نداء الرحم (قصة قصيرة)

Cover Image for نداء الرحم (قصة قصيرة)
نشر بتاريخ

قصة قصيرة من وحي الخيال تصوّر لوضع مجتمعي أسهم في إنتاج معالمه واقع مفتون ووسائل إعلام مستبيحة.


دخلت “نبل” بيت الزوجية وفي نيتها الإحسان في العلاقة وإكرام الأهل والولد وذوي القربى والجار، متحمسة إلى إتقان الأدوار التي لطالما علمتها أمّها الرؤوم، والتعامل بكرم سجية كما كانت وصية أبيها الحنون.

لبت نداء المحبة وحاولت قدر الإمكان الإتقان، آوت وأكرمت وأحسنت السلوك بتذمم وصدق ومثالية قل نظيرها، لولا أنها اصطدمت بحجرة الواقع الذي أسهم في إنتاجه الإعلام المستبيح والشارع البائس والهمم التي ما عادت بنفس العلو كما في الزمن الجميل. ينظر إليها البعض بعين الانبهار التي تخفي تساؤلات دفينة تفيد: “أما زال فوق وجه الأرض من يعيش بذات الرقي؟ أم أنها مسرحية محكومة الأدوار تلعبها عروس جديدة لتستولي على القلوب وتستحوذ على الجموع وتفرق الأحباب؟ كيف لا تكون مثل الأخريات اللاتي تمسكنّ ليتمكنّ؟ كيف لا تكون مثل عروس بني فلان من الجيران التي أبدت الجلال، وأخفت الجدال، إلى أن بسطت النفوذ وأخْلت الدّار والجوار، كأنها حليفة الشيطان، اتفقت معه على المصائد والمكائد، متلحفة العقوق وسيء العوائد، قاصدة شتات الشمل والفراق، قاصدة الإذلال بلا إشفاق. فإذا بدور العجزة مأوى للأبوين والإهمال نصيبهما، بعد أن ربيا وكدحا كدح الرقيق عساهما يريا ثمرة الجهد ونتاج البرّ صلة ووصلا، محبة وودّا”. لكن هيهات هيهات.

كانت نبل، ولها من اسمها نصيب بليغ، لبيبة حكيمة أريبة، عملت على توطين الثقة بينها وبين أهلها الجدد، تنكرت لكل الإشارات المبطنة تحت رداء التحرر من التقاليد التي ربت عليها لأجيال وسائل التمييع والتفاهة، لطالما سمعت عن المعركة الضروس بين الحماة والكنة، بين أخت الزوج والعروس، بين زوجات الإخوة… ترفعت عن واقع لا يمت إلى صفاء السريرة وجمال الخلق بصلة. تعلمت من خلال تربية متوازنة تلقتها منذ الصبا، أن محبة أهل الزّوج من محبّته، فلا انفصام بين هذه وتلك، كما لا انفصام بين الشجرة وثمارها أو بين الفرع وأصله، تعلمت أن القعر وإن ازدحم فالارتقاء مطلوب مرغوب.

عملت على تشييد بنائها بمتانة عصية عن رياح الفرقة العاتية، وعن أهواء النفس الفانية، وقيل وقال، وكثرة السؤال. لم تتوان للحظة عن إرسال رسائل الطمأنة والتثبيت والمحبة العالية عبر أثير الشوق، وعبق المشاعر الفياضة، وعبير الملاطفة والتهادي والإكرام، متغافلة عن بعض حركات الهمز واللّمز التي قد تظهر هنا أو هناك.

لم تتردد في أن تجعل من سلوكياتها مرسالا يجمع القلوب، ودليلا على إيمانها بربها الكريم وصدق الاتباع لنبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي كان كالريح المرسلة في العطاء، وبلسما وشفاء. لطالما داوى أسقام الطباع الفاترة والنفوس العليلة، وتجاوز عن الزلات والكبوات. لطالما وصل من قاطعه، وأحسن لمن أساء إليه، وأعطى من حرمه. كان مثالا للوصل مع كل الأطياف حتى قضى نحبه ولم يبدل تبديلا. بارا كان صلى الله عليه وسلم بمن يعاشرهم أحياء وأمواتا، مثل صنيعه مع أمنا خديجة رضي الله عنها التي كان صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، ويصلها وهي ميتة رضي الله عنها بوصله صويحباتها اللائي “ربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة” (1) حفظا للود والعهد، ورعاية للحرمة، ورعيا للذمام.

كانت نبل محط ثقة من محيطها كُلّا رغم الخطوب، تنصح وتوجّه، وتكرم وتنبّه، تحسن حتى لمن إليها أساؤوا وعليها جاروا، قد تعتريها لحظات الضعف الإنساني ككل البشر، فما تفتأ تستعيذ وتعود للأصول، حتى لا تحرم الوصول.

لكن هذه المرة، كانت الضربة قاصمة موجعة ممن تحبّ، وعلى حين غرّة، نزلت كصاعقة من السماء، حينما تنكّروا للعشرة والود المقيم، حينما أسلموا الأذن للغريب والقريب، ينهشون لحمها الطري نهش السباع للفريسة العزلاء، حينما تناسل قيل وقال نميمة وظلما، حينما اختلقت حولها القصص وأحسنت الحبكة وأسيء التأليف؛ مضامين فجة ومحتوى مذل كليل… لم تكن لتتصور الضربة القاضية من أقرب قريب وأحب حبيب. سالت الدموع من مقلتيها وديانا، وهنت ولزمت السرير أياما، وكأنها تنوي أن تسترجع القوى التي أذهبها الغدر الكبير، والزهرة التي أذبلها الألم والتشهير. وكأنها تنوي استرجاع شريط الذكريات الرائقة التي تحوّلت إلى كابوس مخيف، كأنها لا تريد أن تستيقظ على ألم الفراق ونحيب الفؤاد الجريح العليل، كأنها تريد للغصّة ألا تعود ولألم الفراق أن يتحول إلى نسيم يداوي جراحاتها الغائرة وقواها الفاترة، ويسكن ببرَده قلبا أضناه الأذى والقيل. أتهجر الكل وتترك أهل الإساءة لإساءتهم، أم تقابل صنيعهم بالعفو وتصفح الصفح الجميل؟

لملمت نبل أطراف روحها الشريدة في دروب الخذلان، وتمعنت في الحال والمآل، وأعادت ترتيب أوراقها المبعثرة قائلة: “هي ذي المبادئ والقيم في محك الابتلاء يا نبل، وتحت سلطان التمحيص والتخصيص، فما العمل؟ أتصبرين صبر الجلِد أم تجهرين بالسوء جزاء كفاء؟ أطالبة إحسان أنت أم مجرد وعاء أجوف ظهر صديده وسوء معدنه لأول اختبار؟ أتردّين الصاع صاعين أم تتركين للأقدار مهمة التشذيب والتهذيب؟ أتدعين عمن ظلمك أم تدعين له؟ أتفوضين الأمر فيه إلى الحي الذي لا يموت، العدل الذي لا تضيع في قضائه المظالم، أم تعفين عفو الكريم الذي لا يحوج أخاه إلى اعتذار؟ أتحاسبين أم تصفحين  وتتجاوزين؟

ما أكثر المبادئ التي تربيت عليها ونقلتها بصفاء وصدق إلى غيرك، وهذا، يا نبل، موطن التطبيق.

لكن ماذا عن الإساءة والترويج للباطل؟

تجاذبت ذاكرتها، المشوشة بثقل الأسئلة الحائرة، الأفكارُ والنوازع، حاولت التركيز حتى لا تفقد أجمل ما فيها؛ قلبها السليم وباطنها الغلف من الغل والجحود. حاولت تنظيم أفكارها وأولوياتها في الوجود، وعادت لطرح السؤال الصريح المليح: إذا كان هجر الأرحام بوجهه الشرعي لا يعدّ قطيعة رحم، وإذا كان أهل العلم أجازوا جفاء أهل العصيان، وإذا كان الله تعالى في علاه لا يحب الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم، وإذا كان الضرر يزال شرعا… فما العمل؟

أأقبل أن أضع ميزان العدل أم أرجح كفة الإحسان التي دعا إليها الرحمن ونبيه العدنان صلى الله عليه وسلم؟ أين أنا من مطلب الإحسان الغالي؟ ألست كما أزعم يوسفية المنزع والوجهة؛ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ (2) شعاري، و“ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك” (3) دثاري، وعلى لساني ترنيمة لا أبرحها؛ التصدّق بالعرض، ووصل القاطع، والعطاء للمانع، والإحسان إلى المسيء. “لستُ أحسن من يوسف عليه السلام” لطالما ردّدتها، “الذي عن إخوته المتآمرين عفا. لست إلا تلميذة بين يدي سيدنا المصطفى صلى الله عليه سلم الذي تجاوز عمن أخرجوه من داره، وأساؤوا إلى دعوته، وحاصروه في الشّعب، ونكلوا بصحبه رضي الله عنهم وأبعدوهم عن الأهل والديار وما جفا. أما غاية عملي عالية؟ أما أريد به الله والدار الآخرة؟ أما أرجو به المقام المرغوب ومقعد الصدق عند المليك المقتدر؟

فليُسئ من أراد قدر جهده، فربي لي ناصر ومعين، وعهدي له أن أكون له أمة لا لغيره، ولأبي ولأمي عملا صالحا لا ينقطع، ولزوجي عونا على بر محابه.

وهي في معمعان التفكير لإحسان التدبير، والعزمُ تأكّد على ترك الخلق للخالق والعفو والتسامح، جاء الفرج من اللطيف الخبير؛ فشهد الشاهد من الأهل عن فداحة البهتان مع انعدام البرهان، وكان الذي لا زالت تذكره؛ انفتاق الألسن بالذكر الحسن والمحامد والاعتذار، والتوبة والاستغفار من الموقف النكد الذي جر إليه عدم استحضار رقابة الكبير المتعال وقيل وقال.

عادت المياه إلى مجاريها، وانحسرت الدموع في مآقيها، وكان العزم ألا يترك المجال في كل حال لشياطين الإنس والجان، أن يقوضوا بناءً التأم، أو يشتتوا رباطا بفضل الله التحم، ولسان الحال يقول: “كفى بالمرء إثما أن يحدّث بكل ما يسمع” (4)، و”التجارب إن لم تقصم الظهر فإنها تقويه”، والرحم مرحمة تنسأ الأجل وتثمر المال وتقويه، ونداء داخلي تعلو به أصوات المتحابين المتصافين الرخيمة:

#صل_رحمك

# نزورو_حبابنا.


(1) عن أمنا عائشة قالت: “ما غِرْتُ علَى أحَدٍ مِن نِسَاءِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ما غِرْتُ علَى خَدِيجَةَ، وما رَأَيْتُهَا، ولَكِنْ كانَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، ورُبَّما ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا في صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّما قُلتُ له: كَأنَّهُ لَمْ يَكُنْ في الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إلَّا خَدِيجَةُ، فيَقولُ: إنَّهَا كَانَتْ، وكَانَتْ، وكانَ لي منها ولَدٌ” (صحيح البخاري، 3818).

(2) يوسف، 92.

(3) عن أبي هريرة رضي الله عنه  أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلُم عنهم ويجهلون عليّ، فقال: “لئن كنت كما قلت فكأنما تُسِفُّهم المَلّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك”. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، (4/ 1982)، برقم: (2558).

(4) رواه مسلم في المقدمة 6، صحيح الجامع 4482.