أولا – توصيف وتشخيص
بعد حلقات فكر ونظر في قضايا الفن والجمال والذوق والأدب، نقفل عائدين إلى واقعنا الفني و”الثقافي”، حيث لا مفر؛ لا مفر من المواجهة، لا مفر من المعالجة.
اليوم، وصل “المنتوج الفني” إلى دركات ليس بعدها دركات من القبح والخلاعة وسوء “الأدب” ورداءة المنتوج واللامعنى. اختصارا، هذا مضمون كل المظاهر المحسوبة على الفن، وهي اليوم رائجة، لها فضاءات وتمويلات خيالية، وإعلام لم يترك حاضرة ولا بادية، ورموز غنائية وإعلامية دخلت القلوب واختلجت النفوس طوعا وكُرها.
الواقع اليوم أعمق من أن يقف عليه قلم، أو أن تحده هذه الصفحات القليلة.
إن ما أنتج هذا الركام من القبح والميوعة هي “ثقافة” أوهمت الإنسان ردحا من الزمان أنه مخلوق عبثي لا أصل ولا وصل، فهو ماض في تنفس هذه العبثية في كل مناحي حياته. وفي “فنه” وغنائه وموسيقاه تبرز الصورة أحلك وأقبح. إجمالا؛ من هنا يتضح التشخيص ويكتمل التوصيف: سوء “الأدب” و”الفن” مرده إلى خراب لحق بنية الإنسان القلبية والإحساسية والفكرية.
ثانيا – “ثقافة” وانتكاسة
حددنا “الثقافة” في الحلقة الأولى من هذه السلسلة بكونها الرمزي مما أنتجه البشر في يوميات عيشهم ونمط اجتماعهم)، وقلنا باختلاف المجتمعات “ثقافيا” وتفرد كل قوم بتقاليد وعادات لا نجدها عند الأقوام الأخرى؛ هذا التنوع تجلى في الإنتاجات الغنائية والفنية بشكل أوضح، وقد كانت هذه المظاهر تنم عن آدمية لبثت ميزة لنمط اجتماع الناس وحركتهم ويومياتهم. وهذا كله يدل على رقي وسمو عرفته “ثقافات” كثير من الأقوام السابقة.
اليوم، انقلب كل شيء، وتغير وابتذل؛ خلاعة تملأ كل فضاء، وسوء “أدب” صار لازمة كل إنتاج فني غنائي أو ثقافي، إلا من رحم ربك، ورموز إعلامية وغنائية تنافق الإنسان وتبتز جيبه وتسرق منه مشاعره وأحاسيسه.
هذه انتكاسة “الثقافة” اليوم؛ هذا الوعاء الذي حُشي بكل رذيلة واحتوش داخله كل شنيع، حتى بات القلب السليم ينفر ويضجر من مجرد التلفظ بها أو حتى سماعها.
“الثقافة” اليوم كساء وستار؛ كساء للبهيمية والإباحية، وستار تصاغ خلفه الشيطنات وترسل الوسوسات، وتصنع الخلفيات، ولأربابها تمويلات تفزع إذا وقفت على إحصائها أو مجرد سماع رقم من أرقامها.
“الثقافة” في حاضرنا سلاح حاسم في حرب البهيميين على الآدمية.
ثالثا – الفن للدعوة خادم أو هادم
كنا حددنا الفن بكونه تنسما للجمال؛ جمال تجل، وجمال كلي؛ أما التجلي فهو ما بثه الجميل ذو الأسماء الحسنى سبحانه في كونه الفسيح، والكلي هو ما ارتبط بذاته وصفاته وأسمائه جل وعز.
إن بحثنا هذا، أساسا، هو دعوة لربط الفن بالجمال الأزلي “الاستراتيجي” الممتد بين الدنيا والآخرة. إذا نجحنا في هذا الربط وأفلحنا في هذا الوصل ذي الأصل، وتجلت هذه المعاني فعلا فيما ننتج من فن وغناء وغير ذلك من الأجناس، نكون قد حسمنا إشكالية “الفن خادم أو هادم”.
في رأيي الفن في تطبيقاته ليست له حالة ثالثة؛ فإما أن يكون خادما الدعوة أو محاربا إياها مؤلبا ضدها. ليس بالضرورة أن يكون الفن مبلغا لمضامين الدعوة إلى الله تعالى بشكل مباشر؛ إنما حسبنا، مؤقتا، أن يبلغ رسالته الأساسية وهي رسالة الجمال والآدمية.
إنه انتصار مهم في طريقنا الذي نسلكه بغية الوصول إلى إنسان مكتمل الإنسانية؛ إنسان يكون مستعدا مهيأ معدا لقبول رسالة مضمونها: يا إنسان إنك لم تخلق لهذه الدنيئة، وإنما خلقت للآخرة ونعيمها ودرجاتها.
يجب أن يكون الفن، بمختلف أجناسه وتفريعاته، والآلة “الثقافية”، تدرجا بنفوس أشربت اللهو والعبث، تدرجا نحو أفق يكون مضمونه مستمدا من كلام الله تعالى، من قرآنه المعجز بحسن سبكه، وجزالة لفظه، ولطف إيقاعه، وعمق معانيه، وعجائبه التي لا تنقضي.