مِن المطالبة بالعدل إلى نشدان الإحسان

Cover Image for مِن المطالبة بالعدل إلى نشدان الإحسان
نشر بتاريخ

سيدتي…
شَرَفٌ لي أن أكون مِن أوائل مَن اعْتَلوا هذا المنبر الموقّر؛ منبر “أسرتي جنتي”، لأقول لكِ: أنْتِ مِنْ أنت أكبر، لهذا فمطالبتكِ بالعدل لن تتقدّم بك خُطواتٍ إلى الأمام، ولن تحقِّق لكِ ما أنت به أجْدَر، فُنشدان الإحسان بك أولى وأجدى وأذرّ.
مَهْلاً، لا تُبرّري. عفوا لا تستعجلي الردّ، دعيني أفرغ ما في جعبتي وسأترك لك المجال لتُعلِّقي وتُدقّقي وتُعمّقي البحث والنّظر في ما سأقوله لك وعنك. مجرّد رأي واقتراح لا أقلّ ولا أكثر.
سيّدتي…
لن تكون كلمتي الكلمة الأولى، وطبعاً لن تكون الآخرة، وقطعاً لن تكون الكلمة الفصل، أعلم هذا وأعلم أيضا أنّكِ لست بحاجة إلى مَن يُعرّفك بكِ، فأنتِ بنَفْسِك وبنفيسِكِ أعرَف، ولا أنتِ بحاجة إلى مَن يدافع عنكِ، فهيئة دِفاعِك مِن جنسِكِ أحْصَفُ وأنْصَف.
كما أنّني أعلم، والله أعلم منّي ومنكِ، أنّه سبحانه وتعالى لم يخلُق ما خلق عبثا، أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، بل إنّه خلَقَكِ أنتِ بالذّات لشأن عظيم؛ وهو العليم الحكيم؛ أوْجَدكِ جلّ جلاله لشرف الأمومة، وأعطى للرّجل شرف الإمامة، ولا حاجة لي بالجدل العقيم الذي أُثير ويُثار، وستستمرّ إثارته حول أيّهما أشرف قدرا، وأعظم أَثَرا، وأجَلّ خطرا: هل الإمامة أو الأمومة؟ وأيّهما أسبق بصمة في التنشئة والبناء، والتعبئة والنّماء؟ وأيّهما أعمق وصمة في الخراب والدّمار، والعار والصّغار والشّنار في هذه الدّار وفي تلك الدّار؟
ولا حاجة لي كذلك بتذكير نفسي وتذكيرك بقول الشّاعر:
                              الأمّ مدرسة إذا أعددتها      أعددْت شعبا طيّب الأعراق
ولا بقول المثل السّائر: “كلّ عظيم وراءه امرأة“، ولستُ أدري كيف اندَسَّت كلمة “رَجُل” بين “كلّ” و”عظيم” فحرَّفَت كَلِم المثل عن موضعه، لعلّها واحدة مِن مُتعدِّد كيدِكُنّ العظيم، وإلاّ فلجدّتي في فَهْم هذا المثل مذهب سليم حين قالت: “الخير امرأة والشرّ امرأة”.
لا علينا، وإن كانت هذه التوطئة مُهمّة، فإنّ أهمّ ما في هذا التقديم –سيّدتي- هو تبيان أهمّية دوركِ في الوجود إيجابا وسلبا باعتباره عُمْدة لا فُضلة، سابقا لا مُلحَقا، حاسِما لا مُساعِدا، رائِداً لا مُقلِّدا.
لم أَقُل هذا الكلام خوفاً أو طمعاً، ولا قُلتُه بهدف الاستقطاب أو الاستدراج، فليس هذا مِن طبيعتي ولا مِن شأني كما هي طبيعة بعض “النّسائيين” اللائي زادَت نسائيتهن عن حدّها، وشأنُ بعض “الرّجاليين” الذين زالت رجولتهم عن حدّها؛ غَرضي مِن كلمتي هذه أن أقول لكِ: إنّ كمالك في ما لَكِ، لا في ما لغيركِ، وإنّما المعيار الذي له الاعتبار كامِنٌ في قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ، وقوله سبحانه: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ، وقوله جَلّ مِن قائل: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ، وقوله عزّ وجلّ: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا، لا سُخريّة، وقوله كلّ ميسّر لما خُلق له.
سيّدتي …
لا أحد يُنكر أنّكِ ظُلِمتِ دَهْراً، وسامَك الرّجل الأنانيّ جوراً وقهراً، وإقصاءً وتهميشا واستعبادا وأَسْراً، وإسكاتا وإهانة وسيطرة وحِجراً، ولم تَجِدي – أو بالأحرى قَلَّما وَجَدْتِ- طيلة القرون الخوالي بعد الانكسار التاريخي وتحويل الخلافة الرّاشدة عضّا وجبرا مِن أهل المروءة مَن يُواسيكِ، أو يُسليك، أو يتوجّع لوجعكِ، وقد ظَلَلْتِ طيلة تلك القرون ذات حافظيّة ضربَتْ أروع مثال في الصمود صبرا واصطبارا، وتحمّلا وإيثارا…ظُلِمْتِ وظُلِم الرّجل كذلك تحت نَيْرِ الاستبداد العَضوض أصْلِ كلّ فسادٍ مشهود حَوَّل الأمّة إلى دُمى مِن لحمٍ ودَم تَشُدُّها خيوطٌ مُتشابِكة، تُحرِّكُها أصابِع إبهامية كبرى، ومُتسلِّطة وسطى، وحَشَميّة صغرى لتَمْضِيَ في كلّ اتّجاه إلاّ اتّجاه الحقّ والصّواب، والحكمة وفصل الخِطاب، والنّتيجة العَرَقُ في حَلَبَة الصّراع بين الرّجل والمرأة كجنسَيْن، وكزوجَيْن، وكأبوَيْن، وكإطارَيْن، وكمُوظّفَيْن أو عامِلَيْن، وكإعلامِيَيْن، وكسياسِيَيْن مُناضِلَيْن… والضحيّة المرأة والرّجُل اللّذان يتصارعان ويتقاتلان بالوكالة لصالح “الأسياد”؛ جُنْد الاستبداد والفساد، ويَكْدَحانِ ويتْعَبان وينْصَبانِ خارج إطار ما خُلِقا لأجله عبادة، وما نُدِبا إليه شرعا؛ قِوامة وحافظية، أبوّة وأُمومة، ميثاقا ومودّة ورحمة، ولباساً وحرثاً وسَكَناً لتحقيق شعور “أُسرتي جنّتي” وشعار”أسرتي جنّتي” وشراع “أسرتي جنّتي” في رحلة العمر إبحارا في يَمّ الدّنيا باستقامة واستِواء، وتوازُن ومَضاء، في استقرار واستِمرار واستثمار يؤول إلى سعادة ورخاء في هذه الدّار، وخلودٍ في نَعْماء تلك الدّار.
اليومَ وقد اقتحمتِ عقبة صَمْتِك، وتجاوزْتِ عتبة وصاية الرّجُل، وبَثَتْتِ شكواكِ بلُغات العالم، وتحت القِباب الزاهية، والأسقف العالية، وفي المحافل والمؤتمرات الدّولية، وفي المحاكم ووسائل الإعلام، وفي الإشهارات، وفي المسلسلات والمسرحيات والأفلام، وفي المدارس والتأهيليات والجامعات، وفي البحوث والدّراسات، وفي وسائل التواصل الاجتماعي، وسائر القنوات والمواقع ومعظم مصادر الكلام؛ أسالكِ بالله هل تغيّر شيء مِن وضعِك؟ وهل نِلْتِ بعضا من حقوقك؟ وهل انتزعتِ قليلا مِن حظوظك؟!
سأكون مُجحِفا إذا قُلتُ لم يتحقّق شيء من ذلك، وسأكون أيضا مُنصِفاً إذا قُلتُ أنَّ ما تحقّق لا يكفي لدرء شكواكِ، ولا يَفي لوضع حدّ لبلواكِ، ولن يشفي غليلا، ولن يُغني فتيلا فيُلجِم فاكِ عن الصّدع بنجواكِ، بل سيزيدُكِ إصرارا على إسالة مِدادٍ غزير إفصاحاً عن ظُلم مَن عاداكِ أو جافاكِ، أو حرمَكِ ما به الله حباكِ. كما سيزيدُكِ ذلك إمعانا في تصوير حالِكِ ضحيّة الضّحايا بكلّ وسائل الإيضاح والبيان.
هذا مِن حقِّكِ والبادئ أظْلَم، هذا مِن عُمق جُرحِك الغائِر ومَن ذا يملك يُسكِتُ الألم؟!
كان نافعا لو كان ناجعا في وضع حدّ للمعاناة، وإيجاد حَلّ للمأساة، لكنّني أكاد أجْزِم أنّ ما تعيشينه طيلة عقود ما بعد ستينيات القرن الماضي أسوأ حالا ممّا عشتِه طيلة عهود ما بعد الانكسار التاريخي ولِمَدى قرون لا سنوات، ولا أراكِ تعترضين إذا قُلتُ لكِ أنّ أُسَرَنا “الجنّات” باتَتْ تعيش على صفيح ساخِن، وأنّ الضحيّة أنتِ في كلّ الحالات؛ مُطلّقة، أو مُعلّقة مهضومة الحقوق، أو أُمّ لأيتام مِن أب حيّ، أو عاملة ناصبة عند بَعْلٍ يأخذ الزّائد مِن مالِك غصباً بعد سدِّ حاجيات البيت والأبناء الضّرورية منها والكمالية ابتزازا ورَهَبا، أو ربّة بيت تستنْفِذ وُسعها بل عمرها في توفير ما يُشبِع نَهَم الرّجل والأبناء، ويُرضي الضّيوف والأقرباء، ولا مِن ذاكِرٍ ولا مِن شاكِرٍ، فإن وقع مِنكِ خطأ، أو ما يُحسب على الخطأ، أو أصابكِ مرض أو إعياء، أو سهو أو نسيان كان ما لا يليق قوله، وما لا يجوز فعله هو الضّريبة والجزاء.
ويبقى الوأد هو الوأد وإن تغيّر الشّكل والحجم واللون؛ ولَوَأدُ المعنى والجوهر مِن وأد الجسد أدهى وأمَرّ، ويبقى الاسترقاق على قدم وساقٍ وإن تغيّر البائع والمشترى والسّوق؛ اتّسع أو ضاق، ويبقى تَشْييئُك، واستغلالكِ، والاستخفاف بكِ، ولُؤم إهانتِكِ، وبخسُكِ أشياءكِ، وما لا يُحصى مِن مظالِمِكِ لازمة القصيدِ، وقافيته ورويّه في بحرٍ طويل مديد وافِرٍ عميقٍ، لا بسيط ولا خفيف، ولا سريعٍ مُنسَرِحٍ طليق.
سيّدتي.. جَرَّبْتِ المطالبة بالعدل فأعْيَتْكِ المحاولة، ولا حياة لمن تُنادين؛ صيحة في واد، ونفخة في رماد، ولم يُرفَع عنكِ الضّيم بل زاد، وطفح الكيل، وبلغ السّيل الزُّبى أو كاد. أفلا أدُلُّكِ على بديلٍ يَهدي لأقوم سبيل؟ لا أَدّعي أنّه حدّ للمأساة وحلّ للمعاناة، وأنّه على أكمل وجه من اليُسر والمؤاتاة، لكنّني أظنّ – والظنّ في الله حسن – أنّه سيجعلُكِ أحسن حالا، وسيُبوّئُكِ الأفضل مآلا، وسيُجنّبُكِ الأكثر نَكالا ووبالا ممّا أنتِ فيه، ولعلّه يكون مُخرَج صِدْقٍ ممّا تُلاقيه وتُقاسيه؛ نشدان الإحسان مع المطالبة برفع الحَيْف، والشّهادة بالقِسْط، والقِيام لله بالحقّ؛ نشدانُ الإحسان يُنيلُكِ حظّكِ من الله، والمطالبةُ بالعدل التِماسُ حقِّكِ من النّاس.
ويبقى نُشدان الإحسان هو الإضافة النوعيّة الـمُقتَرَحَة، والمـُبادرة التقدُّميّة التحرّرية الحداثِية المـُربِحة، والمصلحةُ النّفعيّة المرجَّحة.
لعلّكِ صُدِمْتِ حين سمِعْتِ هذا الخبر، وشقّ عليكِ إيجاد مُبتدأ له، ولعلّه تبادر إلى ذِهنِك سؤال لا جواب له؛ عزّ العدل فكيف الإحسان؟!
أقول لكِ أُخت الإيمان؛ ما عِشتِه لقرون، وما تعيشينه لعقود بلاء وأيّ بلاء! وهل الدّنيا إلاّ دار بلاء؟! وإنّما دَرْء البلاء بالصّبر، وإنّما الصّبر عند الصّدمة الأولى، وبعد درء البلاء بالصّبر لا يبقى إلاّ الإحسان سُلوة وعزاء؛ فيُدرأ الصّبر بالرّضى، ويُدرأ الرّضى بالشّكر ليصير البلاء سُلّم ارتقاء واصطفاء. وفي قوله  لمن سأله:« أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ فقال:
“الأنبياء، ثم الأمثلُ فالأمثلُ”» نَدى فوق الجِراح، وراحة للرّوح وراح.

الإحسان أن تعبدي الله كأنّكِ ترَيْنه، فإن لم تكوني ترَيْنه فإنّه يراكِ، وهو على ثلاثة معانٍ: عبادة بانكسار وإيقان، ومعاملة ببِرّ وإحسان، وعملٌ بمداومة وإتقان تلبية لأمر الله بالإحسان بعد العدل؛ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ.
الإحسان سيّدتي في حُسن تبعُّلِك لزوجكِ وإن لم يكن خيرا لكِ؛ من باب الدّفع بالتي هي أحسن: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ . وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ . وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
الإحسانُ عفواً عمّن ظلم، وصِلَةً لمن قطع، وإعطاء لمن حرم.
الإحسان في حافظيّتِكِ وحفظِك لما استُأمِنْتِ عليه وجعلكِ الله عليه راعية مسؤولة؛ ديناً انتهاء وائتمارا، وزوجاً وبنتاً وولداً ونسَباً وصِهْراً، وعِرضاً ومالا وداراً، وضيفاً وجاراً؛ هذا بُرْجُكِ الاستراتيجي الذي أنْتِ فيه الإمام دائماً إلى الأمام، دون إغفالِ دورِك الطّلائعيّ المشتَرَك في كلّ مكان ومجالٍ واهتمام وإسهام، جائزٍ شرعاً، مُتاحٍ ومُمكِنٍ واقِعاً ومُجتمعاً.
وكلّ ما مِن الله إليكِ إحسان، وأنتِ وحدكِ مَن أُمِرْتِ بالإحسانِ. قال تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ و هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ.
وأين إحسانُكِ من إحسان ربّكِ؟! مِنكِ التقرّب بالشّبر ومنه التقرّب بالذّراع، منك التقرّب بالذّراع ومنه التقرّب بالباع، منكِ المشي ومنه الهرولة كما يليق بجلاله وعظيم شأنه؛ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى ،وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى.
فأحْسِني كما أحسن الله إليك.
أحْسَنَ إليكِ إذ وهبَ لك شرف أمومة الآدمية المكرمّة، الـمُقدَّمة، الـمُعلَّمة، الـمُنعَّمة، المسخَّر لها ما في السماوات والأرض.
أحْسَن إليكِ إذ جعلكِ محبوبة مُحببة إلى أحبِّ محبوب إليه صلى الله عليه وسلم.
أحْسَن إليكِ إذ جعلك وصيته المستوصى بها في حياته، وفي خطبة الوداع قبل وفاته.
أحسن إليكِ إذ جعل الجنّة تحت أقدامكِ أُمّا، وجعلكِ معيار الخيرية زوجا، وجعلكِ تأشيرة للجنّة بنتا وأُختا.
أحْسَن إليكِ إذ جعل مَن مات مِن صغارك دعاميص الجنّة يناضلون من أجل دخولكِ إليها جزاء ما عانيت ورُزِئْتِ وصبرت واحتسبت.
أحسن إليك إذ خفف التكاليف عنك فجعل حجك جهادك، وأعطاك عطلة شهرية عن الصّلاة والصيام وهما أغلى عباداته، وأوجب واجباتك.
أحسن إليك إذ جعلك ممّن تُعدُّ نقائصه لا لتُعَيَّر بها وإنما لتَتِمّ مُراعاتها في معاملتها؛ فلا يَفركُها المؤمن بسببها، ولا يُهينُها من خلالها، ولا يحاسبها عليها لأنها نقائص جِبِلّية لديها قد أُسقِطت من حساب حسابها، ويُحاسَب الرّجُل على تلبُّسهِ بأيٍّ منها. فإذا كنتِ غير مُساءلة عنها، ولا مُعاقبة على ارتكابها واجتراحها واقترافها – بالقدر الذي جُبلتِ عليه – كنتِ أقرب إلى الكمال من كثير من الرّجال، ثمّ إنّ نقصَكِ فيها يفتِل في حَبْل كمالِكِ في جانب آخر مِن وظائفِكِ أهمّ وأكبر، وأعظم وأخطر.
فإذا كانت المطالبة بالعدل لم تُحقِق لكِ الرّجاء، ولم تُخفف عنكِ البلاء، فإني أُهيب بكِ أُخت الإيمان أن تُجرّبي مع المطالبةِ بحقِّكِ في العدل، نُشدان حَظِّكِ من الإحسان. فإنه أشرفُ طلب وأفضل نوال، وأرحب ساحة ومساحة، وأوسع مجالا في كل مجال. وقد كتب الله الإحسان على كل شيء، وجعله مراده في كل شيء والله يحب المحسنين. قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا، وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا .
والخِطاب مُوجّهٌ لأمهات المومنين وللمقتديات بهن، المهتديات بهديهنّ من المومنات طالباتِ الكمال، الرّاغبات في الإحسان أَمْس واليوم وغدا إلى يوم الدين.
ولكِ سيّدتي مِن مؤهلات الإحسان ما لا يقدر على الإحاطة به مَقال، وما لا يرقى إليه جِدال. فإن عزَّ أن يُقابل الرّجُل إحسانك بإحسان، أو بعدْل لا أقلّ فلكِ فيمن يقابل إحسانك بإحسانه غُنية وأعظم مُنية.
وأين إحسانُك مِن إحسان ذي الجمال والجلال والكمال؟! ودنيا الناس فانية، وأذى الناس إلى زوال وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا والبقاء لله، وما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل. وما يُنبِئُكِ عن خير العمل، وأفضل أمَل مثل خبير كمعاذ بن جبل؛ يقول  في وصيته: «إنّه لابد لك مِن نصيبك مِن الدنيا وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج. فابدأ بنصيبك مِن الآخرة فخُذْه، فإنه سيمُرُّ على نصيبك مِن الدنيا فينظمه لك انتظاما، ويزول معك حيثما زلت» .

صِلي – سيدتي – قلبكِ بالدائم الباقي؛ المؤمن المحسن الحليم الكريم، فمن وصل قلبه بالله حاشى أن يخيب أو يُضام، فهو حسبك ونعم الوكيل؛ الرقيب القريب المجيب بحبله لا بحبل غيره يكون الاعتصام، ولا شكوى مِن أحد ولا إلى أحد بل شكواك للأحد، فإن “النّجوى طريق البِطالة” كما قال محمد أحمد الراشد في كتابه الرائق “العوائق”، وفوِّضي أمركِ إلى الله فإنه بصير بالعباد، ولا تثأري لنفْسِك فالشّحناء ليست مِن طبيعته ولا مِن شأنِه كما قال عليه الصلاة والسلام، ولا ينبغي أن تكون مِن طبيعة وشأن أهل الإحسان. يقول عنترة الجاهلي:
لا يحْمِلُ الحِقْدَ مَنْ تَعْلُو بِهِ الرُّتَبُ ولا ينالُ العُلى مَن طبعهُ الغضبُ
عُذرا – سيدتي – فلأني أحِبُّك بمحبّة الله لكِ، ومحبّة رسوله  لكِ، وحتّى أكون ممّن يعملُ بوصيّته التي وَصَّى بها واستوصى بكِ تجرَّأْتُ على قولِ ما قُلتُ، فإنْ كنتُ أحببتُ لكِ ما أحببته لنفسي فصبرا على كلامي الخشِن، وإنْ قَصُرَت ْهِمَّتي وحِكمتي عن إرادته والسّعي له سعيه فعزائي في قول أُسوتي “الدال على الخير كفاعله” وإن لم يُعجبكِ قولي وألفيتِ فيه ما هو خارج عن إطار “أسرتي جنّتي” فأزيحي صورته عن إطارك، وضعي الصورة التي تليق بجنابكِ.
أرجو ألا يُفسِد الاختلاف للوُدّ قضية، ولي فيما يُرضيكِ قوله بقية، ولكِ منّي ألفُ تحيّة وتحيّة.
مِسْكُ الختام صلاتي على خير الأنام وآله وصحبه الكرام، والحمد لله على الدوام، والسلام.