نادى المولى الكريم عباده أن هلموا وأتوني كما أمرتكم، حجوا بيتي، تعالوا إلى رحمتي، فلبى الحجيج مقبلين وجلين مرددين كلمات علمهم إياها النبي الأمين: “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك”. لبّوا فلبىّ معهم الحجر والمدر، عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما من مسلم يلبي إلا لبى من عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا” (أخرجه ابن ماجة).
معان جسام وحكم بالغة تحملها هذه الكلمات التي ترددها القلوب قبل الألسن: لبيك اللهم لبيك.. قبلت مولاي دعوتك منشرح قلبي بإجابتك ملازم لطاعتك واقف على أعتابك مقر بوحدانيتك، لا إله غيرك، الخير كله لك ومنك، لا نحصي ثناء عليك أنت ربنا أهل لأن تحمد وتمجد، لا شريك لك لبيك.
كلمات جمعت معاني الدين كله: استجابة وإقبال، خضوع وخشوع، توحيد وتنزيه للمولى عن الشريك، ونعمة يراها العبد من ربه إليه نازلة ومنه لربه تستوجب الحمد والشكر قولا وعملا.
أفضل ما رفع به الحاج صوته كلمات التلبية، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل: أي الحج أفضل؟ قال: “العج والثج” (رواه الترمذي)؛ العج: رفع الصوت بالتلبية، والثج: إراقة دماء الهدي. وهي شعاره كلما حل وارتحل من منسك لمنسك.
ولغير الحاج أن يتخذ معناها شعارا له كلما نادى منادي الإيمان أن هبوا للفلاح. فللمولى الكريم في كل وقت وحين نداء ينتظر من يستجيب، أورد ابن كثير في تفسيره أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود فقال: اعهد إليّ. فقال: إذا سمعت الله يقول: “يا أيها الذين آمنوا” فأرعها سمعك، فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه.
ففي كل يوم وليلة ينادي سبحانه عباده بالتوبة والإنابة، قال سبحانه وتعالى في سورة النور آية 31: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، ويلح عليهم إلحاح الرحيم الجواد الكريم، قال سبحانه (طه، 82): وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ.
روى مسلم عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها”.
روى أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له” (أخرجه مالك).
وروى الحاكم والطبراني أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “يا رسول الله أحدنا يذنب، قال: يكتب عليه، قال: ثم يستغفر منه ويتوب. قال: يغفر له ويتاب عليه، قال: ثم يذنب، قال: يكتب عليه، قال: ثم يستغفر منه ويتوب، قال: يغفر له ويتوب عليه. قال: فيعود فيذنب. قال: يكتب عليه ولا يمل الله حتى تملوا”. فهل من ملبِّ فيغنم.
وفي كل يوم ينادي منادي الإيمان خمس مرات بحي على الصلاة حي على الفلاح فهل من ملب فيغنم.
وينادي سبحانه في كل رمضان حي على الخيرات حي على العتق من النيران، روى الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال: “إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة ولم يغلق منها باب، وينادي مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة”. أَفهل من ملب فيغنم.
نداءات لا تحصى في كتابه الكريم ينوعها لعباده الصالحين؛ يهيب بهم أن تعالوا إلى رحمة ومغفرة واسعة، تعالوا إلى جنة النعيم، تعالوا إلى رضا المولى الكريم، قال سبحانه: يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (الزمر، 16)، وقال: سَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (آل عمران، 133). فمن يلبي ومن يجيب. وقال سبحانه وتعالى: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ۚ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ (الشورى، 47).
اللهم اجعلنا إليك منيبين مخبتين، وإلى رحمتك مسرعين، واهدنا ربنا السبيل القويم. آمين.