موعظة ملياردير و”رحلة” مُفكِر والأسئلة المُوجِهة لحياة الفرد ودينه

Cover Image for موعظة ملياردير و”رحلة” مُفكِر والأسئلة المُوجِهة لحياة الفرد ودينه
نشر بتاريخ

يأتي الإنسان إلى هذا الوجود في وقت لا يُستأذن فيه، ومن والدين لا يختارهما، ثم يبدأ السنوات الأولى من عمره في بيئة تفرضها في الغالب صحبة الوالدين، وقد يجرفه تيار بيئته، فيذوب في محيط يملأه صخب الحياة، وأفكار الجاهلية، ومثبطات الفتنة، فلا يجد فسحة ليسأل نفسه السؤال الفطري: من أنا، ومن أين جئت، وإلى أين، (وما معنى وجودي وحقيقة حضوري وغاية مروري من هذه الحياة العجيبة الغريبة؟) 1، ثم يحين أجله. وحين يوقن أنه الفراق، وتقترب الروح من الحلقوم، ويتحرر من الشواغل والطموحات، يبدأ في مونولوج 2 داخلي صريح عن معنى الحياة إن كانتْ ستنتهي بالموت وفراق الأحبة، وترك كل ما تعب الإنسان في جمعه؟ وعن قيمة كل الأفراح التي عاشها إن كانت ستُختَم بصراع مع الألم أو موت الفجأة…؟  أسئلة مُوجِّهة ينتج عن الخطإ في الجواب عنها سيطرة الغرائز على العقل، فتكون اللذة والمتعة و”الجنس” والمنفعة والأنانية… هي الموجهة للسلوك، فتكبل العقل والفكر فلا يجدان إلا مسلك تبرير المزيد من أسباب “المتعة”.

أسئلة قد يعتقد من شغلته آماله، أو أسْكَرته لذة من لذاته، أنها لا تعني سوى المحرومين من متاع الدنيا، والفاشلين في تحقيق طموحاتهم… لذلك نستدعي للشهادة في الموضوع ستيف جوبز (Steve jobs) أحد كبار رجال الأعمال في العالم.

موعظة ستيف جوبز (Steve jobs) وهو يواجه الموت

يقول ستيف جوبز وهو على فراش الموت: (في هذه اللحظة، وأنا مستلق على سريري، مريض وأتذكر شريط حياتي، أدرك أن كل سمعتي والثروة التي أمتلكها لا معنى لها في وجه الموت الوشيك. إنه يمكنك استئجار شخص ما لقيادة سيارتك، أو خادم لقضاء أغراضك، أو توظيف قياديين لإدارة أعمالك وكسب المزيد من المال والشهرة… ولكن، وبالتأكيد، لا يمكنك استئجار شخص ما، وبأي ثمن، لحمل الألم أو المرض نيابة عنك. يمكن للمرء أن يقتني أشياء مادية كما يحب، ولكن هناك شيء واحد لا يمكن العثور عليه عند فقده “الحياة”).

الشاهد في هذا “الشريط” هو أن السمعة والثروة وكل ما يشغل الإنسان من متاع الدنيا لا معنى لها في مواجهة الموت وما بعده من مصير. والعبرة: أليس حريًّا بنا أن نطرح سؤال الغاية من كل أعمالنا قبل الوصول إلى لحظات الموت، كي لا نعيد خطأ سيزار بورجيا الذي قال: (في حياتي كنت أستعد لكل شيء إلا الموت، وأنا الآن أموت ولست مستعدا لهذا).

رحلة مُفكِر يبحث عن علاج لوضع الأمة

الأسئلة أعلاه لا يتأسس عليها مصير الفرد فحسب، بل يتأسس عليها كذلك مصير الأمة، لأنه (من المواقف الفردية تتجمع مقومات الموقف الجماعي والحركة الاجتماعية) 3 للأمة.

في بداية مسيرته الفكرية وبحثه عن سبل تجاوز حال الغثائية التي تعيشها الأمة كان عبد الحميد أبو سليمان 4 يرى أن سبب ما تعيشه الأمة هو أزمة فكر ناتجة عن افتراق القيادة الفكرية والقيادة السياسية مما حرمها من المرجعية العلمية الفكرية التنظيرية 5. فألَّف كتاب (أزمة العقل المسلم) سنة 1986م.  وبعد ذلك اكتشف أن معرفة الصواب ليست كافية لاتباعه، ومعرفة الخطأ ليست كافية لاجتنابه، (إذا لم يكن وجدان المرء يميل وينزع إلى ما يراه العقل) 6، فأصدر كتاب (أزمة الإرادة والوجدان المسلم) سنة 2004م، وناقش إشكالات الأساليب والممارسات التربوية قصد وضع حد للممارسات والأساليب الخاطئة في التربية، ظنًا منه أن ذلك قد يساهم في بناء الإرادة. وبعد الممارسة أيقن (أن مجرد معرفةِ منهجٍ سليم للفكر، وأسلوبٍ سليم في التربية لا يكفي لحل أزمة تخلف الأمة، ولا لإخراجها من دائرة التهميش والسلبية، إلى دائرة الدفع والحراك والفعل والإيجابية) 7، فأصدر كتاب (الرؤية الكونية الحضارية القرآنية: المنطلق الأساس للإصلاح الإنساني) سنة 2008م، اعترافًا منه (أنه لا يكفي أن تكون لدى الإنسان الأداة إذا لم يكن له غاية أو هدف من حصوله على [تلك] الأداة ووجودها بين يديه) 8 وأن التربية وبناء الإرادة وتقوية الدافعية يتطلب وجود غايات كبرى وقضية تحرك الإنسان، وهذه الغايات لا يمكن تحديدها إلا من خلال فلسفة ورؤية وتصور، وقد حاول الكاتب تجنب مصطلح “عقيدة” لما أصبح يرافقه من تعقيد. ومن أهم الخلاصات التي خلص إليها قوله: (إن الفعل والحركة يرجعان إلى الرؤية والغاية والدافع الذي هو الجوهر والمحرك، فمن لا رؤية له ولا غاية ولا مقصد فإنه لن يتحرك مهما توافرت له المعلومات والوسائل والآليات) 9.

الشاهد في خلاصة أبي سليمان هو أن بداية الفعل القوي ترجع إلى الرؤية والغاية، وهذا يتأسس على تصور الإنسان للغاية من وجوده. والشاهد في القصتين أن الخلاص الفردي للإنسان والخلاص الجماعي للأمة يتأسسان على الإجابات الصحيحة عن الأسئلة الكبرى، من قبيل: (ما غاية مروري من هذه الحياة؟).

يا هذا! لماذا كل هذا التعقيد؟ وهل ديننا دين فلسفة؟

حُقَّ لمن يرى أن الإسلام هو ما وجد عليه الآباء والأجداد، أو ما وجد عليه علماء عاشوا، لقصور فهم أو قهرٍ، في هامش السنة، ولا يعتبر نفسه معنيا بكل أوامر القرآن الكريم، ولم تُلْجِئْه الظروف الصعبة إلى الاختيار بين ما جاء به رسول الله ﷺ وبين مصالحه أو روحه أو… أن يقول ذلك.

لكن بالرجوع إلى بداية الإسلام نجد أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار أسلموا في زمن قيل فيه: إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا [القصص: 57]. وكان الواحد منهم لا يُقْدِم على إشهار إسلامه حتى يحسِم سؤال: الغاية من مروره من هذه الحياة، ثم بعد الانخراط في صحبة رسول الله ﷺ تبدأ التربية النبوية ومواقفها العملية في ترسيخ التصورات التي تعجز عن ترسيخها أعرق الجامعات، وهكذا تعلم الصحابة الفلسفة والتصور المثالي الشامل للدين والدنيا، وللدعوة والدولة في أبهى صورهما، وتعلموا مقاصد الشريعة والفقه دون التفريعات المحدثة فيما بعد… كما كانت العرب تتعلم اللغة سليقة قبل وضع قواعد النحو، وتَقرِض الشعر الموزون قبل أوزان الخليل الفراهيدي 10.


[1] ياسين، عبد السلام: تنوير المؤمنات، ج1، ص5.
[2] المونولوج: المقصود به هنا هو حديث النفس أو النّجوى، وهو حوار قائم ما بين الشخص ونفسه.
[3] ياسين، عبد السلام: سنة الله، ص54.
[4] عبد الحميد أبو سليمان: مفكر سعودي ولد بمكة المكرمة سنة 1936م. شغل عدة مناصب منها: الأمين العام المؤسس للأمانة العامة للندوة العالمية للشباب الإسلامي بالرياض، والرئيس الأول والمؤسس للمعهد العالمي للفكر الإسلامي، ومؤسس ومدير الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا 1988م – 1999م. صاحب ومدير عام مكتب دار منار الرائد للاستشارات التربوية والتعليمية بالرياض. له عدة كتب تهتم بالتغيير والإصلاح. انظر السيرة الذاتية في مقدمة كتابه: الرؤية الكونية الحضارية القرآنية، المنطلق الأساس للإصلاح الإنساني، ص2.
[5] أبو سليمان، عبد الحميد: أزمة العقل المسلم، ص47 و48 بتصرف.
[6] أبو سليمان، عبد الحميد: الرؤية الكونية الحضارية القرآنية، المنطلق الأساس للإصلاح الإنساني، ص12.
[7] أبو سليمان، عبد الحميد: الرؤية الكونية الحضارية القرآنية، المنطلق الأساس للإصلاح الإنساني، ص14.
[8] المصدر نفسه، ص14.
[9] المصدر نفسه، ص15 و16.
[10] الخليل الفراهيدي، واضع علم العروض.