من وصية الإمام عبد السلام ياسين | بر الوالدين

Cover Image for من وصية الإمام عبد السلام ياسين | بر الوالدين
نشر بتاريخ

يقول الإمام المجدد رحمه الله في ثنايا وصيته: “ألا وإن لي أشياء أوصي بها من يسمع ويعقل صدى وترجيعا يبلغه الله عز وجل آذانا واعية وقلوبا صاغية”. أوصى بما أوصى به الله عز وجل “ببر الوالدين”؛ “ثم أوصي من وقف على كلماتي هذه قراءة أو استماعا بما أوصى الله عز وجل الإنسان. وصى الله عز وجل خالق الإنسان بوالديه حسنا. حسنا بما حملت الأم وأرضعت وحنت وبما كفلت وكفل الأب جنينا لاحول له ولا قوة ثم وليدا في المهد ودارجا في مراحل الحياة”.

أوصى الله سبحانه وتعالى بالوالدين إحسانا وحسنا، لاسيما في سن الضعف والحاجة والافتقار إلى اليد الحانية والقلب العاطف والمعاملة الجميلة في قوله جل شأنه: وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا، وأمر بصحبتهما بالمعروف وخفض الجناح لهما، وعدم إغضابهما وإسخاطهما، ورتب برهما بعد توحيده عز وجل. قال: وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّۢ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [سورة الإسراء، 23 – 24].

إن طاعة الوالدين والبر بهما لمن أعظم الأعمال أجرا وأفضلهما عند الله عز وجل، فعن ابن مسعود رضى الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله قال: “الصلاة على وقتها، قلت ثم من قال: “بر الوالدين”، قلت ثم من قال: الجهاد في سبيل الله” [رواه الشيخان].

“أمك أمك”

وصية القرآن ذكرت الوالدين وفريضة الإحسان إليهما إجمالا ثم فصلت وأطنبت في الأم ترجيحا لحقها، وذلك شكر من حملت على وهن وكره، وأرضعت وغذت ونظفت حتى بلغ أشده المسلم وبلغت أشدها المسلمة، داعيا الله لمن ولدهما وربياهما بأن يرحمهما: وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا، وَوَصَّيْنَا ٱلْإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيْهِ إِحْسَٰنًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُۥ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِىٓ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِىٓ أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَٰلِحًا تَرْضَىٰهُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِىٓ ۖ إِنِّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّى مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ [سورة الأحقاف، الآية 14].

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال أمك. قال ثم من؟ قال أمك. قال ثم من؟ قال أمك. قال ثم من؟ قال ثم أبوك”.

يبر بالأم وتوصل مشركة، ويبر بها بعد موتها كما كان يبر بها في حياتها. روى مسلم والترمذي وأبو داود عن بريده بن الحصيب رضي الله عنه قال: “بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة فقالت : إني تصدقت على أمي بجارية ، وإنها ماتت ، فقال وجب أجرك، وردها عليك الميراث. قالت: يا رسول الله إنها كان عليها صوم شهر، أفأصوم عنها ؟ قال: صومي عنها، قالت: إنها لم تحج ، أفأحج عنها؟ قال: حجي عنها”.

وبين لنا الصادق الأمين أن الإحسان إلى الأم يرفع الإنسان إلى درجة الغازي المجاهد في سبيل الله، وكمن حج واعتمر روى أبو يعلى والطبراني: أن رجلا قال يا رسول الله إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه فقال: “هل بقي من والديك أحد ؟ قال أمي، قال فاتق الله في برها ، فإذا فعلت ذلك فأنت حاج و معتمر ومجاهد”.

فضائل بر الوالدين

– أنه سبب في نيل رضى الله تعالى، عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “رضى الله في رضى الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين” [رواه الترمذي].

– يزيد في عمر الإنسان، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أن الله تعالى يزيد في عمر الرجل ببر والديه” (كنز العمال).

– سبب في دخول العبد البار إلى الجنة، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: “من أصبح والداه راضيين عنه أصبح وله بابان مفتوحان الى الجنة. ومن أمسى والداه راضيين عنه أمسى وله بابان مفتوحان من الجنة”.

– سبب في انفراج المحن واستجابة الدعاء، ونذكر هنا قصة الثلاثة الذين حوصروا داخل غار في جبل، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “بينما ثلاثة نفر يمشون أخذهم المطر فآووا إلى غار في جبل فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فانطبقت عليهم فقال بعضهم لبعض انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله فادعوا الله بها لعله يفرجها عنكم قال أحدهم اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران ولي صبية صغار كنت أرعى عليهم فإذا رحت عليهم حلبت فبدأت بوالدي أسقيهما قبل بني وإني استأخرت ذات يوم فلم آت حتى أمسيت فوجدتهما ناما فحلبت كما كنت أحلب فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما وأكره أن أسقي الصبية والصبية يتضاغون عند قدمي حتى طلع الفجر فإن كنت تعلم أني فعلته ابتغاء وجهك فأفرج لنا فرجة نرى منها السماء ففرج الله فرأوا السماء”.

– ببر الوالدين ننال الدرجات العلى عند الله تعالى، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه: “العبد المطيع لوالديه ولربه في أعلى عليين”.

نماذج خالدة لبر الولدين

نجد في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة والمثل الرائع في البر بالوالدين. في حديث مرسل عند أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا يوما، فأقبل أبوه من الرضاعة، فوضع له بعض ثوبه، فقعد عليه. ثم أقبلت أمه من الرضاعة فوضع لها شق ثوبه من الجانب الآخر فجلست عليه. ثم أقبل أخوه من الرضاعة فقام النبي صلى الله عليه وسلم فأجلسه بين يديه.

قال أبو بردة: “إن رجلاً من أهل اليمن حمل أمه على عنقه، فجعل يطوف بها حول البيت، وهو يقول: إني لها بعيرها المدلل، إذا ذعرت ركابها لم أذعر، وما حملتني أكثر. ثم قال: أتراني جزيتها؟ فقال ابن عمر رضي الله عنهما: لا، ولا بزفرة واحدة من زفرات الولادة).

وكان زين العابدين كثير البر بأمه، حتى قيل له: إنك من أبرّ الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة؟ فرد عليهم: “أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها؛ فأكون قد عققتها”. وسئل أبو عمر عن ولده ذر فقيل له: كيف كانت عشرته معك؟ فقال: “ما مشى معي قط في ليل إلا كان أمامي، ولا مشى معي في نهار إلا كان ورائي، ولا ارتقى سقفاً كنتُ تحته”.

وعن ابن عون المزني أن أمه نادته، فأجابها، فعلا صوتُه صوتَها فأعتق رقبتين. وعن أبي مُرَّة مولى أم هانئ بنت أبي طالب أنه ركب مع أبي هريرة إلى أرضه بـ(العقيق) فإذا دخل أرضه صاح بأعلى صوته: السلام عليك ورحمة الله وبركاته يا أماه، تقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، يقول: رحمك الله كما ربيتني صغيرًا، فتقول: يا بني! وأنت فجزاك الله خيرًا ورضي عنك كما بررتني كبيرًا.

بر لا ينقطع

لا ينقطع بر الوالدين حتى بعد موتهما، روى مسلم عن ابن عمر أن رجلا من الأعراب لقيه بطريق مكة فسلم عليه عبد الله بن عمر وحمله على حمار كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه، قال ابن دينار: فقلت له: أصلحك الله إنهم الأعراب وهم يرضون باليسير، فقال عبد الله بن عمر: إن أبا هذا كان ودا لعمر بن الخطاب. وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن أبر البر صلة الولد ود أبيه”، وفي حديث آخر قال عليه السلام: “من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه بعده” [رواه ابن حبان في صحيحه].

ويروى أن رجلا من بني سلمة قال: “يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما بعد موتهما؟ فقال: نعم. الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاد عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما”.

ولا فرق بين بر الوالدين اللذين كانا سببا في وجودنا الطيني وبر الوالد الروحي الذي كان سببا لولادتنا القلبية، لذلك وجبت صلته والإحسان إليه وبر أصدقائه من بعده.

“بر يمحو الذنوب”

نشر رسول الله صلى الله عليه وسلم الوصية وبسطها لتشمل الأم وأقرباء الأم والأب وأصدقاء الأب. يبر بهما بعد موتهما. جاء رجل إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: “يا رسول الله؟ إني أصبت ذنبا عظيما فهل لي من توبة؟ فقال: هل لك من أم؟ قال: لا، قال: هل لك من خالة؟ قال: نعم، قال: فبرها” [رواه الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما].

“أنت ومالك لأبيك”

روى ابن ماجة والبزار والطبراني والبيهقي عن جابر: أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “يا رسول الله إن لي مالا وولدا وإن ابي يريد يجتاح مالي، فقال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: أنت ومالك لأبيك”.

وفقنا الله المتفضل إلى البر بهما والإحسان إليهما.