نقمة القنابل

Cover Image for نقمة القنابل
نشر بتاريخ

توقفت الحافلة في الطريق وكانت لا تزال وسط المدينة، توقفت لتحمل أحد الركاب..، حينها تذكرت دعاء الركوب وبدأت أتمتم بكلماته طامعة في رحمة ربنا الكريم عله يكتب لنا الوصول إلى منازلنا سالمين..، السلامة طلب ملح في حافلات لا سلامة فيها ولا أمان، بعدما ضاعت الثقة فيمن حملوا على عواتقهم أمانات تهد الجبال، فاستهانوا بالأرواح فأزهقوا منها ما شاء الله، بدعوى الظروف: ظروف العمل، ظروف البيت، ظروف الطريق،…الرشوة …التعب… ؟، تتعدد الأسباب وتتهاوى معها معاول الاستهانة والبؤس والغضب وحتى التعب والنصب، لتنزل على رؤوس من استقلوا سفنا أرادوها أن توصلهم إلى المنازل، لكنها طارت بهم إلى منازل في السماء. الطريق أضحى في عيون الكثيرين رعب وترقب وسير نحو المجهول ..؟ بل هو في قرارة نفس البعض قنبلة لامبالاة واستهتار وحمق قابلة للانفجار في أية لحظة. تلفت يمينا أنظر من نافذة الحافلة المقفلة، لمحت هناك على الرصيف الآخر حيث قمامات كبيرة الحجم تنتظر شاحنة تفرغها من حمولة أثقلتها وأعيتها، لكنها قد تستهوي ذلك الشاب الذي يبحث بلهفة وسط تلك الأكوام عن لقمة تسد الرمق وتطفئ نار الجوع ولوعة الحرمان والتشرد والضياع، ضياع صحة وعقل. تقززت نفسي وأحسست بقشعريرة جفت معها دموع عيني، لكنها سرعان ما أطلقت عنانها وانفلتت من عقالها لتتخذ مجراها مستجيبة لعاطفة جياشة وحنو على شاب ينتقي لقمة عيش من القمامة ويحملها في اتجاه فمه المستعد لالتهام أي شيء، المهم أن يسكت آلام الجوع. ألهذا الحد يهان الإنسان؟ وتداس كرامة إنسان؟..، حينها تفقد الكلمة معناها والحياة طعمها، فيتحول الحرمان من اللقمة إلى نقمة، تشتد وتقسو فتتساوى معها الأضداد وتتشابه لديها الألوان، فتصير قاتمة حالكة سوداء كقطعة ليل مظلم، فترتفع نقمة الانسان المهان بأوجاعه وأحلامه ومآسيه إلى عالم قاتل-يتمنى أن يحيا فيه حياة أخرى أرغد وأنعم وأجمل- ليخلف وراءه ضحايا لا علم لهم بنية القاتل ولا بقصده، لكنه أخذهم معه دون أن يستأذنهم، فسلموا أنفسهم لقدر أرادهم أن يكونوا شهداء قنابل موقوتة، في سيارات أو في أحزمة ناسفة حولت أصحابها إلى أشلاء.

واصلت الحافلة رحلتها، لتصل بنا هذه المرة إلى بر الأمان سالمين، حينها حلت بأرواحنا السكينة والهدوء، وكما صعدت إلى الحافلة ها أنا أنزل، والليل قد أرخى السدول والبرد تصطك من قره الأسنان، وينفذ سمه إلى المفاصل والجنوب، ليتلقفني في الدرج الأخير من السلم أطفال ثلاثة، يمدون الأيادي رجاء في عطاء واستجداء لقلب يحن لحالهم ويرق فيسخو جودا وكرما. أو في هذا الوقت تستجدون !؟ ليل دامس وبرد قارس، وثياب مهلهلة ووجوه متسخة، اختلطت فيها زرقة القر بأصباغ الوسخ والمهانة واليتم والضياع والتشرد…، لم أكد أصل إلى براح المحطة حتى أسرع ثلاثتهم هاربين حين رأوا الشرطة، تألمت وتأوهت…؟ آه من لهذه الألغام !؟ من سيبطل مفعولها، ويزرع الأمل فيها، قبل أن تصرخ بأعلى صوتها في وجوهنا معلنة نقمتها القاتلة … !.