نورانيتهم.

بعض أحوال الصحابة وصالحي الأمة في هذه العشر

كان سيدنا عمر رضي الله عنه يصلِّي من اللَّيل ما شاء الله، حتَّى إذا كان نصف اللَّيل، أيْقظ أهله للصلاة، ثم يقول لهم: الصَّلاةَ الصَّلاة، ويتلو قوله عز وجل: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (طه، 132)، وقد كان للصالحين من سلف الأمة أحوال أخرى مع هذه العشر ، فقد ذكر الطبري أنهم كانوا يغتسلون في كل ليلة من لياليها، فكان يفعل ذلك أيوب السختياني، وكان يفعله الإمام مالك، فيما يرجح عنده أنه ليلة القدر، فيغتسل ويتطيب ويلبس حلة لا يلبسها إلى العام القادم من شهر رمضان.

الاعتكـاف وليلة القدر

الاعتكاف لغة هو لزوم الشيء وحبس النفس عليه، واصطلاحا  قطع العلائق عن كل الخلائق للاتصال بخدمة الخالق، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يعرِف عظمة مواسم الخيرات فيعترضها، أداء لواجب شكر ربه ”أفلا أكون عبدا شكورا؟“، وكان  صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ”أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان“ (رواه مسلم)، وكان من أسباب اعتكافه صلى الله عليه وسلم طلب ليلة القدر، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ”تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنْ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ” (متفق عليه واللفظ للبخاري).

وعَنْ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَقَالَ: «هِيَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِر؛ فَإِنَّهَا وَتْرٌ: لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، أَوْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، أَوْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، أَوْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ أَوْ آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، مَنْ قَامَهَا احْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».

نقرأ في السيرة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر الأواخر أحيى ليله وأيقظ أهله وشد مئزره وجد واجتهد، ففي الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: ”كَانَ النبي صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ  شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ“.

شدُّ المئزر كناية عن ابتعاده صلى الله عليه وسلم عن النساء طيلة العشر الأواخر أو كناية عن الحزم والجد والاجتهاد، بينما إحياء الليل تعبير دقيق يفيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزرع الحياة في الليل، وأمّا إيقاظ الأهل فدليل على رحمته صلى الله عليه وسلم بأن يشمل فضل هذه العشر أهله، وهي تذكير لنا ولأمته صلى الله عليه وسلم  بالاستعداد جميعا لهذه العطايا والمنن لأن المسلم لا ينبغي أن يكون أنانيا فيحتكر الخير لنفسه، إذن لابد لنا جميعا من أن نجعل أولادنا وأهالينا وأقاربنا يشاركوننا في هذه الغنيمة التماسا لفضل ليلة القدر التي جعل الله فضلها أثقل من ثلاث وثمانين سنة ونيف من العبادة، فلو وفقك الله لأن تشهدها فاعلم أنك فزت بصفقة مربحة مع الله، قد تموت ولا يزال ربحها يأتيك، خصوصا إذا شهدت ليلتي قدر أو ثلاث أو أكثر.

آداب الاعتكاف

آداب الاعتكاف نأخذها من مدلول الكلمة؛ فالعكوف لغة هو اللزوم، وهذا يعني أن يظل القلب عاكفا على ربه يعيش حالة تضرع ورغبة ورهبة وحياء وشوق إلى لقائه فلا يلتفت إلى ما سواه.

ما دام الإنسان صائما في هذه العشر الأواخر فليزكي صيامه بصيام الجوارح أيضا، فتصوم عيناه عن الملذات، وينقطع لسانه لذكر الله، وينصرف سمعه لتراتيل القراء، وتجود يداه بالكرم، فقد كان صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون في رمضان، ويلهج لسانه وقلبه بالدعاء تضرعا وخفية وخاصة في ليلة القدر، فعندما سألت السيدة عائشة رضي الله عنها  النبي صلى الله عليه وسلم عما تقول في ليلة القدر، قال لها:  قولي ”اللهم إنك عفوٌ كريمٌ تُحبُ العفوَ فاعفُ عني“، وفي هذا الدعاء إشارة ضمنية إلى كل الناس للعفو عن الناس ومسح القلوب من كل حقد وحسد تقربا إلى الله تعالى وتشربا لصفة العفو التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم لازمة ليلة القدر.

ولتحقيق هذه الآداب لابد من إزالة كل المشوشات، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضرب خيمة داخل المسجد حتى لا يرى شيئا يشغله عن ربه.

إذا كان السالك إلى الله قد قضى العشرين الفائتة من رمضان في ذكر وقراءة للقرآن وقيام فعليه في هذه العشر أن يضاعف جهده قدر المستطاع تسننا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم لأن العبرة بالخواتيم وأفضل الأعمال خواتيمها، ولزمه أيضا:

– استحضار النية الصالحة، واحتساب الأجر على الله.

– إدراك قيمة الحكمة من الاعتكاف، وهي الانقطاع للعبادة.

– عدم خروج المعتكف إلا للحاجة الضرورية.

– الحرص على الاستيقاظ من النوم قبل كل صلاة بوقت كافٍ، لأداء نوافلها ورواتبها.

– الإكثار من تلاوة القرآن الكريم وتدبر معانيه.

– الإكثار من ذكر الله تسبيحا وتهليلا واستغفارا.

– الإكثار من الصلاة على نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم.

– اللهج بالدعاء، والإلحاح على الله نصرة للمستضعفين في الأرض وانتقاما من الظالمين.

– التحقق من عدم ضياع حقوق واجبة من هذا الاعتكاف.

وفي هذه المناسبة الربانية الغالية، نختم بقطف من ديوان الإمام المرشد عبد السلام ياسين رحمة الله عليه:

 ليْلةَ القَدْر حَلَلْتِ بنا ** مرحباً يا ليلةَ القَدْرِ

أنتِ فينا رحمةٌ نزلَتْ ** أنتِ فينا غُرَّةُ الدَّهْرِ

برَكاتُ الله تَكْلَأُنا ** فيكِ حَتّى مطلَعِ الفَجْرِ

ليْلَةَ القُرآنِ طِيبِي لنا ** بتِلاواتٍ وبالذِّكْرِ

وَتَرَاويحَ تُجَمِّعُنا ** فِي مَحاريبَ لَنَا زُهْرِ

ربِّ نَوِّرْنا بلَيْلتِنا ** نوِّرِ القلْبَ مَدَى العُمْرِ

صل يا رب على المصطفى ** هُوَ مِنّا آيةُ الطُّهْرِ

نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لإحياء ليلة القدر والاعتكاف فيها.