نقبل حجرا ونرجم حجرا

Cover Image for نقبل حجرا ونرجم حجرا
نشر بتاريخ

سبحان من خص الحجر بمعاني مختلفة وجمع فيه كل المتناقضات فالحجر الذي ضرب الله به المثل في الخشية والإنابة لما قال عز من قائل: ولو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله 1 هو نفس الحجر الذي شبه به المولى عز وجل القلوب القاسية المعرضة عن الحق المطبوع عليها حين قال: ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون. 2

وضيوف الرحمان الذين لبوا نداء ربهم وهرولوا إلى بيت الله لأداء فريضة الحج هم أيضا يجمعون بين نقيضين في الحجر وذلك حين يقبلون حجرا ويرجمون حجرا. وإن كان الحجر الذي يقبلون حجرا شريفا مكرما لأن من العلماء من ذهب إلى أنه ياقوتة من الجنة إلا أن فكرة تقبيل حجر ورجم حجر في شريعة تعبدية واحدة فيه من الدلالات والعبر ما يجعلنا نستفيد منه في حياتنا العملية حتى لا يكون تعبدنا طقوسا جوفاء نؤديها بكل جفاء، وحتى نبطل دعاوي المستشرقين الذين يزعمون أن الحج من بقايا الوثنية في الإسلام.

حقا إن معظم الأعمال التي يقوم بها المؤمن خلال أدائه لفريضة الحج هي من تعظيم شعائر الله وعليه أن يؤديها بكل إخلاص ويقين دون أن يماري فيها أو يجادل في كنهها وفي الغاية منها بل يكفيه أن رب العزة والجبروت قد افترضها عليه، لكن مع ذلك لا بأس من أن نستثمر روح تلك الشعائر في حياتنا حتى لا يقتصر الحاج أو الحاجة على أدائها هناك فقط بل يحمل معه معانيها لتبقى تلبيته للنداء مصاحبة له طيلة حياته إلى أن يلقى الله وهو عنه راض.

ومن ثم فإن الناظر إلى شعيرة تقبيل الحجر ورمي الجمرات تبدو له للوهلة الأولى على أنها أعمال تحمل من المتناقضات ما يحير العقول لكن البصير الذي يمعن النظر فيهما فإنه يكتشف من أسرارها الكثير ويستفيد من دلالاتها ويفيد العدد الغفير.

فالحجر الأسود مع علو شأنه ومكانته العالية فقد قال عنه سيدنا عمر رضي الله عنه وهو يقبله: والله إني لأعلم أنك حجرا لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) 3 لكن مع ذلك فإننا حين نقبله فإنا نعظم أمر الله ونرضخ لأوامره حتى ولو كانت عقولنا تأبى ذلك أو لا تعي المقصود منه. وبالتالي فمن ترسخ لديه هذا المعنى واستشعره في نفسه فإنه لن يجرؤ على انتهاك حرمات الله وسيمتثل لأوامر مولاه، لأن من رجح أمر ربه على منطق عقله فهو من باب أولى سيقدم طاعة الله على أهواء النفس الأمارة بالسوء. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الإنسان كلما تطورت معارفه إلا واكتشف الأسرار التي لم يدركها من قبل، فمن الباحثين اليوم في مجال الإعجاز العلمي من توصل إلى حقائق مذهلة حول هذا الحجر فعلموا أن مادته من أشباه الموصلات التي يتم بواسطتها اليوم صناعة وسائل الاتصال والحواسيب وشاشات التلفزيون وغير ذلك وبينوا كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال عن الحجر الأسود أنه يشهد لكل من زاره يوم القيامة لم يكن ينطق عن الهوى بل أن هذا الحجر فيه أداة التقاط وتسجيل قوية لا يعلمها إلا خالقه سبحانه وتعالى ولعل هذا ما جعل الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يبكي عند تقبيله ويقول: “يا عمر هنا تسكب العبرات” والله أعلم.

أما الحجر الذي يرجم والمتمثل في رمي الجمار فهو أيضا لإقامة ذكر الله كما أنه تدريب عملي لمخالفة الشيطان وشن الحرب عليه، وبالتالي ينبغي للحاج أن لا يوقف هذه الحرب حتى بعد عودته إلى دياره وأن لا يسالم أو يستسلم فإن العبرة من تكرار الرجم لسبع مرات يعلمه أن وسوسة الشيطان متتالية وتتطلب مواجهة وصد مستمر، فالشيطان لا يكل ولا يمل وأقسم أن يحاول إدخال أكبر عدد من الناس معه إلى جهنم فهو يبذل كل ما في وسعه ليحقق أمنيته، لكن من يتصدى له بقوة ويتمسك بحبل الله المتين فسيحظى بالمعية والمعونة الإلهية لقوله عز من قائل: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاويين 4

جعلني الله وإياكم أعزائي القراء من عباد الله المخلصين ونفع الله حجاجنا المؤمنين وتقبل الله منهم وبارك لهم في مناسكهم آمين آمين والحمد لله رب العالمين.


[1] سورة الحشر، الآية 21
[2] سورة البقرة، الآية 73
[3] رواه البخاري ومسلم
[4] سورة الصافات، الآية 109-111