ثالوث الهندسة التعليمية
“الهندسة التعليمية” هي العمليات الضرورية التي تجعل المشروع الإصلاحي قابلا للتنفيذ، تقوم على التخطيط وتحديد الهيكل العام والخاص لكل مهمة ينبغي القيام بها من قبل مهندسي الإصلاح وخبرائه، هي التي تحدد وتقرر طبيعة مكونات المنهاج وطريقة التنظيم والتقديم للمتعلمين في قاعات الدرس ثم التقييم في إطار توجهات السياسة التربوية.
إن النموذج النسقي للهندسة التعليمية يفرض الإجابة عن أسئلة شاملة كطبيعة المجتمع المغربي والإنسان والحياة والمحتوى المعرفي للتلاميذ والقيم السائدة والتأثيرات السوسيو اقتصادية التي تحدد التفاعلات والتعالقات بين الهندسات.
هناك ثالوث أساسي للإصلاح التعليمي يشمل الهندسة البشرية، الهندسة اللغوية، الهندسة البيداغوجية، وللترتيب دلالة الأولوية، وبـ”البنينة النسقية” لا يمكن مقاربة هندسة باستقلال عن الأخرى، فما هي “البرازخ التعليمية” والتقاطعات التي تجعل النظرة شمولية بعيدا عن المنطق الاختزالي والمقاربات التجزيئية؟
الهندسة البشرية
ترتبط “الهندسة البشرية” بما وصلت إليه الأبحاث خاصة في علم البيولوجيا، كقيمة مهيمنة للعصر الحديث، أما المعلوميات فهي آلية لخدمة التخصصات الدقيقة والعامة. إننا بحاجة إلى فهم الإنسان، معلم ومتعلم، وطريقة تفكيره من خلال فهم عمل الدماغ، البوابة الأساسية لذلك، فكل ما يحدث في العالم هو انطباع للتفكير الدماغي على الواقع. تقوم الأبحاث العصبية والنفسية في مراكز البحث العالمية على فك أنسجة الدماغ كأهم تركيب في الكون، لتكتشف عن العمق المخيف المتحكم في تصرفاتنا، فقد أشار (هوارد جاردنر) في كتابه (أطر العقل)، أن العمليات المنطقية والرياضية واللغوية لا تمثل إلا بوابة صغيرة من فهم الذكاء الإنساني، المتعدد الأبواب ولا يمكن تطويقه في اختبار.
ومع تطور الكمبيوتر، تسعى أبحاث إلى إمكانية دمج الخلايا العصبية (النورونات Neurons) مع رقائق الكمبيوتر Chips. كما فعل “بيتر فروم هيرتس” في معهد (ماكس بلانك) للكيمياء الحيوية حيث زرع خلايا عصبية من دماغ (الحلزون) على شريحة كمبيوتر. ونفس الشيء فعله “إكسيل لوركه” في معهد علوم النانوغرام (العلوم فائقة الدقة) في جامعة ميونيخ في ألمانيا من زرع عشرات الخلايا العصبية من أدمغة (الجرذان) على الشرائح الكمبيوترية. ولعل أنجحها ما فعله “ويليام ديتو” في (المعهد التكنولوجي في جورجيا) حيث قام بوصل خلايا حيوان العلق العصبية مع رقائق الكمبيوتر، وقام بدراسة الظاهرة على الشاشة، فلاحظ قدرة الوصلة الجديدة في عمليات حسابية بسيطة.
نأتي بهذه الأمثلة العلمية للتأكيد أن تجربة الشحن بالمعلومات لا تكون التلميذ، فحشو الذهن لا يمنح فرصة التكوين الذاتي وتنمية المهارات الإبداعية، فمعرفة “طريقة التفكير” تعلم أهم من إعطاء الأفكار، فعوض أن نعطي التلميذ الأفكار نعلمه كيف يفكر، عوض “فيم يفكر”، وهذا الطرح متضمن في “مبدأ التخفيف” الذي نادى به الميثاق الوطني للتربية والتكوين، أي اختزال المقررات الدراسية وإزالة المعلومات التي تفقده القدرة على التعبير عن احتياجاته، وتأسر ذهنه ووجدانه ومواقفه، وهذا ما يتنافى مع “مشروع المواطن” الإيجابي لا السلبي الذي تنادي به التقارير.
إذا نحن أمام مجال لم نحط به علما ولم نفكك شفراته وجيناته التي تكون اللغة والعمليات الرياضية وطرق التفكير. والسؤال كيف يعمل الدماغ تحديداً؟ وما هي الكيمياء التي تفرغ في دماغ التلميذ ورجل التعليم؟ وما العلاقة بين تفكير الدماغ وتغيير السلوك؟ أي ما هي طريقة “البنينة” التي تمنحنا “براديغما” خاصا بنا؟
الهندسة اللغوية
الهندسة اللّغوية، أو الهندسة اللّسانية، أو المعلوماتيّة الألسنيّة، هي الجمع بين علمين: علم اللسانيّات وعلم الحاسوب، وذلك من خلال المعالجة الآليّة للّغات الحيّة.
ويشمل هذا العلم العديد من المجالات كالتعليم المتقدم للّغات، والأبحاث المتعلقة بعلوم اللغة، ووسائل الاتصال البصريّة والسمعيّة الرقميّة وغير الرقمية.
يجمع الفاعلون التربويون أن أهم الإشكالات المطروحة داخل المنظومة التعليمية هي “إشكالية لغة التدريس” و”تدريس اللغات”، في غياب سياسة لغوية واضحة المعالم وتحصيل هزيل لدى التلاميذ، وفشل سياسة التعريب، وعدم التنسيق في لغة تدريس المواد العلمية، و”الشتات اللغوي” في تعلم اللغات، والتواصل بين التعليم الثانوي والجامعي.
وتجمع التقارير على ضرورة مراجعة المسألة اللغوية من خلال أبعادها البيداغوجية والديداكتيكية بفتح حوار وطني حول لغة التدريس وتدريس اللغات وإقرار سياسة لغوية لحماية اللغات الوطنية ومختلف التعبيرات الثقافية المغربية، والانفتاح على الثقافات والحضارات الإنسانية، وإحداث مجلس وطني للغات والثقافة المغربية.
وتفيد التقارير أن تلامذتنا غير متمكنين، بما فيه الكفاية، من اللغات وسبب ذلك:
ـ التنوع اللغوي للتلاميذ المغاربة (اللغة الأم، لغة الدراسة، لغة الاقتصاد والإعلام والتكنولوجيا).
ـ ضعف إجرائية طرائق تدريس اللغات ومحدودية استعمال اللغة العربية خارج الفصل الدراسي والأنشطة المدرسية.
ـ افتقار المنظومة التربوية إلى أدوات تمكن من التحكم في الكفايات اللغوية.
إن رصد هذه الأسباب يبدو تقنيا، حيث يتم القفز على الأسباب الحقيقية والهروب إلى الأمام، والاشتغال بالمظاهر والشكليات لتصبح اللغة “موضة العصر” وإتقان لغة أجنبية على صعيد محدود “حظوة اجتماعية”، ودسترة اللغة حبر على ورق.
إن المسألة اللغوية واختلالاتها وانحباس الأفق رهين بالمسار الديمقراطي المتعثر الذي لم يستطع خلق توافق مجتمعي حول اختياراتنا وتعدديتنا الثقافية، فلا تنمية اقتصادية بدون تنمية لغوية، ولا تنمية محلية بلغة أجنبية، وأي تخلف اقتصادي أو اجتماعي هو نموذج للتخلف اللغوي، يعبر عن الانفصام بين الإنسان ولغته، فوراء كل مشروع تنموي حياة لغوية، ووراء كل مشكل واقعي مسألة لغوية.
إن التمكن اللغوي سابق على التمكن المعرفي، وهو تهيئ لاستيعاب المفاهيم العلمية دون “إعاقة لغوية”، فبقدر تمكن المتعلم من لغة بقدر ما ينجح في المادة العلمية بهذه اللغة.
إن “السيادة اللغوية” أو”الأمن اللغوي” أو”التماسك اللغوي” ليس ضد الانفتاح، بل الانفتاح المتعدد للغات سيطرح التنافسية وسيزيل احتكار الفرنسية وتسييجها للواقع المغربي، والاقتصاديون، ورجال الأعمال خاصة، يعرفون كم تضيع علينا الفرنسية من الأسواق الأنجلوساكسونية. لسنا ضد التعددية اللغوية بل العكس هي تقوي من اللغة الرسمية وتفتح آفاقا للبحث والاستفادة من تجارب الآخرين.
الهندسة البيداغوجية
في تقرير ملخص اللقاءات التشاورية بين أبريل ويوليوز 2014، وفي إطار تشخيص مشاكل الهندسة البيداغوجية، يخلص الفاعلون إلى وجود كثرة المقاربات البيداغوجية وتنوعها واستيراد النماذج البيداغوجية من الخارج والبحث عن التغيير السريع في المناهج التعليمية مما يخلق ارتباكا في الرؤية، ثم سيادة المقاربة التقليدية في التدريس، وعدم وضوح المضامين العلمية والتربوية.
وترى هذه المشاورات ضرورة استحضار الواقع المغربي وعدم استيراد المقاربات المتجاوزة نظريا وعمليا وتوحيد وتطوير المقاربة البيداغوجية من أجل تجاوز سكونية البرامج والمناهج والانطلاق من دراسات ميدانية وإشراك خبراء وفاعلين تربويين ومدرسين مغاربة في أفق بلورة نموذج تربوي مغربي أصيل.
ثم ضرورة تحسيس الآباء والأمهات بجميع مستجدات المناهج التدريسية والكتب المدرسية وترك المجال للأساتذة، في إطار المرونة البيداغوجية، لاعتماد المقاربة المناسبة التي تلائم طبيعة كل مادة وكل درس على حدة.
ويعتبر “تطوير المقاربة البيداغوجية” من مشاريع البرنامج الاستراتيجي 2013 2016، وذلك بتحسين “جودة التعلمات”، والتحكم في محددات “النموذج البيداغوجي”، ووضع آليات لتحيين الكتب المدرسية، وتقوية تعلم اللغات والعلوم والتقنيات الرياضية، وتطوير آليات الإبداع والبحث البيداغوجي.
وفي إطار ما يسمى بمشروع “الفعل البيداغوجي” يهدف البرنامج الاستراتيجي إلى: تطوير آليات تقويم المكتسبات، وبنيات ونظام التوجيه والإعلام، ووضع سياسة وطنية في مادة تقويم التعلمات.
ويأتي مشروع “تطوير التسيير البيداغوجي” الذي يهدف إلى: تطوير “الانجاز البيداغوجي” والإداري للمدرسة وتقوية استقلاليتها بدعمها وملازمتها في البلورة والتتبع لمشروعها وتقوية كفاءات المدراء والمسيرين للمؤسسات، ووضع آليات وإجراءات الاختيار والتقويم، ووضع رهن إشارة المؤسسات موارد القرب والدعم المنهجي والمادي.
إن التقارير تشخص الإشكالات وتحدد الأهداف وتغير البرامج وتقوم بالتداريب والتكوين، ولكن العجلة لا تدور، فالمشكل ليس تقنيا، إنه في “الهندسة البشرية”، في طريقة التفكير و”البنينة” للدماغ، ومعرفة “الاحتياجات التربوية”، بعدها لن يكون المشكل لا في اللغة ولا البيداغوجية، آنذاك سنتعلم اللغات التي نريد.
من أجل هندسة نسقية
إن الهندسة اللغوية لا يمكن فصلها عن موازين القوى المجتمعية، فالانجليزية كسبت الرهان بفضل الآلة الاقتصادية والإنتاج العلمي والتقني والاكتساح الإعلامي الأمريكي (الاستثمار في هندسة اللغة وصناعتها تجاوز اليوم 25 مليار دولار)، ولا نتحدث عن الواقع التعليمي المغربي الذي يربط اللغة الفرنسية بمنطق “غنيمة الحرب” وبالمصالح الفرنكفونية.
إن إشكالية التحكم في اللغة من أهم نقائص التحصيل البيداغوجي ومن معيقات “الهندسة البيداغوجية” و”البشرية”، فهي لا تؤثر على التلميذ فحسب، بل على المحيط الاقتصادي والاجتماعي.
فالتحكم في الكفاية اللغوية هو أساس تنمية كل الكفايات اللازمة للتعلم، وهي الحاسمة في الارتقاء الدراسي وفي مسار الحياة ككل.
إن ضعف الكفاءة اللغوية يؤدي إلى ضعف الحوافز التعلمية، وعدم التفاعل مع المناهج الدراسية، وبذلك تضيع جهود الدولة في تمويل البرامج اللغوية والدراسات التقنية.
إن احتكار الكفاءة اللغوية هو احتكار للامتيازات الاقتصادية و السياسية.
إذا كانت اللغة هي الرابط بين البيداغوجيات واللسانيات، فالبيداغوجي يبحث عن الطرق لتدريس اللغة وتبسيط كفاياتها، واللساني يشتغل على اللغة كنسق لتحقيق التواصل الاجتماعي، فكيف يمكن للسانيات، بمختلف تخصصاتها، أن تساهم في المشروع الإصلاحي ضمن ما يسمى ب”اللسانيات التربوية”؟
إن الحديث عن ثالوث الهندسات يرتبط بالحديث عن إصلاحها، “الإصلاح البشري”، “الإصلاح اللغوي”، و”الإصلاح البيداغوجي”، ولا يمكن الفصل بينها.